مقالات في السيرة النبوية(16)

رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحيوان
1/2



[FONT=Simplified Arabic][SIZE=3][COLOR=#000080]

[/color][/size][/font]لم تقف رحمته -صلى الله عليه وسلم- عند حد الرحمة بالإنسان أياً كان، بل تعدت ذلك إلى الرحمة بالحيوان البهيم الذي لا يبين عن شكواه وآلامه؛ فجاء -عليه الصلاة والسلام- بأحكام وآداب خاصة بالحيوان تتلاءم مع هداية الإسلام المؤسسة على الرحمة، المحفوفة بالحكمة؛ فالرحمة تبعث النفوس مبعث الرفق والإحسان.
والحكمة تقف بالرحمة عند حدودٍ لو تجاوزتها انقلبت إلى ضعف ورعونة.
وعلى هذا الطريق جاءت الأحكام والآداب الخاصة بالتصرف في الحيوان.
وفيما يلي طرف مما جاء به في أحكام الحيوان يُبَيَّن من خلالها مدى الحكمة والرحمة والرفق الذي جاء به سيد البشر -عليه الصلاة والسلام-.[1]
1- أن الإسلام أذن في أكل الطيب من الحيوان: ونبه بهذا الإذن على خطأ أولئك الذين يقبضون أيديهم عن تذكيته أو أكله بدعوى الرأفة أو الزهد.
وأباح استعماله في نحو الركوب، والحراثة، وحمل الأثقال.
وقد امتن القرآن الكريم بهذه الضروب من الاستمتاع المألوف بين العقلاء، فقال -تعالى-: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)) (النحل).
وقال -تعالى-: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (80)) (النحل).
2- أن الله -تعالى- امتن في كتابه العزيز بما يتخذ من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها وجلودها من الملابس والفرش والبيوت، وبما يتغذى به من ألبانها ولحومها، وبما هُيَّئت له من حمل الأثقال.
وهذه المنافع من أهم ما تنتظم به حياة الإنسان، ومن أعظم ما يكون به إكرام الحيوان ما دام على قيد الحياة.
قال -تعالى-: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ (8)) (النحل).
فذكر في هذه الآية أهمَّ ما خلقت له الخيل والبغال والحمير من المنافع وهو الركوب، وفي الركوب راحة البدن، وسرعة الانتقال من مكان إلى مكان، والراحةُ من متمات الصحةِ، وسرعةُ الانتقال حفظٌ للوقت من أن يذهب في غير جدوى.
امتن الله -تعالى- بالأنعام والخيل وما عطف عليها، ونبه على ما فيها من جمال وزينة.
وفي هذا ما يرشد إلى أن يكون الاستمتاع بها في رفق ورعاية؛ فإن إرهاقها، أو قلة القيام على ما تستمد منه حياتها - يجعل نفعها ضئيلاً، ويذهب بما فيها من جمال وزينة.
3- أنه كان للعرب قبل الإسلام عادات تحرمهم من الانتفاع ببعض أفراد الحيوان، وفيها قوة على أن ينتفعوا بها: ومن هذا القبيل الناقة المسماة بالسائبة، وهي الناقة التي يقول فيها الرجل: إذا قدمت من سفري، أو برئت من مرضي فهي سائبة، ويحرم ركوبَها ودَرَّها.
والوصيلة: وهي أن تلد الشاة ذكراً وأنثى، فيقولون: وصلت أخاها، فلا يُذبح من أجلها الذكر.
والجمل المسمى بالحامي: وهو الفحل الذي ينتج مِنْ صُلبه عشرة أبطن، فكانوا يقولون: قد حمى ظهره، ويمتنعون من ركوبه والحمل عليه.
والبحيرة: وهي الناقة التي تنتج خمسة أبطنٍ آخرُها ذكر؛ فإنهم كانوا يبحرون أذنها -أي يشقونها- ثم يحرمون ركوبها ودرها.[2]
ثم جاء الإسلام فلم ير من الحكمة تعطيل الحيوان وهو صالح لأن ينتفع منه، فنهى عن هذا التعطيل الناشئ عن سفاهة الرأي، فقال -تعالى-: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)) (المائدة).
4- أنه كان للعرب عادات يسومون فيها الحيوان سوء العذاب: ومن هذه العادات ما يفعلونه لموت كريم القوم؛ إذ يعقلون ناقته أو بعيره عند القبر، ويتركونها في حفرة لا تطعم، ولا تسقى حتى تموت.
ومن هذا الباب شقهم لآذان الأنعام كما مر في عادتهم في البحيرة، وهو ما أشار القرآن إلى قبحه، إذ جعله مما يأمر به الشيطان، فقال -تعالى-: (وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء).
