مقالات في السيرة النبوية(20)

20-عظمة خلق النبي صلى الله عليه وسلم

نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو خير البرية، وأزكى البشرية، وأعلاها رتبة، وأجلها قدراً، وأحسنها خلقاً، وأكرمها على الله -تبارك وتعالى-.
اختاره الله على علم، وأكرمه الله بالرسالة وأيده بالوحي.
جبله على حميد الخلال، وفطره على كريم الخصال، ثم أدبه فأحسن تأديبه، فرباه فأحسن تربيته، فكان خلقه القرآن، كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي لله عنها- عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- لما سئلت عنه.
وإنما أدبه القرآن بمثل قوله -تعالى-: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف،199) وقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل، 90) وقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (لقمان، 17) وقوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة،13) وقوله: (فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر،85) وقوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (الشورى،43) وقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت،34) وقوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران،134) وقوله: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (الحجرات،12).
وأمثال هذه التأديبات في القرآن كثير لا يكاد يحصر.
وهو -عليه الصلاة والسلام- هو المقصود الأول بالتأديب والتهذيب، ثم منه يشرق النور على كافة الخلق؛ فإنه أُدِّب بالقرآن، وأدَّب الخلق به، ثم لما أكمل الله له خلقه أثنى عليه فقال -تعالى-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ) (القلم:4).
فسبحانه ما أعظم شأنه، وأتم امتنانه، انظر إلى عظيم فضله، وعميم لطفه؛ كيف أعطى ثم أثنى؟![1]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأما الخلق العظيم الذي وصف الله به محمداً -صلى الله عليه وسلم- فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقاً، هكذا قال مجاهد، وغيره.
وهو تأويل القرآن، كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: “كان خلقه القرآن”[2].
وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله -تعالى- بطيب نفس، وانشراح صدر"[3].
وقال ابن القيم -رحمه الله- في تفسير الآية السابقة: "قال ابن عباس ومجاهد: لعلى دين عظيم، لا دين أحبَّ إليَّ، ولا أرضى عندي منه، وهو دين الإسلام.
وقال الحسن: هو آداب القرآن.
وقال قتادة: هو ما كان يأمر به من أمر الله، وينهى عنه من نهي الله.
والمعنى أنك على الخلق الذي آثرك الله به في القرآن"[4].
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله-: “والخلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق, وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان؛ لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو حُسْنُ معامَلَتِهِ الناسَ على اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة؛ فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن”[5].
وقال: "اعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين، ومعرفة الحقائق، وحلم النفس، والعدل، والصبر على المتاعب، والاعتراف للمحسن، والتواضع، والزهد، والعفة، والعفو، والجود، والحياء، والشجاعة، وحسن الصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن المعاملة والمعاشرة.
والأخلاق كامنة في النفس, ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه، وطلاقة وجهه، وثباته، وحكمه، وحركته وسكونه، وطعامه وشرابه، وتأديب أهله ومَنْ لِنَظره، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس, وحسن الثناء عليه والسمعة.
وأما مظاهرها في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففي ذلك كله, وفي سياسته أُمَّتَهُ، وفيما خُصَّ به من فصاحة كلامه، وجوامع كلمه"[6].

قال أحمد شوقي في همزيَّته النبوية[7]:

