مقالات في السيرة النبوية(19)

19-غزارة علم النبي صلى الله عليه وسلم




[FONT=Simplified Arabic][SIZE=3][COLOR=#000080]

[/color][/size][/font]كيف لا يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أغزر الناس علماً وقد خاطبه ربه بقوله: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)) (النساء).
فلم يتولَّ تعليمه معلم أو مربٍّ، وإنما علمه ورباه وزكاه ربه -عز وجل-.
ذلك العِلْمُ الذي يزكي النفوس، وينقِّي الأبصار، ويرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى، والسعادة الباقية في الأخرى.
ومَنْ يتدبر القرآنَ والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب - يلف رأسه حياءً من أن ينفي عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عظمة العلم تحت اسم الفلسفة متكئاً على أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
وقد خرج من بين يدي محمد -صلى الله عليه وسلم- رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبعَ علمٍ وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوةِ الحجةِ الأمدَ الأقصى.[1]
قال الماوردي -رحمه الله- متحدثاً عن علمه -صلى الله عليه وسلم-: “ما أوتي من الحكمة البالغة، وأعطي من العلوم الجمة الباهرة، وهو أميٌّ من أمة أمية لم يقرأ كتاباً، ولا درس علماً، ولا صحب عالماً ولا معلماً؛ فأتى بما بهر العقول، وأذهل الفِطَن، مع إتقان ما أبان، وإحكام ما أظهر؛ فلم يُعْثَر فيه بزلل في قول أو عمل”.[2]
وقد كان العالم قبل البعثة يتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض: ظلمة من الجهل، وظلمة من دناسة الأخلاق، وظلمة من منكر الأعمال، فبعث الله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ليخرج الناس من هذه الظلمات إلى نور يسعى بين أيديهم في الحياة الأولى، ويهديهم السبيل إلى السعادة في الحياة الأخرى.
طلع محمد -صلوات الله عليه- بكتاب مُمَتَّع بالحكمة، مُقَوِّم للأخلاق، مصلح للأعمال، منظم لشؤون الحياة، تدبرته فئة قليلة، واتخذته قائدها المطاع؛ فكانت خير أمة جاهدت في الله فانتصرت، وغَلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست، فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت المعارف ينابيع بعد نضوبها، واسألوا التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغرّ ما بصر بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء.
هذه حقائق لم يُنحَ فيها نحو المبالغة؛ فإن المصطفى -صلوات الله عليه- قد قضى على عبادة الأوثان، والغلو في الخضوع لغير الواحد القهار، وقضى على الإلحاد وإنكار الإله، فأصبح المؤمنون أمماً بعد أن كانوا أفراداً.
ولا يخفى أن الغلوَّ في تعظيم غير الله رجس من عمل الشيطان، وأن الإلحاد داعية الفسوق والطغيان؛ فلدعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- الفضل الأكبر في رفع النفوس من حضيض الشرك إلى سماء التوحيد الخالص، ولها الفضل في تطهير النفوس من خبث الإلحاد الذي يشوه فطرتها، ويوفر أسباب شقوتها.
جاهد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الجهلَ، وشرُّ الجهلِ عدم معرفة مبدع الكائنات بحق، والتوجهُ إلى غيره في سائر القربات.
وجاهد الأخلاق الرذيلة، فكرَّه للنفوس الجزعَ، والجبنَ، والبخلَ، والصغارَ، والكبارَ، والقسوةَ، والأثرةَ.
وعلمها الصبرَ، والشجاعةَ، والكرمَ، والعزّةَ، والتواضعَ، والرحمةَ، والإيثارَ.
علّمها الصبر؛ فهان عليها كل عسير، وعلمها الشجاعة؛ فحقر أمامها كل خطير، وعلمها الكرم؛ فجادت في سبيل الخير بكل نفيس، وعلمها العزة؛ فسمت إلى كل مقام مجيد، وعلمها التواضع؛ فتألفت كل قلب سليم، وعلمها الرحمةَ، والرحمةُ رباطُ التآزرِ والتعاونِ على تكاليف الحياة، وعلمها الإيثارَ، والإيثارُ أقصى ما يبلغه الإنسان من مراتب الكمال.
