كلنا رجعيون

كتبه: عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

ذم أم مدح

لا يفتأ دعاة الفتنة والتغريب والإفساد في الأرض عن وصف الالتزام بدين الله -تعالى- بصفة عامة، والحجاب بصفة خاصة أنه رجعية، وهي كلمة تقال عند القوم للذم كما هو واضح، مع أنها كلمة لا تتضمن مدحاً ولا ذماً في ذاتها، وإنما يلحقها المدح والذم بحسب هذا المرجوع إليه، فإن كان حقاً كان الرجوع إليه فضيلة كما في المثل السائر على ألسنة الناس: “الرجوع إلى الحق فضيلة”، وفي الحديث: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم إلى أن تراجعوا دينكم).
وأما أن يرجع الإنسان إلى الباطل بعد إذ أخرجه الله منه فهذه هي الرجعية المذمومة: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض)،(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)، ومن تأمل هذه الآية علم أي الأمور أولى بوصف الرجعية المذمومة: الحجاب أم التبرج؟؟
ولنضرب لذلك مثلاً: تصور نهراً يجري بالماء العذب الزلال، يمر في طريقه بالأوساخ والقاذورات، وأردت أنت أن تترك هذا الماء الكدر وترجع إلى النبع الصافي قبل أن يتكدر، هل يكون هذا رجوعاً مذموماً في عرف أحد من العقلاء؟؟

فترة ذهبية

إن لكل شخص ومن باب أولى لكل أمة فترة ذهبية قد تكون الحاضرة، وقد تكون فترة أخرى مرت بها، ثم زحزحت عنها لسبب أو لآخر، فهي تسعى إلى أن تعود إليها، وبالنسبة لنا نحن المسلمين فلا نظن أنه يوجد في من ينتسب إلى الإسلام أحد يجرؤ أن ينكر أن الفترة الذهبية في حياتنا نحن المسلمين هي فترة البعثة المحمدية التي فاض بها نور الوحي مبدداً الظلام الذي كان يعم الأرض قبلها، وكل الفترات التي تلت تلك الفترة إنما يعتبر حسنها وقبيحا، خيرها وشرها بمقياس تلك الفترة يدل على ذلك حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: (قلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟…)الحديث، ومنه يتضح بجلاء كيف كانت نظرة حذيفة -رضي الله عنه-، وكذا ينبغي أن تكون نظرة كل مسلم لمقياس الخير والشر.
ولإدراك المنافقين لهذه الحقيقة وعدم قدرتهم على التصريح بذم الرجوع إلى ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فإنهم يشغبون بأمرين:
أولهما: أن ينسبوا إلى الدعاة إلى الله أنهم يطالبون بالرجوع إلى الوسائل الدنيوية التي كانت في عهده -صلى الله عليه وسلم-، فوالله لو خُيِّرنا بين إيماننا وأخلاقنا وعفة نسائنا، وبين السيارات والطائرات وأجهزة الكمبيوتر لاخترنا الأولى بغير ما تردد، فكيف إذا لم يكن الأمر كذلك بفضل الله -تعالى- (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(لأعراف: من الآية32).
وفي الواقع أن القوم هم الذين يفرضون هذا الاختيار المتعسف، فعندنا لا تعارض بين الحجاب وركوب الطائرة مثلاً، بينما هم يعرضون الأمر إما “الحجاب والجمل” وإما “العُري والطائرة” وهو منهم تضليل وكذب ظاهر لا يخفى.
وأما الحيلة الثانية: فهو أنهم متى أرادوا أن يذموا الرجوع إلى شيء من الدين نسبوا هذا الشيء إلى الفقهاء، ثم وعلى طريقة “رمتني بدائها وانسلت” يكيلون التهم لهؤلاء الفقهاء الذي شرعوا للمسلمين ما لم ينزل الله به سلطاناً من الستر والعفاف، ناسبين إلى الله -عز وجل وتعالى عما يقولون علواً كبيراً-أنه أذن للناس أن يعيشوا حياة البهائم التي يريدها هؤلاء، مستغلين في ذلك جهل الناس بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبتراث هؤلاء الأئمة الذين قال كل منهم: “إذا وجدتم قولي يخالف قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فاضربوا بقولي عرض الحائط”، ناهيك أن معظم القضايا التي يشغب حولها هؤلاء العلمانيون هي داخلة في نطاق المعلوم من الدين بالضرورة التي جاءت بها الأدلة القطعية كتاباً وسنة، وأجمع عليها علماء الأمة.

