مقالات في السيرة النبوية(14)

14-رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنساء
1/2

أما رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالنساء فحدث ولا حرج، فلقد أولاهن جانباً عظيماً من اهتمامه، وتوجيهه، وأمره بالقيام بحقهن، وتحذيره من التقصير في شأنهن؛ فنالت المرأة في شريعته من الرحمة، والرعاية ما لم تَنَلْهُ في أي شريعة أو نظام، سواء كانت أماً، أو أختاً، أو بنتاً، أو زوجة، أو غير ذلك.
بل لقد كان -صلى الله عليه وسلم- المثال الحي لِحُسْن التعامل مع نسائه؛ حيث ضرب أروع الأمثلة في ذلك.
وتتجلى هذه الرحمة في أقواله، وأحواله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشأن، وفيما يلي ذكر لشيء من ذلك.
أولاً: من أقواله في رحمة النساء، ورعاية حقوقهن:
1- حثه على بر الأم، وتقديم حقها على حق الأب: فقد جاء رجل إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله من أولى الناس بحسن صحابتي؟ قال: “أمك” قال: ثم من؟ قال: “أمك” قال: ثم من؟ قال: “أمك” قال ثم من؟ قال: “أبوك”.[1]
2- وصايتُه بالنساء، وأمره بالإحسان إليهن: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “اتقوا الله في النساء، فإنهن عوانٍ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”.[2]
3- بيانه فضل الصدقة على الأهل: قال -صلى الله عليه وسلم-: “دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها الذي أنفقته على أهلك”.[3]
وقال -صلى الله عليه وسلم-: “ابدأ بنفسك، فتصدق عليها، فإن فَضُل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا”.[4]
4- وصيتُه بالصبر على النساء، وتحذيره من الاستعجال في شأن الطلاق: قال -صلى الله عليه وسلم-: “استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضِلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضِّلع أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، استوصوا بالنساء خيراً”.[5]
وقال -صلى الله عليه وسلم-: “لا يَفْرَك -أي يبغض- مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر”.[6]
قال النووي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: “ينبغي أن لا يبغضها؛ لأنه إن وجد فيها خلقاً يُكْره، وجد فيها خلقاً مرضياً، كأن تكون شرسة الخلق، لكنها ديِّنة، أو جميلة، أو عفيفة، أو رفيقة، أو نحو ذلك”[7].
5- بيانُه أن خيار الناس خيارهم لنسائه: قال -صلى الله عليه وسلم-: “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وخياركم خياركم لنسائهم”.[8]
6- تحذيره من إفشاء سر الفراش: قال -صلى الله عليه وسلم-: “إن من أشر الناس منزلةً يوم القيامة الرجلَ يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها”.[9]
7- بيانه أن النساء شقائق الرجال: قال -صلى الله عليه وسلم-: “النساء شقائق الرجال”.[10]
8- نهيه عن ضرب الزوجة بلا مسوغ: قال -صلى الله عليه وسلم-: “لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها”.[11]
9- تحذير الرجل من الميل لإحدى زوجاته إذا كان عنده أكثر من زوجة: قال -صلى الله عليه وسلم-: “من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل”.[12]
10- بيانه أن المرأة لا تُزَوَّج إلا بإذنها: قال -صلى الله عليه وسلم-: “لا تُنكح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تستأذن”.
قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: “أن تسكت”. [13]
11- ذكره لفضل العناية بالبنات، وإحسان تربيتهن: قال -صلى الله عليه وسلم-: “من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن ستراً له من النار”.[14]
وقال -صلى الله عليه وسلم-: “لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان، فيتقي الله فيهن، ويحسن إليهن إلا دخل الجنة”.[15]
12- نهيهُ الزوجَ عن مفاجأة زوجته بعد طول الغياب عنها: فعن جابر -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة، فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخلها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أمهلوا، لا تدخلوا ليلاً -يعني عشاءً- حتى تمتشط الشَّعِثة[16] وتستحد المغيبة[17]”[18].
والهدف من هذا التشريع إبقاء الرغبة في الزوجة قوية؛ بحيث لا يحدث منها ما يُطْلِعُ الزوج على شيء من عيوبها، أو ما ينافي كمال زينتها من تشعث الشعر، وإهمال الزينة، ونحو ذلك.
بل يجدها دائماً في حال من الجمال والزينة، وما شأنه أن يبقي على سرور النفس، وشدة الرغبة.
13- نهيه عن طروق الأهل ليلاً: فقد جاء في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً”[19].
قال ابن حجر -رحمه الله-: "الطُّروق بالضم المجيء ليلاً من سفر أو من غيره على غفلة.
يقال لكل آتٍ بالليل طارق، ولا يقال بالنهار إلا مجازاً"[20].
ففي هذا الحديث دليل على أنه يستحب التأني للقادم على أهله حتى يشعروا بقدومه قبل وصوله بزمان يتسع فيه التجمل والاستعداد؛ فلربما كانت الزوجة في حال انفرادها على وضع لا يليق، وربما كانت مشغولة ببعض أعمال المنزل، فأهملت بعض زينتها واستعدادها للقاء الزوج.
والزوجُ راغب فيها، فإذا هجم على زوجته وهي على هيئة تقذفها العين، وتنفر منها النفس - كان ذلك مدعاة للنفور من الزوجة، وقلة الرغبة فيها.
ومن هنا كان تنبيه الزوجة وإعلامها بقدوم الزوج أولى وأدوم لتعلق القلب بها، وأحفظ من النفور والملل ونبوِّ العين عنها[21].
قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث السابق: “فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلاً نهاراً ويرجع ليلاً لا يتأتَّى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة - كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع الذي يهجم بعد طول الغيبة غالباً ما يكره[22] إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبباً للنفرة بينهما”[23].
والحاصل أن الزوج لا ينبغي له أن يفاجأ زوجته إذا قدم من غيبته؛ اتباعاً للسنة، وتلافياً لما ذكر؛ فعليه أن يرسل من يخبرهم بقدومه، وأن يتريث بعد وصول الخبر لأهله، أو أن يرسل إليهم بأنه سيأتي في اليوم الفلاني إن يسر الله له القدوم.
وفي هذا الوقت تيسرت السبل؛ فبإمكان الزوج أن يتصل عبر الهاتف، ويخبر أهله بأنه قادم في اليوم الفلاني أو الساعة الفلانية.
ثم إن على الزوجة إذا علمت بقدوم زوجها أن تأخذ زينتها، وأن تستعد له أتم الاستعداد.
وهكذا يتبين لنا شيء من عظم شأن المرأة، ومنزلتها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[24].



