مقالات في السيرة النبوية(9)

[CENTER]المقال التاسع:

تعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع المخالفين المسالمين[/center]




[FONT=Simplified Arabic][SIZE=3][COLOR=#000080]

[/color][/size][/font]فهؤلاء يحرص على هدايتهم، ويلقاهم بالأدب الجميل، ويقسط إليهم، ولا يهضم لأحد منهم حقاً، ويأخذ فيهم بأدب قوله -تعالى-: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8).
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومنها ما جاء في صحيح البخاري عن أنس-رضي الله عنه-قال: "كان غلام يهودي يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فمرض، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: “أسلم”.
فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم فأَسْلَمَ، فخرج النبي-صلى الله عليه وسلم- وهو يقول:الحمد لله الذي أنقذه من النار”[1].
ثم إن حسن معاملته -عليه الصلاة والسلام- للمخالفين الذين دخلوا معه في عهده، أو رضوا بأن يعيشوا تحت راية الإسلام من أوضح الشواهد على سماحة الدين الحنيف وبنائه على رعاية قاعدتي الحرية وتوطيد السلام؛ فراية الإسلام صالحة لأن تخفق على رؤوس أمم مختلفة في عقائدها، متفاوتة على مرافق حياتها.
وقد جرى أمراء الإسلام العادلون هذه السيرة في معاملة أهل الذمة؛ فكانوا ينصحون لنوابهم بالعدل، ويخصون أهل الذمة في نصيحتهم بالذكر.
وأحسن مثل على هذا كتاب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى عمرو بن العاص -رضي الله عنه- وهو يومئذ الوالي على مصر.
ومما جاء في هذا الكتاب: “وإن معك أهلَ ذمةٍ وعهد، وقد وصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بهم”.[2]
ومنه "وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: “من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة”[3].
احذر يا عمرو أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك خصماً؛ فإنه من خاصمه خصمه".
من الأحاديث الثابتة في هذا الصدد قوله -صلى الله عليه وسلم-: “من قذف ذمياً حد له يوم القيامة بسياط من نار”.[4]
فانظروا إلى مكانة العهد في نظر الإسلام، وزنوها بمعاهدات يأخذ فيها بعض الأقوياء على أنفسهم احترام حقوق شعب إسلامي حتى إذا أمسكوا بناصيته لم يستحيوا أن يعبثوا بالأرواح، وتجول أيديهم في الأموال، ويعملوا جهدهم على أن يقلبوهم إلى جحود بعد إيمان، ويغضبون بعد هذا كله على من يسميهم أعداء الإنسانية، وقابضي روح الحرية.
لقد أدرك الفقهاء رعايةَ شارعِ الإسلامِ لأهل الذمة، وحرصَه على احترام حقوقهم؛ فاستنبطوا من أصوله أحكاماً جعلوا المسلم وغير المسلم فيها على سواء.
من هذه الأحكام أنهم أجازوا للمسلم أن يوصي أو يقف شيئاً من ماله لغير المسلمين من أهل الذمة، وتكون هذه الوصية أو الوقف أمراً نافذاً.
ولما قال -صلى الله عليه وسلم-: “لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض[5]” قالوا: البيع على بيع غير المسلم الداخل في ذمة الإسلام كالبيع على بيع المسلم.
والخطبة على خطبته كالخطبة على خطبة المسلم: كلاهما حرام.
وإذا ذكر الفقهاء آداب المعاشرة نبهوا على حقوق أهل الذمة، وندبوا إلى الرفق بهم، واحتمال الأذى في جوارهم، وحفظ غيبتهم، ودفع من يتعرض لأذيتهم.[6]
قال شهاب الدين القرافي -رحمه الله- في كتاب الفروق: "إن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا؛ لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا وذمة الله -تعالى- وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك - فقد ضيع ذمة الله -تعالى- وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وذمة دين الإسلام.
وكذلك حكى ابن حزم -رحمه الله- في مراتب الإجماع: أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه - وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك؛ صوناً لمن هو في ذمة الله -تعالى- وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة".[7]

محمد بن إبراهيم الحمد



[1] البخاري (1356).

[2] كنز العمال، للهندي (14304).

[3] أخرجه أبو داود في سننه (3052) بلفظ: “ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه يوم القيامة”.

[4] أخرجه الطبراني في الكبير (135).

[5] أخرجه مسلم (1412).

[6] انظر رسائل الإصلاح، للشيخ محمد الخضر حسين، ص120-122، ومحمد رسول الله وخاتم النبيين ص103.

[7] الفروق للقرافي 3/14، وانظر أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي، لنمر محمد الخليل نمر ص127-161، وأهل الذمة في الحضارة الإسلامية، لحسن المِمّي ص101-105، وحقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية د.علي بن عبدالرحمن الطيار.