المرأة والرجل بين المساواة الفطرية والتسوية القسرية

[SIZE=5]أحمد الريسوني

[/size]جعل الله تعالى الكائنات الحية كلها زوجين اثنين، ذكرا وأنثى، بل حتى في النباتات وفي غير ها، هناك ذكورة وأنوثة (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات/49].
وجعل سبحانه الزوجية بين الذكر والأنثى سببا للتلاقح والتوالد، ومظهرا للتكامل والتناسق، ومنبعا للمودة والرحمة والسكينة والسعادة. فالرجل يأنس بالمرأة ويسعد بها، باعتبارها امرأة مختلفة عنه. والمرأة تأنس بالرجل وتسعد به، لأنه رجل مختلف عنها، وبقدر ما تكون المرأة شبيهة بالرجل أو متشبهة به بقدرما تفقد جاذبيتها ومكانتها أمامه وامتيازها عنده. وكذلك الرجل بقدر ما يقترب من المرأة ويتأنث ويتخنث بقدر ما يفقد جاذبيته ومكانته وامتيازه عند المرأة. فالمرأة تميل إلى الرجل وتحتاجه وتريده بقدرما هو رجل مختلف عنها ومكمل لها، وكذلك الرجل يميل إلى المرأة ويريدها ويحتاجها بقدر ما هي امرأة تختلف عنه وتكمله.
وهذا كما ينطبق على الجوانب الحسية والجنسية، فإنه ينطبق على الجوانب العاطفية والنفسية، وعلى الجوانب الوظيفية الاجتماعية.
هذه هي طبيعة الأشياء وهذه هي الفطرة السوية، وهي ما اتفقت عليه الأمم والشعوب وأجمعت عليه الملل والنحل، في كافة الأزمان والعصور، من غابرها إلى حاضرها، ومن شرقها إلى غربها.
ولكن القيم الغربية المسماة اليوم بالكونية ـ وهي قيم يتم فرضها وتغليبها وتعظيمها، لأن صناعها وتجارها هم الغالبون ـ هذه القيم تريد اليوم إبطال كل الفوارق وكل التمايزات بين الرجل والمرأة، إنهم يريدون أن يجعلوا «اثنين في واحد» ؛ فكل ما تتصف به المرأة يجب أن يتصف به الرجل، وكل ما عليه الرجل، يجب أن تكون عليه المرأة، وكل ما يفعله الرجل لا بد وأن تفعله المرأة، وكل ما تؤديه المرأة يؤديه الرجل، وكل ما يجوز أو لا يجوز لأحدهما يجوز أو لا يجوز للآخر، حرفا بحرف، وشكلا بشكل. فهذا هو مقتضى المساواة ومنع التمييز.
هذا من حيث المبدأ العام والشعار المرفوع، ولكن من حيث الواقع الفعلي، فعملية «تذكير» النساء تجري أكثر بكثير من عملية تأنيث الرجال، بمعنى أن المساواة تتم بإلحاق النساء بالرجال دون العكس. ومن هنا وجدنا بعض المستغربين والمستغربات عندنا يطالبون بحذف نون النسوة وجمع المؤنث من اللغة العربية، دون أن يطالبوا بحذف واو الجماعة أو جموع المذكر ! ووجدناهم كذلك يهرولون إلى تسمية النساء بأسماء أزواجهن، دون أن يفعلوا العكس أو يطالبوا به، ولا حتى أن يطالبوا بالمساواة الحقيقية، وهي أن تحتفظ المرأة باسمها، كما يحتفظ الرجل باسمه، لكنها التبعية العمياء.
إلا أن هذا التشويه وهذا التحريف لطبيعة الأمور وهذا السعي الدؤوب إلى تذكير النساء، وأحيانا قليلة إلى تأنيث الرجال، مازال ـ ولن يزال ـ يصطدم بعمق الفطرة ورسوخها (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب/62]
فلا زالت المرأة تحيض وتحمل وتنجب، والرجل لا يحيض ولا يحمل ولا يلد، وما زالت المرأة ترضع والرجل لا يرضع. وما زال الرجل يتسم بالخشونة والمرأة تتسم بالليونة، في الوجه والصوت والبشرة والعواطف والتصرفات.