[1] رواه البخاري (5626) ومسلم (2548).

[2] أخرجه مسلم (1218) وأبو داود في سننه (1905) وابن ماجه (3074).

[3] رواه مسلم (995).

[4] رواه مسلم (997).

[5] رواه البخاري (3331) ومسلم (1468).

[6] رواه مسلم (1469).

[7] صحيح مسلم بشرح النووي 10/47.

[8] أخرجه أحمد 2/250 و 472، والترمذي(1162) وقال: حسن صحيح، وابن حبان (4176) وصححه الألباني في الصحيحة (284).

[9] رواه مسلم (1437).

[10] أخرجه أحمد 6/256، وأبو داود (436) والترمذي (113) وصححه أحمد شاكر في تحقيق الترمذي 1/190-192.

[11] أخرجه البخاري (5204) ومسلم (2855).

[12] رواه أحمد (2/295 و 347 و 471) والترمذي (1141) وأبو داود (2133) والحاكم (2/203) وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم.

[13] رواه البخاري (5136).

[14] رواه البخاري (1418) ومسلم (2629).

[15] أخرجه أحمد 3/43.

[16] الشعثة: البعيدة العهد بالغسل، وتسريح الشعر والنظافة.

[17] المغيبة: التي غاب عنها زوجها.

[18] رواه مسلم (715) وأبو داود (2776) والترمذي (1172).

[19] البخاري (5244).

[20] فتح الباري 9/251.

[21] انظر اللقاء بين الزوجين للشيخ عبدالقادر عطا ص73.

[22] لعلها: على ما يكره.

[23] فتح الباري 9/252.

