مقالات في السيرة النبوية(5)

[CENTER]المقال الخامس:

5-بدء الوحي[/center]


[FONT=Simplified Arabic][SIZE=3]

[/size][/font]بَلَغَ النبي-صلى الله عليه وسلم- أشُدَّه، وقَرُب من الأربعين، واكتملت قواه العقلية والبدنية، وكان أول ما بدأ به من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مِثْلَ فَلَق الصبح واضحة كما رآها في منامه.
اختلاؤه بغار حراء، ونزول الوحي عليه: ثم بعد ذلك حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بنفسه في غار حراء في مكة، فيتعبد الله الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بالطعام والشراب، حتى جاءه الحق، وهو على هذا الشأن بنزول القرآن عليه في شهر رمضان، وذلك بأن تَمَثَّل له المَلَكُ جبريل، ولقَّنَه عن ربِّه أول ما نزل من القرآن، فقال: (اقْرَأْ) فقال: “ما أنا بقارئ” فقال له: (اقْرَأْ) فقال: “ما أنا بقارئ” فقال: (اقْرَأْ) فقال: “ما أنا بقارئ” وكان جبريل بعد كل جواب من الأجوبة الثلاثة يضمه على صدره، ويعصره حتى يبلغ منه الجهد.
ولما تركه جبريل في المرة الثالثة ألقى عليه أول آيات أُنزلت من القرآن، وهي (اقْرَأْ بِاسْم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّك الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق 1-5).
بهذه الآيات العظيمة التي تأمر بالعلم، وتبيِّن بداية خلق الإنسان - بدأ نزول الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- فرجع النبي إلى زوجته خديجة يرجف فؤاده، ولكنه حفظ رشاده، فقال: “زملوني زملوني” يعني: لففوني بالثياب، ففعلوا، حتى إذا ذهب عنه الروع، أخبر خديجة الخبر، وقال: “لقد خشيت على نفسي”.
فقالت خديجة -رضي الله عنها-: “كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتُكْسِبُ المعدوم، وتُقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق”.
وهكذا استدلت هذه المرأة العاقلة على أن من كان هذا شأنه في محبة الخير للناس فلن يخذله الله؛ فسنَّة الله تقتضي بأن الجزاء من جنس العمل.
ثم انطلقت بعد ذلك خديجة بالنبي-صلى الله عليه وسلم- حتى أتت ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصَّر في الجاهلية، ويكتب الإنجيل بالعبرانية، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: اسمع من محمد ما يقول، فقال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس[1] الذي أُنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -أي شاباً- ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “أَوَ مُخْرِجيَّ هم؟” قال: نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومُك أَنْصُرْك نصراً مؤزراً، ثم توفي ورقة، وفتر الوحي[2].
واستمرت فترة الوحي ثلاث سنين، قوي فيها استعداد النبي، واشتدَّ شوقه وحنينه.
قال -صلى الله عليه وسلم-: “بينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض؛ فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني”[3].
وذكر أنه رعب منه، ولكن ذلك دون الرَّعبة الأولى، فرجع إلى أهله فتزَمَّلَ، وتَدَثَّرَ -أي: تغطى بالثياب-.
ثم أنزل الله عليه قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر).
أي: يا أيها الذي تدثر بثيابه قم فأنذر الناس بالقرآن، وبلغهم دعوة الله، وطهر ثيابك وأعمالك من أدران الشرك، واهجر الأصنام، وتبرأ من أهلها.
تتابع الوحي، وقيامه بالدعوة: ثم حمي الوحي بعد ذلك، وتتابع، وبلَّغ -صلى الله عليه وسلم- دعوة ربه، حيث أمره وأوحى إليه بأن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، وإلى دين الإسلام الذي ارتضاه الله، وختم به الأديان؛ فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن[4].
فاستجاب له أول من استجاب: خديجة من النساء، وأبو بكر الصديق من الرجال، وعلي بن أبي طالب من الصبيان، ثم توالى دخول الناس في دين الله، فاشتدَّ عليه أذى المشركين، وأخرجوه من مكة، وآذوا أصحابه أشدَّ الأذى، فهاجر إلى المدينة، وتتابع عليه نزول الوحي، واستمر في دعوته، وجهاده، وفتوحاته، حتى عاد إلى مكة ظافراً فاتحاً.
وبعد ذلك أكمل الله له الدين، وأقرَّ عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين، ثم توفاه الله وعمره ثلاث وستون سنة، أربعون منها قبل النبوة وثلاث وعشرون نبياً رسولاً[5].
وبه ختم الله الرسالات السماوية، وأوجب طاعته على الجن والإنس؛ فمن أطاعه سعد في الدنيا، ودخل الجنة في الآخرة، ومن عصاه شقي في الدنيا، ودخل النار في الآخرة.
وبعد ما توفاه الله -عز وجل- تابع أصحابه مسيرته، وبلَّغوا دعوته، وفتحوا البلدان بالإسلام، ونشروا الدين الحق حتى بلغ ما بلغ الليل والنهار.
ودينه -صلى الله عليه وسلم- باقٍ إلى يوم القيامة.
فما القول في أميّ نشأ بين أميين، قام بذلك الإصلاح الذي تغيَّر به تاريخ البشر أجمعين: في الشرائع، والسياسات، وسائر أمور الدنيا والدين؟ وامتدَّ مع لغته في قرن واحد من الحجاز إلى آخر حدود أوربا وأفريقيا من الغرب، وإلى حدود الصين من جهة الشرق حتى خضعت له الأمم، ودانت له الدول، وأقبلت إليه الأرواح قبل الأشباح، وكانت تتبعه في كل فتوحه الحضارةُ، والمدنيةُ، والعدل والرحمة، والعلوم العقلية والكونية على أيدي تلك الأمة الحديثة العهد بالأمية، التي زكَّاها القرآن، وعلَّمها أن إصلاح الإنسان يتبعه إصلاح الأكوان؛ فهل يمكن أن يكون هذا إلا بوحي من لدن حكيم عليم، وتأييد سماوي من الإله العزيز القدير الرحيم؟[6].

23/5/1428هـ


[1] الناموس: صاحب سر المَلِك، قال بعضهم: هو صاحب سر الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر. انظر الروض الأنف 1/408.

[2] انظر صحيح البخاري (4953) ومسلم (161) والروض الأنف 1/396، وخلاصة السيرة ص19-20.

[3] البخاري (3238) وانظر الروض الأنف 1/420-422.

[4] انظر خلاصة السيرة ص21.

[5] انظر جوامع السيرة ص6-7.

[6] انظر خلاصة السيرة ص30-31.

محمد بن إبراهيم الحمد