ولا يقف هذا التمايز العميق المتجذر عند ما هو خِلْقي جسدي فزيولوجي، بل يتعداه إلى السلوك الإرادي والتصرف الكسبي.
فما زالت الأعمال والوظائف المهنية، بعضها يجتذب الرجال أكثر، وبعضها يجتذب النساء أكثر، وبعضها يقع فيه التساوي أو التقارب، وهذا يقال أيضا في التخصصات الدراسية. لقد كان المفروض ـ وقد تساوت الفرص والشروط ـ أن يكون التساوي والتقارب الشديد في جميع المجالات والتخصصات.
ولكننا نجد المرأة ـ بعد أن أتيحت لها كل الفرص والإمكانات ـ قد اكتسحت بعض المجالات المهنية، وتفوقت فيها عددا وأداء، بينما لم تلجْ مجالات أخرى إلا بنسب قليلة وأحيانا ضئيلة أو شبه منعدمة. وعلى العموم نجد المرأة راغبة ومرغوبة وناجحة، في المجالات التي تتسم بالرقة والليونة والروتينية، وتعتمد على حسن الخلق ولطف المعاملة… وتجدها بنسبة قليلة ـ تزيد وتنقص ـ في المجالات التي تسودها الغلظة والشدة والخشونة والصراع والظروف المخوفة.
نجد اليوم جهودا مكثفة وملحاحة من أجل تحقيق المساواة بين الرجال والنساء، في العمل السياسي والمناصب السياسية، ولكننا لا نجد شيئا من ذلك من أجل المساواة في المناصب العسكرية والأمنية ! هذا مع أن استعدادات النساء وعطاءهن حتى في السياسة والزعامة السياسية تظل أقل بكثير مما عليه الرجال؟!
وها نحن نرى الولايات المتحدة ـ على سبيل المثال ـ قد قامت منذ أول يوم على الديمقراطية والحرية والمساواة القانونية، ولم تصل فيها المرأة لا إلى منصب الرئيس، ولا إلى منصب نائب الرئيس، ولا إلى مجرد مرشحة لأي من المنصبين. وحتى لو وصلت في هذه المرة، أو ذات مرة، فسيكون ذلك حدثا استثنائيا وحالة استثنائية، لا تتجاوز نسبة واحد في المائة في التاريخ الأمريكي، أو لا تصل إليها. وقل مثل هذا عن مارغرت تاتشر، وأنديرا غاندي حديثا، وعن زنوبيا وبلقيس قديما. وهكذا في سائر دول العالم، بما فيها المتقدمة والمتقدمة جدا.
وإذا نزلنا إلى المناصب الوزارية سنجد نسبة أكبر، ثم تزيد النسبة ـ اليوم ـ في المناصب البرلمانية، وقد ترتفع هذه النسبة إن وجدت عوامل ضاغطة غير طبيعية، مثل العمل بمبدأ المحاصصة أو المناصفة الإجبارية. ولكن هذا كله لا يخفي الحقيقة، وهي أن هذا المجال يصلح له ويقبل عليه الرجال أكثر من النساء. والمسألة تبقى نسبية وأغلبية، وليست مطلقة أو عامة، كما لا يخفى.
ومن المجالات التي يتجلى فيها التمايز الطبيعي بين النساء والرجال : المجال الرياضي. وهو مجال غير متهم لا بالتزمت ولا بالتطرف ولا بالأصولية ولا بالإخوانية. في هذا المجال، نجد رياضات تكاد تكون حكرا على الرجال، أو على تفوق الرجال. ونجد رياضات أخرى ـ هينة لينة أو استعراضية ـ تكثر فيها النساء. ولعل المجال الرياضي هو المجال الوحيد الذي يظل إلى الآن مستعصيا على الاختلاط. أعني ليست فيه فِرَق رياضية مختلطة، وليست فيه سباقات ومنافسات مختلطة. ومع ذلك لا أحد يستنكر، ولا أحد يتهم، ولا أحد يطالب، لا التقدميون والحداثيون، ولا النسوانيات والنسوانيون، ولا منظمات حقوق الإنسان، ولا دعاة التربية على التفتح والمساواة…!