رفع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أعلام العلم، وهدى إلى مكارم الأخلاق، ثم علّم الإنسان كيف يعمل صالحاً، ويعيش آمناً، وهو الذي أوحى إليه بأصولٍ تجعل المدنية محكمة البناء، وآدابٍ تكسوها رونقاً وبهاءً.[3]
بل لقد تظافرت البراهين الحسية والعلمية والتجريبية على صدق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى في أشد المسائل بُعداً عن المحسوس، وأعظمها إنكاراً في العصور السابقة.
خذ على سبيل المثال قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “طهور إناءِ أحدكم إذا ولغ[4]فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أوْلاهن بالتراب”.[5]
ولقد جاء الطب باكتشافاته ومكبراته؛ فأثبت أن في لعاب الكلب ميكروباتٍ وأمراضاً فتَّاكة لا يزيلها الماء وحده، وأظهرت البحوث العلمية الحديثة أنه يحصل من إنقاء التراب لهذه النجاسة ما لا يحصل بغيره.
وجاء -أيضاً- أن شرب الكلب في الإناء يسبب أمراضاً خطيرة، فالكلب كثيراً ما تكون فيه ديدان مختلفة الأنواع، ومنها دودة شريطية صغيرة جداً، فإذا شرب في إناء، أو لمس إنسانٌ جسدَ الكلب بيده أو بلباسه انتقلت بويضات هذه الديدان إليه، ووصلت إلى معدته في أكله، أو شربه، فتثقب جدرانها، وتصل إلى أوعية الدم، وتصل إلى الأعضاء الرئيسة، فتصيب الكبد، وتصيب المخ، فينشأ عنه صداعٌ شديد، وقيءٌ متوالٍ، وفقدٌ للشعور، وتشنجاتٌ، وشلل في بعض الأعضاء، وتصيب القلب، فربما مزَّقته، فيموت الشخص في الحال.[6]
ثم إن العلوم الطبيعية تؤيد الإسلام، وتؤكد صحته على غير علم من ذويها.
مثال ذلك: تلقيح الأشجار الذي لم يُكتَشف إلا منذ عهد قريب، وقد نصَّ عليه القرآن الذي أُنزل على النبي الأمي منذ أربعة عشر قرناً في قوله -تعالى-: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (الحجر: 22) وكذلك قوله -تعالى-: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق: 7) وقوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) (الذاريات: 49) وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا) (يس: 36).
فهذا كلام رب العالمين في القرآن قبل أن تبيِّن لنا العلوم الطبيعية أن في كل نبات ذكراً وأنثى.
ولقد اعتنق بعض الأوربيين الإسلام لما وجد وصف القرآن للبحر وصفاً شافياً مع كون النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يركب البحر طول عمره، وذلك مثل قوله -تعالى-: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) (النور: 40).[7]
وهناك إشارات كثيرة في علم الطب سواء في القرآن أو السنة، قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).
قال العلماء: إن هذه الآية جمعت الطبَّ كلَّه؛ ذلك أن الاعتدال في الأكل والشرب من أعظم أسباب حفظ الصحة.
ومن الإشارات لحفظ الصحة أن الإسلام حرَّم الخمر، ولا يخفى ما في الخمر من أضرار صحية كثيرة، فهي تضعف القلب، وتفري الكلى، وتمزق الكبد إلى غير ذلك من أضرارها المتنوعة.
ومن ذلك: أن الإسلام حرَّم الفواحش من زناً ولواط، ولا يخفى ما فيهما من الأضرار الكثيرة، ومنها الأضرار الصحية التي عُرِفَتْ أكثر ما عُرِفَتْ في هذا العصر من: زهري، وسيلان، وهربس، وإيدز ونحوها.
ومن حِفظ الإسلام للصحة أنه حرَّم لحم الخنزير، الذي عُرِفَ الآن أنه يولِّد في الجسم أدواءً كثيرة، ومن أخصِّها الدودة الوحيدة، والشعرة الحلزونية، وعَمَلُهما في الإنسان شديد، وكثيراً ما يكونان السبب في موته.
