مقالات في السيرة النبوية(11)

[CENTER]المقال الحادي عشر:

تعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع المخالفين المحاربين
2/2[/center]



[FONT=Simplified Arabic][SIZE=3][COLOR=#000080]

[/color][/size][/font]


[FONT=Simplified Arabic][SIZE=3][COLOR=#000080][/color][/size][/font]
وإذا جنح -عليه الصلاة والسلام- إلى خيار الحرب؛ فهل يعني ذلك أن يتجرد من الرحمة، ويكون هدفُه الأولُ والأخير سفكَ الدماءِ دون مراعاة لعهد أو حرمة؟
لا، إن الحرب في شرعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها آداب، وأحكام محفوفة بالرفق، والرحمة.
فمن الرفق الذي أقام عليه الإسلام سياسته الحربية أنه منع من التعرض بالأذى لمن لم ينصبوا أنفسهم للقتال كالرهبان، والفلاحين، والنساء، والأطفال، والشيخ الهرم، والأجير، والمعتوه، والأعمى، والزَّمِن.
ومن الفقهاء من لا يجيز قتل الأعمى، والزَّمِن ولو كانا ذوي رأي في الحرب وتدبير.
ولا يجوز قتلُ النساءِ وإن استعملن لحراسة الحصون أو رمين بنحو الحجارة، ودليل هذا قوله -تعالى-: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) (البقرة:190) فجعل القتال في مقابلة القتال.
ونبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن من لا يقاتل لا يقتل، حين وجد امرأة في بعض الغزوات قتيلة؛ فأنكر ذلك، وقال: “ما كانت هذه لتقاتل!” [1]
وإذا وضع المحاربون الأطفال والنساء أمامهم، وجب الكف عن قتالهم، إلا أن يَتَّخِذوا ذلك ذريعة للنصر علينا، ونخشى أن تكون دائرة السوء على جندنا.
ولا يجيز الإسلامُ التمثيلَ بالمحارب، قال -صلى الله عليه وسلم-: “ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً”[2].
وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “أعفُّ الناس قِتلةً أهلُ الإيمان”[3].
ويمنع من حمل الرؤوس من بلد إلى بلد، أو حملها إلى الولاة، وقد أنكر أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- هذا؛ فقد روى البيهقي عن عقبة بن عامر الجهني أن عمرو ابن العاص، وشرحبيل بن حسنة بعثا عقبة بريداً إلى أبي بكر الصدِّيق -رضي الله عنه- برأس يناق بطريق الشام؛ فلما قدم على أبي بكر أنكر ذلك، فقال له عقبة: يا خليفة رسول الله فإنهم يصنعون ذلك.
قال أبو بكر: أفَاسْتِنانٌ بفارس والروم؟
لا يحمل إليَّّ رأسٌ، وإنما يكفي الكتاب والخبر.[4]
وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين وسمرة بن جندب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عن المُثْلة.[5]
والمثلة: تعذيب المقتول بقطع أعضائه، وتشويه خلقه قبل أن يُقتل أو بعده، وذلك كأن يجدع أنفُه، أو تصلم أذنُه، أو تفقأ عينُه، وما أشبه ذلك من أعضائه.[6]
ولم يشرعِ الإسلامُ للأسير حكماً واحداً، بل جعل أمره موكولاً إلى الأمير الذي يقدر مصلحة الحرب، وله أن يخلي سبيله بفداء أو بغير فداء.
ومن أدب الحرب في الإسلام الوفاءُ بتأمين المحارب؛ فإذا أعطى أحدُ الجند الأمان لأحد المحاربين، وجب احترام هذا التأمين، ولا يجوز لأحد أن يتعرض لذلك المحارب بأذى.
وإلى هذا يشير قوله -صلوات الله عليه-: “ويسعى بذمتهم أدناهم”.[7]
وقد أمضى النبي -صلى الله عليه وسلم- تأمين أم هانئ بنت أبي طالب لرجل من المشركين، وقال لها: “قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ”.[8]
وحدث في عهد عمر بن الخطاب أن عبداً أَمَّن أهل بلد بالعراق، فكتب قائد الجيش وهو أبو عبيدة إلى عمر يأخذ رأيه في هذا التأمين، فكتب إليه عمر: “إن الله عظّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا؛ فوفوا لهم وانصرفوا عنهم”.[9]
ومن آداب الحرب في الإسلام، ومما يُجَلِّي معنى الرفق والرحمة مجاملةُ رسل العدو، وترك التعرض لهم بأذى؛ فقد يأتي رسول العدو في شأن الصلح أو غيره مما فيه تخفيف شر الحرب؛ فمن حسن الرأي أن لا يُتَعَرَّض للرسل بأذى، وأن يكونوا في أمن حتى يعودوا إلى قومهم؛ فإن التعرض لهم بأذى يقطع صلة الرسالة بين الفريقين، ويسد طريق المفاوضات التي يُتَوسَّل بها إلى عدم الدخول في الحرب، أو إنهائها إذا كانت ناشبة.
ومكارم الأخلاق تأبى أن يُتَعَرَّض لرسول بأذىً ولو أرسله قومه لإبلاغ ما عزموا عليه من محاربتنا، أو صدر منه كلام في تعظيم أمر قومه بقصد الفخر أو الإرهاب.
وقد جرى نظام الإسلام في الحرب على هذا الأدب المقبول.[10]
قدم أبو رافع بكتاب من قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى رسول الله ألقِيَ في قلبه الإسلام، فقال: يا رسول الله: إني -والله- لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أما أني لا أخيس بالعهد، ولا أحبسُ البُرُدَ، ولكن ارجع فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن، فارجع”.
قال: فرجعت، ثم أقبلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأسلمت.[11]
هذه نبذة من خلق الرحمة التي كانت تصاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- في حروبه، تلك الرحمة التي غَيَّرت نظرةَ الناس من بعده للحرب؛ إذ نظرتهم تعني أن مبدأ الشفقة مناقض للحرب التي تعني الكُلوحَ، والعبوس، والقسوة بكل حال.
وبخاصة ما نراه اليوم من حروب هذا العصر التي تأكل الأخضر واليابس، وتتسم بالوحشية، ولا تعرف الرحمة لا في أثنائها ولا بعد نهايتها.