من هذا القبيل أيضا ألفت النظر ـ وباختصار ـ إلى عدد آخر من مظاهر التمايز التي ترجع إلى فوارق فطرية بين الرجل والمرأة.
لماذا الحروب والعنف والجريمة المعتمدة على العنف، بما في ذلك جريمة الاغتصاب، كلها تعتبر تخصصات رجالية، ولا نجد فيها النساء إلا في أدوار ثانوية، أو بنسبة ضئيلة؟
لماذا عالم الأزياء والزينة والموضة هو عالم نسائي بدرجة كاسحة؟ ليس فيه مساواة ولا ما يشبه المساواة؟!
لماذا تنتشر في العالم كله ـ إلا من رحم ربك ـ مسابقات «ملكة الجمال» ولا نجد بلدا واحدا ينظم مسابقة «ملك الجمال» ؟!

المساواة بين الأصل والاستثناء

الإنصاف لأي واحد من الناس يكون بإعطائه كل ما يستحقه، مع الاحترام والتكريم الذي منحه الله لبني آدم جميعا (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء/70].
ومن العدل والإنصاف التسوية في ما تساوت أسبابه ومقدماته وشروطه. وكذلك من الإنصاف عدم التسوية وعدم المطابقة بين الأشياء المختلفة، وذلك على قدر اختلافها وتمايزها.
فإذا ثبت أن المرأة والرجل متطابقان في خلقتهما وخصائصهما ومؤهلاتهما، بالتمام والكمال، فيلزم حينئذ التسوية بينهما بالتمام والكمال. وإذا ثبت أنهما متطابقان بدرجة كبيرة جدا، ولكنهما يختلفان بنسبة محدودة جدا، فمن العدل ومن الإنصاف ومن الصلاح والإصلاح أن يسوى بينهما بنفس الدرجة وبنفس النسبة، بلا زيادة ولا نقصان. والذي لا شك فيه أن التطابق والتماثل بين الرجل والمرأة كبير جدا، وهو الأصل فيهما وفي أحكامهما. فهم جميعا جنس واحد وأصل واحد «كلكم لآدم وآدم من تراب»، وهم جميعا (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران/34].
يقول العلامة محمد الطاهر بن عاشور: «الإسلام دين الفطرة؛ فكل ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين المسلمين، فالتشريع يفرض فيه التساوي بينهم، وكل ما شهدت الفطرة بتفاوت البشرية فيه، فالتشريع بمعزل عن فرض أحكام متساوية فيه»، ثم يقول: «فالمساواة في التشريع أصل لا يتخلف إلا عند وجود مانع. فلا يحتاج إثبات التساوي في التشريع بين الأفراد أو الأصناف إلى البحث عن موجب المساواة، بل يُكتفى بعدم وجود مانع من اعتبار التساوي».
وإذا كان المسلمون ـ وغير المسلمين ـ قد بالغوا ـ عبر العصور ـ في توسيع دائرة التفريق والتمييز وعدم التسوية بين الرجل والمرأة، على غير أساس من الدين أو الفطرة، فليس من الإنصاف ولا من الإصلاح الذهاب إلى الطرف المضاد، وفرض التسوية الحرفية والمطابقة المطلقة، ضدا على الفطرة البشرية، وضدا على مصلحة الحياة البشرية، بل ضدا على مصلحة المرأة ذاتها، وضدا على كرامتها وسعادتها.
أنا لا أقبل إقصاء المرأة من أي مجال، لا سياسي، ولا اقتصادي، ولا اجتماعي، ولا دراسي… بل أقف مع كامل التشجيع والتيسير للمرأة، في كل مجال تُقبل عليه وتنجح فيه. وهذا الرأي أقوله وأمارسه وأدافع عنه، ولكنني ضد الإكراه والضغط والمساواة المفتعلة.
فأنا مع المساواة الطبيعية الفطرية الواسعة، لكنني ضد التطرف والتعسف في هذه المساواة، التي تتحول إلى تسوية قسرية