[24] قارن بين هذا وبين صنيع أهل الجاهلية الذين يعاملون المرأة بكل قسوة، ولا يرونها إلا هملاً مُضاعاً، ولقىً مزدرىً، وحمىً مستباحاً.
ويكفي شاهداً على ذلك تسخطهم بالأنثى، ووأدهم للبنات.
قال الله -تعالى- ناعياً عليهم هذا الصنيع: [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] (التكوير).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "والوأد: دفن الطفلة وهي حية: قيل: هو مقلوب آداه، إذا أثقله؛ لأنه إثقال الدفينة بالتراب.
قال في الكشاف: "كان الرجل إذا وُلِدتْ له بنتٌ؛ فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية يقول لأمها: طيبيها وزينيها؛ حتى أذهب بها إلى أحمائها, وقد حفر لها بئراً في الصحراء؛ فيبلغ بها البئر, فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها، ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض.
وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة, فتمخضت على رأس الحفرة, فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابناً حبسته"ا هـ.
وكانوا يفعلون ذلك؛ خشية من إغارة العدو عليهم, فيسبي نساءهم, ولخشية الإملاق في سني الجدب؛ لأن الذكر يحتال للكسب بالغارةِ وغيرِها, والأنثى عالةٌ على أهلها، قال -تعالى-: [وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ] وقال: [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ].
وإذ قد فشى فيهم كراهية ولادة الأنثى فقد نما في نفوسهم بغضها, فتحركت فيها الخواطر الإجرامية؛ فالرجل يكره أن تولد له أنثى لذلك، وامرأته تكره أن تولد لها أنثى؛ خشيةً من فراق زوجها إياها, وقد يهجر الرجل امرأته إذا ولدت أنثى.
وقد توارثت هذا الجهل أكثرُ الأمم على تفاوت بينهم فيه، ومن كلام بعضهم وقد ماتت ابنته: “نعم الصهر القبر”.
ومن آثار هذا الشعور حرمانُ البنات من أموال آباءهن بأنواع من الحيل مثل وقف أموالهم على الذكور دون الإناث, وقد قال مالك: إن ذلك من سنة الجاهلية، ورأى ذلك الحُبس باطلاً، وكان كثير من أقرباء الميت يلجئون بناته إلى إسقاط حقهن في ميراث أبيهن لأخوتهن في فور الأسف على موت أبيهن؛ فلا يمتنعن من ذلك، ويرين الامتناع من ذلك عاراً عليهن؛ فإن لم يفعلن قطعهن أقرباؤهن.
وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل, وبعضهم يعدها من الإكراه". تفسير التحرير والتنوير 30/145-146.
هذه منزلة المرأة في الجاهلية ولا يبعد عنها ما تعانيه المرأة في النُظُم الأرضية التي لا ترعى للمرأة كرامتها، حيث يتبرأ الأب من ابنته حين تبلغ سن الثامنة عشرة أو أقل؛ لتخرج هائمة على وجهها تبحث عن مأوى يسترها، ولقمة تسد جوعتها، وربما كان ذلك على حساب الشرف، ونبيل الأخلاق.
فأين رحمة الإسلام بالمرأة، وجعلها إنساناً مكرماً من الأنظمة التي تعدها مصدر الخطيئة، وتسلبها حقها في الملكية والمسؤولية، وتجعلها تعيش في إذلال واحتقار، وتعدها مخلوقاً نجساً؟.
وأين رحمة الإسلام بالمرأة ممن يجعلون المرأة سلعة يتاجرون بجسدها في الدعايات والإعلانات.
وأين رحمة الإسلام بها من الأنظمة التي تعد الزواج صفقة مبايعة تنتقل فيه الزوجة؛ لتكون إحدى ممتلكات الزوج؟ حتى إن بعض مجامعهم انعقدت؛ لتنظر في حقيقة المرأة وروحها هل هي من البشر أو لا؟!
فالحضارة المعاصرة لا تكاد تعرف شيئاً من معاني التذمم والرحمة، وإنما تنظر للمرأة نظرة مادية بحتة، فترى أن حجابها وعفتها تخلف ورجعية، وأنها لابد أن تكون دمية يعبث بها كل ساقط؛ فذلك سر السعادة عندهم.
وما علموا أن تبرج المرأة وتهتكها هو سبب شقائها وعذابها.
وإلا فما علاقة التطور والتعليم بالتبرج وإظهار المفاتن، وإبداء الزينة، وكشف الصدور، والأفخاذ، وما هو أشد؟!
وهل من وسائل التعليم والثقافة ارتداء الملابس الضيقة والشفافة والقصيرة؟!
ثم أي كرامة حين توضع صور الحسناوات في الإعلانات والدعايات؟!
ولماذا لا تروج عندهم إلا الحسناء الجميلة، فإذا استنفدت السنوات جمالها وزينتها أهملت ورميت كأي آلة انتهت مدة صلاحيتها؟!
وما نصيب قليلة الجمال من هذه الحضارة؟ وما نصيب الأم المسنة، والجدة، والعجوز؟
إن نصيبها في أحسن الأحوال يكون في الملاجئ، ودور العجزة والمسنين؛ حيث لا تُزار ولا يُسأل عنها.
وقد يكون لها نصيب من راتب تقاعد، أو نحوه، فتأكل منه حتى تموت؛ فلا رحم هناك، ولا صلة، ولا ولي حميم.
أما المرأة في الإسلام فكلما تقدم السن بها زاد احترامها، وعظم حقها، وتنافس أولادها وأقاربها على برها -كما سبق- لأنها أدَّت ما عليها، وبقي الذي لها عند أبنائها، وأحفادها، وأهلها، ومجتمعها.

د. محمد بن إبراهيم الحمد