يا من له الأخلاق ما تهوى العلا… منها وما يتعشَّقُ الكبراء

لو لم تُقمْ ديناً لقامت وحدها… ديناً تضيء بنوره الآناء
زانتك في الخلق العظيم شمائلٌ… يُغرى بهن ويُولع الكرماءُ
وإذا عفوت فقادراً ومقدراً… لا يستهين بعفوك الجهلاءُ
وإذا رحمت فأنت أم أو أب… هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة… في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك في مرضاته… ورضى الكثيرِ تحلُّمٌ ورياء
وإذا خطبت فللمنابر هِزةٌ… تعرو النديَّ وللقلوب بكاء
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما… جاء الخصومَ من السماء قضاءُ
وإذا حميتَ الماء لم يُورد ولو… أن القياصرَ والملوك ظِماءُ
وإذا أجرت فأنت بيتُ الله لم… يَدْخُلُ عليه المستجيرِ عداء
وإذا ملكت النفس قمت ببرها… ولو آن ما ملكت يداك الشاء
وإذا بنيتَ فخيرُ زوجٍ عِشْرةً… وإذا ابتنيت فدونك الآباء
وإذا صحبت رأى الوفاءَ مجسما… في بردك الأصحابُ والخلطاءُ
وإذا أخذت العهد أو أعطيته… فجميعُ عهدك ذمةٌ ووفاء
وإذا مشيت إلى العدا فَغَضَنْفَرٌ… وإذا جريت فإنك النكباء[8]
وتمدُّ حِلْمَك للسفيه مدارياً… حتى يضيق بعرضكَ السفهاء
في كل نفس من سُطاك مهابةٌ… ولكل نفسٍ في نداكَ رجاء
والرأي لم يُنضَ المُهندُ دونه… كالسيف لم تضرب به الآراء

ولقد كتب العلماء -رحمهم الله- في شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخلاقه، فتحدثوا عن حلمه، وعفوه، ورحمته، وشفقته، وحيائه، وشجاعته، وجوده، وكرمه، وصدقه، وبره، ووفائه، وأمانته، وإيثاره، وتواضعه، ولين جانبه، وكرم معشره، ونحو ذلك مما بلغ به الذروة في كل خلق كريم.
فمن تأسى به، وتخلق بخلقه كان في أعز جوار، وأمنع ذمار.
فبحسب متابعته تكون العزة، والكفاية، والنصرة كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة؛ فالله -سبحانه- علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته.
فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح، والعزة، والكفاية، والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة.
ولمخالفيه الذلة، والصغار، والخوف، والضلال، والخذلان، والشقاء في الدنيا والآخرة[9].
فبسط شمائله الحميدة، ونشر أخلاقه الكريمة - من أمثل الطرق، وأقوم السبل لحسم الفساد، وكسر شوكة الباطل، بل إن ذلك مرقى العز، وسلم السعادة، وسبيل التأسي.
وفيما يلي من أسطر ذكر لبعض ما رقمته أقلام العلماء في أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك على سبيل الاختصار والاختزال، دون ذكر للأسانيد، أو إكثار من الإحالات؛ إذ المقام ليس مقام إطالة وإسهاب.
فمما قيل في أخلاقه -عليه الصلاة والسلام- ما يلي:
كان -صلى الله عليه وسلم- أحلم الناس، وأشجع الناس، وأعدل الناس، وأعف الناس.
وكان أسخى الناس، لا يبيت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفاجأه الليل لم يأوي إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه.
وكان لا يأخذ مما آتاه الله إلا قُوْتَ عامه فقط، وكان ذلك أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويرضى ذلك في سبيل الله، ولا يسأل شيئاً إلا أعطاه، ثم يعود إلى قوت عامه، فيؤثر منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء.
وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مَهْنة أهله، ويقطع اللحم معهن، وكان أشد الناس حياءاً، لا يثبت بصره في وجه أحد.
وكان يجيب دعوة العبد والحر، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن، أو فخذ أرنب، ويكافئ عليها، ويأكلها، ولا يأكل الصدقة، ولا يستكبر عن إجابة دعوة الأَمَةِ والمسكين.
يغضب لربه، ولا يغضب لنفسه، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ومرة يأكل ما حضر، ولا يرد ما وجد، ولا يتورع عن مطعم حلال، وإن وجد تمراً دون خبز أكله، وإن وجد شواءً أكله، وإن وجد خبز بر أو شعير أكله، وإن وجد حلواً أو عسلاً أكله، وإن وجد لبناً دون خبز اكتفى به، وإن وجد بطيخاً أو رطباً أكله.
وكان يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس.
وكان أشد الناس تواضعاً، وأسكنهم من غير كبر، وأبلغهم من غير تطويل، وأحسنهم بشراً، لا يهوله شيء من أمور الدنيا.