غير أن الناظر في تاريخنا المجيد، وسيرة نبينا الأعظم يجد هذا المعنى لائحاً واضحاً -كما مر- ويراه -كذلك- بعد نصره -صلى الله عليه وسلم-، وتمكنه من الأعداء الذين ناصبوه العداوة، ولم يَدَعوا طريقاً في سبيل إيذائه إلا وسلكوه.
وإذا أردت مثالاً يثبت فؤادك فانظر إلى ما كان منه -عليه الصلاة والسلام- يوم فتح مكة الذي حصل بعد صراع مرير، وبعد أن فعلوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ما فعلوا.
فعندما انتصر عليهم، وأحاط بهم إحاطة السِّوار بالمِعْصم، وظنت قريش الظنون؛ لعلمهم بسوء صنيعهم السابق، وحسبوا أنه سيدخل مكة دخول الجبابرة والطغاة مزهواً منتقماً - فاجأهم بأن جاء متواضعاً متخشعاً لربه، غير مَزْهوٍّ بنصره، ولا شامت بأعدائه.
وعندما رأى قريشاً وهم يتوقعون الإجهاز عليهم، ورأى جموع الصحابة وعيونهم تَتَلَمَّظُ تَلَمُّظَ الحيَّات وهم ينتظرون أدنى إشارة من النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يبيدوا خضراء قريش - قال النبي -عليه الصلاة والسلام- مخاطباً قريش: "ما تظنون أني فاعل بكم؟"
قالوا: أخ كريم وابن أخٍ كريم.
قال: “فاذهبوا فأنتم الطلقاء”.[12]
ولقد كان لتحلِّي المسلمين بأدب الحرب من الرحمة والسماحة أثر بالغ في نفوس كثير من أعدائهم؛ حيث أعجبوا بدين الإسلام، ونبيِّه، ورحمةِ أهله، وحسنِ معاملتهم.
بل لقد وجدوا عدلاً ورحمة لم يجدوها عند بني ملتهم، مما حدا بكثير منهم إلى الدخول في الإسلامِ، والحوادثُ في هذا السياق لا تكاد تحصى.
وإن تعجب بعد هذا كله فاعجب من صنيع كثير من الظالمين البعيدين كل البعد عن العدل، وحقائق التاريخ، ممن يصفون دين الإسلام ونبيه وأهله بالقسوة والهمجية، والتطرف والإرهاب إلى غير ذلك مما هو محض افتراء، ومحاولة للصد عن دين الإسلام.
والحقيقة الماثلة للعيان تقول بأن الإسلام دين الرحمة، والرفق، والتسامح؛ فماذا فعل المسلمون حين انتصروا على خصومهم؟ هل تكبَّروا، وتسلطوا، واستبدوا؟ وهل انتهكوا الأعراض، وقتلوا الشيوخ، والنساء، والأطفال؟
ماذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما انتصر على خصومه الذين كانوا يؤذونه أشد الأذى؟ ألم يكن يصفح عنهم؟ ويمنَّ عليهم بالسبي والأموال؟
وماذا فعل المسلمون عندما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا وغدروا؟ هل تعرَّضوا للنساء؟ وهل أساؤوا للرهبان في الأديرة؟ وهل عاثوا في الأرض فساداً؟ وهل هدموا المنازل، وقطعوا الأشجار؟
وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على الصليبيين الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، ونكَّلوا بهم أيَّما تنكيل؟ فماذا فعل بهم صلاح الدين لما انتصر عليهم؟ ألم يصفح عن قائدهم؟ ويعالجه؟ ويطلق سراحه؟
وماذا كانت أحوال أهل الذمة في بلاد المسلمين عبر العصور المتطاولة إلى يومنا هذا؟ ألم يكونوا ينعمون بالأمان، والعدل، والإحسان؟
ألم يجدوا من عدل المسلمين وإحسانهم ما لم يجدوه من بني جلدتهم؟
فهذه المواقف النبيلة وأمثالها كثير في تاريخ المسلمين، مما كان له أبلغ الأثر في محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.
أفغير المسلمين يقوم بهذا؟ آلغرب يقدم مثل هذه النماذج؟
الجواب ما تراه، وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين، وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوربا هي التي أخرجت هؤلاء وأمثالهم من الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، ولاقت منهم البشرية الويلات إثر الويلات؟
ألا يعد أولئك هم طلائع حضارة أوربا؟ فَمَنِ الهمج القساة العتاة إذاً؟
ومَنِ المتطرفون الإرهابيون حقيقة؟
ثم مَنِ الذين صنعوا القنابل النووية، والعنقودية، والذرية، والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟
ومن الذين لوَّثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟
ومن الذين يسلكون الطرق القذرة التي لا تمت إلى العدل، ولا إلى شرف الخصومة بشيء؟
من الذين يُعَقِّمون النساء؟ ويسرقون أموال الشعوب وحرياتهم؟ ومن الذين ينشرون الإيدز؟
أليس الغرب، ومن يسير في ركابهم؟
ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة التسلط والإرهاب؟
وماذا حصل في محاكم التفتيش، وما أدراك ما محاكم التفتيش؟
وماذا حصل في بعض السجون كأبي غريب وغيره مما يندى له الجبين؟
هذه هي الحقيقة الواضحة، وهذا هو الإرهاب والتسلط.
ولا يعني ذلك بحال من الأحوال أن يكون غير المسلمين على سُنَّة واحدة من الظلم والتسلط والجبروت، لا بل إن فيهم من هو قائم بالعدل، بعيد عن الظلم.
أما جهاد المسلمين لإحقاق الحق، وقمع الباطل، ودفاعهم عن دينهم، وأنفسهم وبلادهم فليس إرهاباً، وإنما هو العدل بعينه.
وما يحصل من بعض المسلمين من الخطأ في سلوك سبيل الحكمة فقليل لا يكاد يذكر بجانب وحشية الغرب، وتبعته تعود على من أخطأ السبيل ولا تعود على الدين، ولا على المسلمين، ولا يُقَرُّ عليها من قام بها، بل إن أهل الإسلام ينكرون مثل ذلك أشد الإنكار.
وهكذا ينبغي للعاقل المنصف؛ أن ينظر إلى الأمور كما هي بعيداً عن الظلم والتزوير والنظرة القاصرة.
وبعد هذا فإن كان للإنسان من عجبٍ فإنه من الأوربيين، والأمريكان؛ حيث لم يكتشفوا حقيقة الدين الإسلامي وعظمة نبيِّه فيما اكتشفوه، وهو أجلُّ من كل ما اكتشفوه، وأضمن للسعادة الحقيقية من كل ما وصلوا إليه؛ فهل هم جاهلون بحقيقة الإسلام حقاً؟ أو أنهم يتعامون ويصدون عنه؟!
إن كانت الأولى، فهي مصيبة، وإن كانت الثانية فمصيبتان!