وثمة رجعية أخرى

ومن عجيب حال هؤلاء العلمانيين أنهم يطالبوننا "بالتقدم"لذي هو ضد"الرجعية"اتباعا لسنة الأوربيين، ويجهلون أو يتجاهلون أن أوربا وإن كانت ترى في الرجوع إلى العصور الوسطى المنسوبة إلى الكنيسة وظلمها ووقوفها في وجه العلوم الدنيوية رجعية مذمومة منهم في ذات الوقت قد رجعوا إلى الفلسفة اليونانية والرومانية التي هي أقدم بكثير من هذه العصور النصرانية، وما الديموقراطية (لاحظ أنها كلمة يوناينة)، وما تفرع عنها من نظم إلا شاهد على ذلك، إذن فالقوم رجعوا إلى أفكار ونظم ومناهج المراحل التي يرونها هي المرحلة الذهبية في تاريخهم، فكلنا رجعيون نحن المسلمين نرجع إلى مثل ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، والأوربيون يرجعون إلى مثل ما كان عليه أفلاطون وأرسطو.
وأما أنتم معشر من ظاهرهم معنا وباطنهم مع غيرنا فكنتم أشقى الناس حيث أنكم رجعيون أيضاً، ولكن إلى سبيل غيركم، رجعيون ولكن إلى مناهج ما جاء الدين الذي تنتسبون إليه إلا ليمحوها ويأتي بما هو خير منها، فكنتم في دعوتكم قومكم إلى الرجوع إليها من أحق الناس بوصف من بدل نعمة الله كفراً، وأحل قومه دار البوار.
وثمة رجعية أخرى هي أكثر رسوخاً في نفس البشرية وأشد أثراً وهي محاولة الإنسان أن يعود إلى أصله الأول.
وفي دين الله تعلم أن الله خلق آدم -عليه السلام- ليجعله وذريته خلائف الأرض، ومع هذا خلقه في الجنة ليعلم أنه خلق في الجنة وللجنة، وفي دين الله نعلم أن أبا البشر كان أتمهم خلقة، وأنه كان على التوحيد الخالص، وأن ربه علمه الأسماء كلها.
وباختصار فالمؤمنون يتشبهون بعقيدة وأخلاق أبيهم آدم راجين من الله -عز وجل-أن يعيدهم ديارهم الأولى في الجنة، ولا يتم ذلك إلا بالرجوع الذي ذكرناه آنفاً إلى كتاب الله وسنة رسوله، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى.)

فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم.

وأما القوم فاستحوذ عليهم الشيطان فهم يظنون أن أباهم الأول كان قرداً، ولعله كان قبل أن يكون قرداً كان جرثومة في ماء آسن، ولذلك تجد لدى القوم رغبة عارمة في محاكاة سلوك من ظنوهم أجدادهم، فإذا ما اعتصمنا بدين الله قالوا لنا هذه رجعية، مع أننا وهم شركاء في الرجعية. نحن نريد أن نرجع إلى حال أبينا آدم في الجنة عن طريق إتباع هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهم يريدون أن يرجعوا إلى من ظنوه أباهم الأول “القرد” عن طريق إتباع فلسفة داروين وفرويد.فأي الفريقين أهدى حالاً وأهدى سبيلاً؟؟؟

www.salafvoice.com
موقع صوت السلف