5- أن الحيوان كان كسائر الأمتعة تحت يد مالكه يفعل فيه كيف يشاء، وإذا ناله رفق فمن ناحية عاطفة الإنسان على ما يملك؛ لتطول مدة انتفاعه به.
ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد إلى أن الحيوان في نفسه حقيقٌ بالعطف، فغرس له في القلوب عطفاً عاماً، واستدعى له الرحمة حتى مِنْ قوم لا ينتفعون أو لا يرجون أن ينتفعوا به في حال، وجعل الرفق به من قبيل الحسنات التي تذهب السيئات، وتنال بها المثوبة عند الله - كما سيأتي بيانه بعد قليل -.
فقد أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتل الحيوان المؤذي كالكلب العقور، والفأرة، وأمر بالإحسان في القتل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة”[3].
وأذن في ذبح الحيوان للاستمتاع بالطيب من لحومه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته”[4].
وقد يخطر في البال أنه متى أُذن في قتل الحيوان، أو ذبحه فللإنسان أن يتخذ لإزهاق روحه ما شاء من الطرق أو الوسائل؛ فَقَصد الشارع الحكيم إلى دفع هذا الخاطر، وإرشاد الناس إلى اتخاذ أحسن الطرق في القتل أو الذبح؛ فلا يجوز إحراق ما أُذِن في قتله أو التمثيل به، ويجب إرهاف آلة الذبح؛ حتى لا يلاقي الحيوان قبل إزهاق روحه آلاماً.
قال ابن رجب -رحمه الله- في شرح الحديث الماضي: "والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب - إزهاقُ نفسِه في أسرع الوجوه وأسهلها من غير زيادة في التعذيب؛ فإنه إيلام لا حاجة إليه.
وهذا النوع هو الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيان تلك الحال".
إلى أن قال: "والقِتلة والذِّبحة بالكسر: أي الهيئة.
والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل.
وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق الأرواح التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه.
وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة".[5]
وقال ابن رجب: “فلهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإحسان القتل، وأمر بأن تحدَّ الشفرة، وأن تراح الذبيحة، يشير إلى أن الذبح بالآلة الحادة يريح الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها”.[6]
وجاء في مسند الإمام أحمد عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “والشاة إن رحمتها رحمك الله”.[7]
وقد ذكر أهل العلم آداباً اقتبسوها مما جاء به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من أصول الرحمة والرفق بالحيوان، فقد روى عبدالرزاق في المصنف عن ابن سيرين أن عمر ابن الخطاب- رضي الله عنه- رأى رجلاً يسحب شاةً برجلها؛ ليذبحها، فقال له: “ويلك، قُدْها إلى الموت قوداً جميلاً”[8].
وقال الإمام أحمد: “تقاد إلى الذبح قوداً رفيقاً، وتوارى السكين عنها، ولا تظهر السكين إلا عند الذبح”.[9]
6- أن الشريعة أباحت صيد الحيوان بنحو الجوارح والنبال والشباك؛ لينتفع منه الإنسان بما يحل الانتفاع به، ومنعت من أن ينصب الحيوان غرضاً؛ ليرمى بنحو النبال.
ومما جاء في ذلك من أحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: “لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً”.[10]
وفي الصحيحين عن ابن عمر: “أنه مرَّ بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً”[11].

د. محمد بن إبراهيم الحمد



[1] انظر رسائل الإصلاح 1/139_147.

[2] انظر التحرير والتنوير 7/72.

[3] أخرجه مسلم (1955).

[4] مسلم (1955).

[5] جامع العلوم والحكم 1/382.

[6] جامع العلوم والحكم 1/391.

[7] المسند 5/34.

[8] المصنف (8605).

[9] جامع العلوم والحكم 1/392.

[10] أخرجه مسلم (1957).

[11] البخاري (5515) ومسلم (1958).

جزاك الله خيرا على هذه المعلومات المهمة

بارك الله فيك