يلبس ما وجد، فمرة شملة، ومرة بُرْدَ حبرةٍ يمانياً، ومرة جبةَ صوفٍ، فما وجد من المباح لبس.
يركب ما أمكنه، مرة فرساً، ومرة بعيراً، ومرة بغلة شهباء، ومرة حماراً، ومرة يمشي راجلاً حافياً.
يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم.
لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، يمزح ولا يقول إلا حقاً، يضحك من غير قهقهة، يسابق أهله، ترفع الأصوات عليه فيصبر.
وكان لا يمضي له وقت في غير عمل لله -تعالى- أو فيما لا بد له منه في صلاح نفسه.
لا يحتقر مسكيناً لفقره وزمانته، ولا يهاب ملكاً لملكه، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاءاً مستوياً، قد جمع الله -تعالى- له السيرة الفاضلة، والسياسة التامة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
نشأ في بلاد الجهل والصحاري في فقره، وفي رعاية الغنم يتيماً لا أب له، فعلمه الله -تعالى- جميع محاسن الأخلاق، والطرق الحميدة، وأخبار الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز في الآخرة، والغبطة والخلاص في الدنيا، ولزوم الفضل، وترك الفضول.
ما شتم أحداً من المؤمنين إلا جعل لها كفارة ورحمة، وما لعن امرأة قط ولا خادمة بلعنة.
وما ضرب أحداً بيده قط، إلا أن يضرب بها في سبيل الله -تعالى- وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم، فيكون أبعد الناس من ذلك.
وما كان يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته.
ولم يكن فظاً ولا غليظاً، ولا صخاباً في الأسواق، وما كان يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.
وكان من خلقه أن يبدأ من لقيه بالسلام، ومن قادمه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف.
وما أخذ أحدٌ بيده، فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة ثم أخذ بيده فشابكه، ثم شد قبضته عليها.
وكان أكثر جلوسه ينصب ساقيه جميعاً، ويمسك بيده عليهما شبه الحبوة، ولم يكن يعرف مجلسه من مجلس أصحابه؛ لأنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس، وما رؤي قط ماداً رجليه بين أصحابه؛ حتى لا يضيق بها على أحد إلا أن يكون المكان واسعاً لا ضيق فيه.
وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليس بينه وبينه قرابة ولا رضاع يجلسه عليه.
وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل.
وما استصفاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه، وكان يعطي كلَّ مَنْ جلس إليه نصيبه من وجهه، وسمعه، وحديثه، ولطيف محاسنه وتوجهه.
ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواضع وأمانة.
ولقد كان يدعو أصحابه بكناهم؛ إكراماً لهم، واستمالة لقلوبهم، وكان يُكَنِّي من لم تكن له كنية، فكان يدعى بما كَنَّاه به، ويكني -أيضاً- النساء التي لهن أولاد، والتي لم يلدن يبتدئ لهن الكنى، ويكني الصبيان، فيستلين به قلوبهم.
وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً، وكان أرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس، وكان لا يشافه أحداً بما يكرهه.
هذه بعض أخلاقه وشمائله، رزقنا الله حسن اتباعه، والاتساء به، والاهتداء بهديه.[10]

د. محمد بن إبراهيم الحمد


[1] انظر إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، 2/357ـ 358.

[2] رواه مسلم (746) من حديث هشام بن حكيم أنه سأل عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

[3] مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/658.

[4] مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم 2/289.

[5] تفسير التحرير والتنوير 29/64.

[6] تفسير التحرير والتنوير 29/65.

[7] الشوقيات 1/35-36.

[8] النكباء: ريح بين ريحين.

[9] انظر زاد المعاد لابن القيم 1/37.

[10] انظر الشمائل المحمدية للترمذي ص 186- 280، 262- 283 تحقيق محمد عفيف الزعبي، وانظر الأنوار في شمائل النبي المختار للبغوي تحقيق الشيخ إبراهيم اليعقوبي 1/161- 358، وأخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي الشيخ الأصبهاني تحقيق عصام الدين الصبابطي ص13- 98، ودلائل النبوة لأبي نعيم ص 551- 656، وإحياء علوم الدين 2/357- 387، وشمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه لابن كثير 1/73- 152.