مقالات في السيرة النبوية(17)

17-رحمة النبي –صلى الله عليه وسلم- بالحيوان
2/2




[FONT=Simplified Arabic][SIZE=3][COLOR=#000080]

[/color][/size][/font]7- أنه قد وردت أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضل سقي الحيوان وإطعامه، وعدِّهما من عمل الخير الذي تنال به الزلفى عند الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: “ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”[1].
وفي الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكره الله؛ فغفر له”.
قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجراً ! فقال: “في كل ذات كبد رطبة أجر”[2].
وانظر إلى قولهم: “وإن لنا في البهائم أجراً” تراهم كيف كانوا يستهينون بأمر الحيوان، ولا يعتقدون أن الإحسان إليه يبلغ مبلغ الإحسان إلى الإنسان؛ فيستحقون عليه أجراً، وكيف يكون حال حيوان وقع تحت يدِ مَنْ لا يعتقد أنه سينال بالإحسان إليه ثواباً، ويلقى من أجل القسوة عليه عذاباً؟!
وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “عذبت امرأة في هرة لم تطعمها، ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض”[3].
والوعيد بعقوبة النار على الأمر يدل على أنه من المحظور حظراً لا هوادة فيه، ومن ذا يخطر على باله قبل هذا أن يكون لحيوانٍ كالهرة حرمةٌ تبلغ في الخطر أن يعاقبَ مَنْ ينتهكها بعذاب النار؟
وقرر الفقهاء وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها بأن يعلفها أو يرعاها بنفسه، أو يكل لغيره رعيها ولو بأجر، ولم يختلفوا في وجوب ذلك عليه، وصرح طائفة منهم بأنه يجبر عليه قضاءً، فإن لم يفعل بيعت الدابة، ولا تترك تحت يده تقاسي عذاب الجوع.
ومما جاء في السنة النبوية من هذا القبيل ما جاء في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: “اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة”[4].
8- ومن الرفق بالحيوان تجنب أذيته في بدنه: بنحو الضربِ الأليمِ، والإشعارُ الوارد في بدن الهدي ليس إلا جرحاً في سنام البعير بنحو المبضع؛ ليكون علامة أنها هَدْيٌ، وأما طعن البدنة بنحو السنان حتى يتجاوز الجلد إلى اللحم فإنما يرتكبه الجهال، ولا يختلف العلماء في تحريمه.
9- ومن الرفق بالدابة أن لا يتابع السير عليها متابعة ترهقها تعباً: قال -صلى الله عليه وسلم-: “إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض”[5].
وفي رواية: “ولا تعدوا المنازل”.[6]
10- وورد في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت”[7].
فذهب بعض أهل العلم في فهم الحديث مذهب الرحمة بالحيوان، وقال: إنما أمر بقطع القلائد من أعناق الإبل؛ مخافة اختناق الدابة بها عند شدة الركض، ولأنها تُضَيِّق عليها نفسَها ورعيَها، وكراهة أن تتعلق بشجرة؛ فتخنقها أو تعوقها عن المضي في سيرها.
11- ومن المحظور وقوف الراكب على الدابة وقوفاً يؤلمها: وقد ورد في النهي عن هذا الصنيع حديث: “إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر؛ فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس”[8].
ومن الفنون التي يسلكها قساة القلوب في تعذيب الحيوان تهييج بعض الحيوان على بعض، كما يُفْعَل بين الكباش والديوك وغيرها، وهو اللهو الذي حرمته الشريعة؛ لما فيه من إيلام الحيوان وإتعابه في غير فائدة، وفي سنن أبي داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن التحريش بين البهائم”[9] والتحريش بينها إغراء بعضها على بعض.
وإن شئت أن تزيد يقيناً بما جاء به الإسلام من الرأفة بالحيوان فانظر إلى ما رواه أبو داود عن ابن مسعود قال: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَةً[10] معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تَعْرِشُ [11] فلما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها”.
ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال: من أحرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: “إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار”[12].
هذه شذرات مما أوصى به الإسلام من الرفق بالحيوان، وإن شئت أن تعلم كيف كان أثرها في نفوس من يقتدون بآدابه في كل حال - فإليك مثلاً من آداب عدي بن حاتم أحد أفاضل الصحابة -رضي الله عنهم- هو أنه كان يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات، ولهن حق.
ومن أدب الشيخ أبي إسحاقَ الشيرازي -رحمه الله-: أنه كان يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه، فعرض لهما كلب، فزجره رفيق الشيخ، فنهاه الشيخ، وقال له: أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك؟!
فقد رأيت كيف حاربت الشريعة السمحة طبيعة القسوة على الحيوان، وقررت للتصرف فيه أحكاماً مبينة على قاعدة الرفق بكل ذي كبد رطبة.
ومن خلال ذلك يتبين أن الإسلام قد وضع لجمعيات الرفق بالحيوان أساساً يقيمون عليه دعوتهم، وما من نفس أو جمعية تدعو إلى ناحية من الخير إلا وجدت في هذه الشريعة ما يؤيد دعوتها، ويهديها سبيل الرشد إذا تشابهت السبل عليها.
ومما تضطرم له القلوب أسفاً أن تؤسس جمعيات الرفق بالحيوان في بلاد أوربا منذ ما يزيد على مائة وثمانين سنة، ويرتفع صوت الدعوة إلى الرحمة بالحيوان أكثر مما يرتفع في بلاد الإسلام.
وقد ظن كثير من الأحداث والعامة الذين يقيسون الأديان بسِيَرِ المنتمين إليها أن الإسلام لم يوجه عنايته إلى واجب الشفقة على الحيوان، وأن أوربا هي صاحبة الفضل في الدعوة إلى هذه الشفقة؛ حيث أنشئت في إنجلترا جمعية الرفق بالحيوان الملكية سنة 1824م، وما علموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قرر تلك الحقوق على أحسن ما يمكن قبل 1400سنة.[13]

د. محمد بن إبراهيم الحمد



[1] أخرجه البخاري (2320) ومسلم (1553).

[2] البخاري (2466) ومسلم (2244).

[3] البخاري (2365 و 3318 و 3483) ومسلم (2242).

[4] أخرجه أبو داود (2548) وابن خزيمة في صحيحه (2545).

[5] أخرجه مسلم (1926).

[6] أخرجه أبو داود (2570) وأحمد في مسنده (15132).

[7] أخرجه البخاري (2843) ومسلم (2115).

[8] أخرجه أبو داود (2567).

[9] أبو داود (2562).

[10] الحمرة: ضرب من الطير، وقيل: القُبُّرة.

[11] تعرش: أي ترتفع، وتظلل بجناحيها على من تحتها.

[12] أبو داود (2675).

[13] انظر رسائل الإصلاح 1/147.