مقالات في السيرة النبوية(25)

مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
-(2/6)


[FONT=Simplified Arabic][SIZE=3][COLOR=#000080]

[/color][/size][/font]ورود المجلس الرسولي في القرآن، وصفة ذلك المجلس
أولاً: ورود المجلس الرسولي في القرآن:
لقد وردت الإشارة في القرآن الكريم إلى مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا…) (المجادلة:11).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور-رحمه الله-: "قال جمهور العلماء من السلف ومن بعدهم: المراد بالمجلس في الآية هو مجلس رسول الله، وسأذكر ذلك في المبحث المناسب له.
ثم إني لم أر لأحد من الباحثين في السيرة من ذكر هذا المجلس سوى عياض في كتاب الشفاء؛ فإنه ذكره بكلمة واحدة في غرض آخر؛ إذ قال في فصل زيارة القبر الشريف هذه العبارة: (قال إسحاق بن إبراهيم[1] الفقيه: ومما لم يزل مِنْ شأن مَنْ حجَّ المرورُ بالمدينة، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتبرك برؤيته، وروضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه)ا -هـ.[2]
فكان حقَّاً علينا أن نخصه بمقال أتقصَّى فيه ما تناثر في خلال كتب الحديث والسيرة؛ فيجيء بحثاً أُنُفاً[3] يبهج من كان بسيرة رسول الله كلفاً".[4]
ثانياً: صفة مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
لقد جاء مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على غاية ما يكون من البساطة، والتواضع، والخلو من مظاهر الأبهة؛ لأنه أعظم المصلحين وأفضل المرسلين، فأراد الله -عز وجل- أن يكون ذلك النبي مقصوراً على التأييد بالدلائل الحقة الباقية على الزمان، وأن يجرده عن وسائل الخِلاَبة والاسترهاب؛ فتكون دعوته أكمل الدعوات، وعظته أبلغ العظات كما هو أكمل الدعاة والواعظين.
وذلك -كما يقول ابن عاشور[5]- لحكم جمة، منها ما يلي:
الحكمة الأولى: أن لا يكون جلالُ قَدْرِه في النفوس، ونفوذُ أمره في الملأ محتاجاً إلى معونة بوسيلة من الوسائل المكملة للتأثير الذاتي النفساني، بل يكون تأثيره الذاتي كافياً في نفوذ آثاره في قلوب أتباعه؛ إذ كانت نفسُه الشريفةُ أكملَ نفسٍ برزت في عالم الوجود الحادث، فتكون أغنى النفوس عن التوسل بغير صفاتها الذاتية؛ إذ لا نقص في تأثير نفسه.
من أجل ذلك ادخر الله لرسوله التأييد بأوضح الدلائل، وأغناها عن العوارض التي تصطاد النفوس، وتسترهب العيون؛ حتى لا يكون شأنه جارياً على الشؤون المألوفة.
ولعل هذا مما يُلوِّح إليه قوله -تعالى-: (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29).
أي هذه دعوة الحق المحض الغَنِيَّةُ عن البهرجةِ الزائلة والله أعلم؛ فيكون هذا من المعجزات الخفية التي هي آيات للمتوسمين على كُرور الأيام والسنين.
الحكمة الثانية: أن يكون الرسول غيرَ مشارك لأحوال أصحاب السيادة الباطلة من الجبابرة والطغاة؛ حتى لا يكون من دواعي إيمان بعض الفرق به وطاعتهم له-ما بهرهم من تلك الزخارف، كحال الذين استكبروا من قوم نوح؛ إذ قالوا: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ) (هود:27).
وهذا معنى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “خيرت بين أن أكون نبيَّاً عبداً أو نبيَّاً ملكاً فاخترت أن أكون نبيَّاً عبداً”.[6]
الحكمة الثالثة: أن يحصل له -مع ذلك- أعظمُ جلال في نفوس أعدائه بله أوليائه؛ فيكون فيه دليل على أن جلاله مستمد من عناية الله -تعالى- وتأييده.
روى أبو داود، والترمذي أن قيلة بنت مَخْرمة جاءت رسول الله في المسجد وهو قاعدٌ القرفصاءَ قالت: “فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق”.[7]
فقولها: المتخشع في الجلسة أَوْمَأَ إلى أن شأن المتخشع في المعتاد ألا يرهب، وهي قد أَرْعَدَتْ منه؛ رهبة.

ووصف كعب بن زهير رسول الله حينما دخل عليه المسجد في أصحابه مؤمناً تائباً، وكان كعب يومئذ أقرب عهداً بالشرك، وأوغل في معرفة مظاهر ملوك العرب وسادتهم؛ إذ هو الشاعر ابن الشاعر؛ فإذا هو يقول بين يدي رسول الله يصف مجلسه:

لقد أقوم مقاماً لو أقوم به *** أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له **** من الرسول بإذن الله تنويل


ثم يقول في صفة الرسول:
لذاك أهيبُ عندي إذ أُكَلِّمُه *** وقيل: إنك منسوب ومسؤول
من خادر من ليوث الأسد مسكنه *** من بطن عَثَّرَ غِيلٌ دونه غيلُ[8]

وجاء في صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - -وهو في سياق الموت- أنه قال: “وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أجلَّ في عينِي منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينَيَّ منه؛ إجلالاً له، ولو سُئلتُ أن أصفه ما أطقتُ؛ لأني لم أكن أملأُ عينَيَّ منه”.[9]


د. محمد بن إبراهيم الحمد

_______________________
[1] هو إسحاق بن راهويه.

[2] الشفا للقاضي عياض 2/669_670، وانظر شرح الشفا للقاضي عياض للملا علي قاري 2/151.

[3] أُنُفاً: أي جديداً.

[4] الهداية الإسلامية 10/581.

[5] الهداية الإسلامية 10/581_582، وانظر شرح الشفا للقاضي عياض للملا علي قاري 2/151.

[6] رواه أحمد في المسند (7160).

[7] أبو داود (4847) والترمذي في سننه (2814) وفي الشمائل (120).

[8] عثَّر: مكان مشهور بكثرة السباع، والغيل: الشجر الكثير الملتف. انظر السيرة النبوية لابن هشام 4/114_115.

[9] أخرجه مسلم (121).