د. محمد بن إبراهيم الحمد


[1] أخرجه أبو داود في سننه (2669) وابن حبان في صحيحه (4791).

[2] رواه مسلم (1731).

[3] أبو داود (2666) وابن ماجه (2681).

[4] سنن البيهقي 9/132.

[5] المسند 4/439 و 440 و 460، وأبو داود (2667).

[6] انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/390-392.

[7] أخرجه الحاكم في مستدركه (2623) وأخرجه أبو داود في سننه (4530).

[8] أخرجه البخاري (350 و 3000 و 5806) ومسلم (336).

[9] تاريخ الطبري 3/188.

[10] انظر رسائل الإصلاح 1/117-118، وآداب الحرب في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين ص45.

[11] أخرجه الحاكم في مستدركه (6538) أبو داود في سننه (2758) وأحمد في مسنده (23908).

[12] انظر سنن البيهقي الكبرى 9/118، وفتح الباري لابن حجر 8/18.
وما مضى من أحكام الحرب وآدابها إنما هو نزر يسير مجمل، أما تفاصيل ذلك، واستثناءاته وأحكامه فهي مبثوثة في التفاسير، وكتب الفقه، وشروح الحديث، والكتب التي أفردت في الحرب، والجهاد وما إلى ذلك.
انظر المبسوط للسرخسي 10/5، وشرح فتح القدير لابن الهمام 4/90، والمغني لابن قدامة 9/326، وروضة الطالبين للنووي 10/150، وآداب الحرب للشيخ محمد الخضر حسين، وقواعد الحرب في الشريعة الإسلامية للشيخ عواض الوذيناني.

حد يقولي تفسير الشيخ الشعراوي فين