مقالات في السيرة النبوية (10)

[CENTER]المقال العاشر:

تعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع المخالفين المحاربين
1/2[/center]



[FONT=Simplified Arabic][SIZE=3][COLOR=#000080]

[/color][/size][/font]فهؤلاء يخرج لهم -عليه الصلاة والسلام- في مظهر الحزم والاحتراس، ويدفعهم بالتي هي أحكم وأعدل؛ فيرفق بهم إن كان هناك موضع للرفق، ويأخذ فيهم بسنة الحزم إن طغى بهم الشر؛ فلم يكن الرفق ليزيدهم إلا تمرداً.[1]
فإذا أذن -صلوات الله عليه- بقتل كعب بن الأشرف فلأن كعباً هذا كان شاعراً، وكان يهجو رسول الله، ويحرض عليه كفار قريش، ويفعل بعد هذا شيئاً وهو أشد على قلوب العرب من وقع السهام النافذة، وهو أنه كان يشبب بنساء المسلمين.
وقد احتمل منه النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الأذى حيناً، ولما أبى كعب أن ينزع عن إثارة هذه الفتن أذن لأحد الأنصار في قتله؛ ليميط عن سبيل الدعوة إلى الله حية تسعى، ويدفع عن أعراض المسلمين شعراً مقذعاً.
ومن ذا يجهل أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- قد أفاض على العالم حكمة وهداية وإصلاحاً، وما الحسام الذي يأمر بانتضائه إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد حرصاً على صحته وسلامته.
ومن تقصى السيرة النبوية وجد فيها ما يصدق قول عائشة -رضي الله عنها-: “ما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله”.[2]
فمحمد -عليه الصلاة والسلام- لم يقاتل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون حرصاً على حياته، وإنما كان يقاتلهم حرصاً على حياة الفضيلة، وظهور الحق، وإقامة نظم المدنية المهذبة، ولكن الناشئين على اللهو واتباع الشهوات لا يفقهون.[3]
فما الذي كان يريده المفترون على محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يفعل بعد ما ألح عليه العدوان هكذا, حتى كاد يأتي عليه.
إن الدنيا لَتَعرف كيف تَكتَّلَ الكفار ضده في شعب أبي طالب ذلك الحصار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المشهور الذي أنزل بمحمد وصحبه وبعض قرابته من الضُّر ما آذاهم حتى أكل بعضهم يوماً من الجوع أوراق الشجر.
ولولا أن الله عَطَّف عليه قلوبَ بعض الكرام لبلغ الكفار مرادهم، مما أكره الرسول-صلى الله عليه وسلم-على الإذن لصحبه بالهجرة الكبرى إلى المدينة.
ثم أدركهم بعدها صبيحة الليلة التي جمع الكفارُ فيها من كل قبيلة فتىً، وقرروا أن ينُهْوا حياته بالسيف؛ حتى يضيع في القبائل دمه، وما تقوى على حربهم قريش.
فأي صبر كانوا ينتظرون من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فوق هذا الصبر؟ وكيف تكون الموادعةُ بعد هذا سبيلَ التفاهمِ من أناس رفعوا عليه السيف, ولم يَحْمِهِ منه أحدٌ غيرُ رعايةِ الله له؟!
إن صبر محمد -صلى الله عليه وسلم- على قومه حتى هذا المدى لهو آية الآيات على عظمة التسامح والمسالمة عند محمد، وإرخائه العِنان لقوم لم يكونوا يستحقون سوى الكبريت والحطب.
لقد سَالَمَ محمدٌ المشركين , وجاوز حدود الصبر, فما أجدت المسالمة, ولا أفاد الصَّبرُ, وأصبح الاستمرار عليهما مما لا يتفق ومنطقَ الحياة, ومما لا يتفق -كذلك- ومنطقَ النبي الذي جاء قوياً كفرسان العرب, عظيماً في حسبه ونسبه وفضائله, والذي جاء قبل هذا ليكون رسولَ حياةٍ يخاطب أهلها بما يفهمون.
إنْ لقيه الناس بالإحسان فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وإن كانت الأخرى فَدِيْنُ محمدٍ فيه ترياقُ السموم، وقرعُ الحديد بالفولاذ.
ومن عَجَبٍ أن ما اتخذه محمد -صلوات الله عليه- سلوكاً لنفسه، وطريقاً لحماية دعوته منذ القرون الطوال هو نفسه الطريق الذي آثرته البشرية دون غيره لضمان البقاء.
ولو خضع الناس، وأداروا خدودهم اليسرى لمن يصفعهم على اليمنى لما قام على وجه الدنيا أحدٌ في وجه ظالم, ولعاش الطغاة أعمارهم محفوفين بالإجلال والإعظام.
ولو قال أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- مقالة أصحاب موسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24) لما قُدِّرَ للحياة أن تفيد من أسرار هذا الدين العظيم الذي لا يوجد لمشكلات عالم اليوم من حلول أفضل مما فرضها لها دين محمد -صلى الله عليه وسلم-![4]


د. محمد بن إبراهيم الحمد



[1] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص103.

[2] أخرجه الحاكم في مستدركه (4223) وأحمد في مسنده (25029).

[3] انظر حدائق الأنوار 1/44 و 2/509، ومحمد رسول الله وخاتم النبيين ص104، ومحمد رسول الله لمحمد رضا ص230.

[4] انظر مقال نبي الملحمة للأستاذ عبدالصبور مرزوق في كتاب محمد رسول الله لأحمد تيمور باشا ص181-185