ومن الإشارات في هذا الصدد ما عُرف من أسرار الوضوء، وأنه يمنع من أمراض الأسنانِ والأنفِ، بل هو من أهم الموانع للسل الرئوي؛ إذ قال بعض الأطباء: إن أهم طريق لهذا المرض الفتاك هو الأنف، وإن أنوفاً تُغسَلُ في اليوم خمس عشرة مرة لجديرة بألا تبقى فيها جراثيمُ هذا الداءِ الوبيل، ولذا كان هذا المرض في المسلمين قليلاً؛ وفي الإفرنج كثيراً.
والسبب أن المسلمين يتوضؤون للصلاة خمس مرات في اليوم، وفي كل وضوء يغسل المسلم أنفه مرة أو مرتين أو ثلاثاً.[8]
ومن الأمثلة -أيضاً- ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس -رضي الله عنه- أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت.
فسأل أصحابُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله -تعالى-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) إلى آخر الآية.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “اصنعوا كل شيء إلا النكاح”[9].
قال ابن القيم -رحمه الله-: “وجماع الحائض حرام طبعاً وشرعاً؛ فإنه مضر جداً، والأطباء قاطبة تحذر منه”[10].
وجاء في تفسير المراغي -رحمه الله-: "وقد أثبت ذلك الطب الحديث؛ فقالوا: إن الوقاع في زمن الحيض يحدث الأضرار الآتية:
1- آلام أعضاء التناسل في الأنثى، وربما أحدث التهابات في الرحم، وفي المبيضين، أو في الحوض تضر صحتها ضرراً بليغاً، وربما أدى ذلك إلى تلف المبيضين، وأحدث العقم.
2- أن دخول مواد الحيض في عضو التناسل عند الرجل قد تحدث التهاباً صديدياً يشبه السيلان، وربما امتد ذلك إلى الخصيتين فآذاهما، ونشأ عن ذلك عقم الرجل، وقد يصاب الرجل بالزهري إذا كانت جراثيمه في دم المرأة.
وعلى الجملة فقربانها في هذه المدة قد يحدث العقم في الذكر أو في الأنثى، ويؤدي إلى التهاب أعضاء التناسل، فتضعف صحتها، وكفى بهذا ضرراً.
ومن ثم أجمع الأطباء المحدثون في بقاع المعمورة على وجوب الابتعاد عن المرأة في هذه المدة كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم خبير"[11].
ثم إن ما جاء به -عليه الصلاة والسلام- يتفق مع الحقائق العلمية، ولهذا لا يمكن أن تتعارض الحقائق العلمية الصحيحة مع النصوص الشرعية الصريحة.
وإذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة لها، وإما أن يكون النص غير صريح في معارضته؛ لأن النص وحقائق العلم كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القَطْعِيَّين.
ولقد قرر هذه القاعدة كثير من علماء المسلمين، بل لقد قررها كثير من الكُتَّاب الغربيين المنصفين، ومنهم: الكاتب الفرنسي المشهور (موريس بوكاي) في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم) حيث بيَّن في هذا الكتاب أن التوراة المحرَّفة، والإنجيل المحرَّف الموجودين اليوم يتعارضان مع الحقائق العلمية، في الوقت الذي سجل فيه هذا الكاتب شهادات تفوق للقرآن الكريم سبق بها القرآنُ العلمَ الحديثَ.
وأثبت الكاتب من خلال ذلك أن القرآن لا يتعارض أبداً مع الحقائق العلمية، بل إنه يتفق معها تمام الاتفاق.[12]
فهذه نبذة يسيرة جداً تشهد بغزارة علم النبي -صلى الله عليه وسلم-.


د. محمد بن إبراهيم الحمد



[1] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص205.

[2] أعلام النبوة ص263.

[3] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين ص108-109.

[4] الولوغ: الشرب بأطراف اللسان.

[5] أخرجه مسلم (279).

[6] انظر توضيح الأحكام من بلوغ المرام للشيخ عبدالله البسام 1/134-137.

[7] انظر الطريق إلى الإسلام، للكاتب ص36-38.

[8] انظر الطريق إلى الإسلام ص35-36.

[9] رواه مسلم (302).

[10] زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم 4/234.

[11] تفسير المراغي 1/317-318.

[12] انظر التوراة والإنجيل والقرآن والعلم لموريس بوكاي ترجمة الشيخ حسن خالد.