مقالات في السيرة النبوية(26)

مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم COLOR=#008000[/color]

مكان مجلس الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكيفية التئامه وخروجه إليه

أولاً: مكان مجلس الرسول:
إن من مارس الحديث والسيرة لا يَشُكُّ في أن مجلس رسول الله الذي يلتف حوله فيه أصحابه، وتجرى فيه معظم أعماله في شؤون المسلمين - إنما كان بمسجده، وأن ما عداه من الأمكنة التي ورد في الآثار حلوله فيها إنما هي مقاعد كان يحل فيها قبل البعثة، وبعدها قبل الهجرة، وبعدها قبل أن ينتظم أمر المسلمين، أو بعد ذلك فيما بعد الهجرة؛ لعوارض تعرض من زيارة، أو ضيافة، أو عيادة، أو قضاء مصالح، أو نحو ذلك؛ فقد جلس قبل البعثة وهو بمكة في دار ابن جُدعان، وفي المسجد الحرام، وآوى إلى غار حراء يَتَحَنَّث بإلهام من الله -تعالى- استئناساً بالوحي، وجلس بعد البعثة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وفي شعب أبي طالب مدة القطيعة، وسكن دار أبي أيوب الأنصاري عند مَقْدِمِهِ المدينةَ، وجلس بمسجد قباء قبل بناء المسجد النبوي، ولم يلبث أن بنى مسجده؛ فكان مجلسه بَعْدُ في ذلك المسجد فيما عدا أحوالاً تعرض مثل خروجه إلى بني عمرو بن عوف؛ للإصلاح بينهم.[1]
وقد أرشدنا إلى ذلك ما في الصحيح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: "توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله يومي هذا، ولأكونن معه، فجئت المسجد فسألت عنه، فقالوا: خرج… إلخ ".[2]
فقوله: “فجئت المسجد، فسألت عنه” ينبئ بأن مَظِنَّةَ لقاءِ الرسول هي المسجد.
ثم إن تعيين مكان جلوسه من المسجد لم يَجْرِ له ذكر في كلامهم.
والذي يظهر أنه كان يلزم مكاناً معيناً للجلوس؛ لينتظره عنده أصحابه والقادمون إليه.[3]
والظاهر أن هذا المكان المعين هو ما بين المنبر وحجرة عائشة -رضي الله عنها- وهو الملقب بالروضة، ويدل لذلك ثلاثة أدلة:
الدليل الأول: ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: “ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة”.[4]
وللعلماء في معنى ذلك تأويلات أظهرها والذي مال إليه جمهورهم أنه كلام جرى على طريقة المجاز المرسل؛ فإن ذلك المكانَ لما كان موضع الإرشاد والعلم كان الجلوس فيه سبباً للتنعم برياض الجنة؛ فأطلق على ذلك المكان أنه روضة من رياض الجنة بإطلاق اسم المسبب على السبب.
أو جرى على طريق الاستعارة بأن شَبَّه ما يصدر في ذلك المكان من الإرشاد والتشريع والعلم والموعظة والحكمة المنعشة للأرواح بما في رياض الجنة من الثمار والأزهار والأنهار ذات الإنعاش الخالد، فأطلق اسم المشبه به على المشبه.
وفي هذا إنباء بأن موضع الروضة مجلس رسول الله الذي كان فيه معظم إرشاده وتعليمه الناس.
الدليل الثاني: أنا نجد أحاديث كثيرة روتها عائشة -رضي الله عنها- تتضمن ما دار بين رسول الله وبين سائليه، ولم نجد مثل ذلك لبقية أمهات المؤمنين؛ فعلمنا أن ذلك انفردت به عائشة؛ من أجل قرب بيتها من مجلس الرسول، وقد كان بيتها بقرب الروضة.
الدليل الثالث: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: “لقد رأيتني وإني لأَخِرُّ فيما بين منبر رسول الله وحجرة عائشة؛ فيجيء الجائي، فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنوناً وما بي جنون، وما هو إلا الجوع”.[5]
مع ما رواه البخاري ومسلم أن أبا هريرة قال: “يقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث والله الموعد، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإخوتي من الأنصار يشغلهم عملٌ في أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً ألزم رسول الله على مِلْء بطني؛ فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون”.[6]
فينتج من ذلك أن مقام أبي هريرة كان في الروضة، وأن ملازمته رسول الله كانت في ذلك المقام، وأن الروضة هي مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .[7]
قال ابن عاشور-رحمه الله-: "هذا وقد رأيت في كلام شهاب الدين الخفاجي في شرحه على شفاء عياض كلمة تقتضي الجزم بأن مجلس رسول الله هو الروضة؛ فإنه لما بلغ إلى قول عياض: “لم يزل من شأن مَنْ حج المرورُ بالمدينة والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله وروضته ومنبره وقبره ومجلسه” إلخ…
قال: “ومجلسه أي موضع جلوسه في الروضة المأثور ا - هـ.”.
ولم أقف على مستنده الصريح فيما جزم به".[8]
قال الشيخ ملا علي قاري في شرح الشفا عند قول عياض: “ومجلسه” قال: “أي محل جلوسه في المسجد، ومكان صلاته عند الاسطوانات وغيرها”.[9]

ثانياً: كيفية التئام مجلس الرسول وخروجه إليه:
كان أصحاب رسول الله إذا قصدوا مسجده يحضرون المكان الذي اعتاد الجلوس فيه، فإذا قدموا قبل خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجلسون ينتظرونه حتى إذا خرج رسول الله كانوا يقومون له، فنهاهم عن ذلك، روى أبو أمامة، قال: "خرج علينا رسول الله فقمنا له، فقال: “لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً”[10] فصار القيام منسوخاً على الأصح.
وعندما يخرج رسول الله على أصحابه يبقون جلوساً؛ فلا يرفع أحد منهم بصره إلى رسول الله إلا أبو بكر وعمر؛ فإنهما كانا ينظران إليه، وينظر إليهما، ويبتسمان إليه، ويبتسم إليهما، كذا في الشفاء.
وفي الشفاء أنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم.[11]
والظاهر أن معنى ذلك أنه حين يخرج إليهم لا يتخطى رقابهم، ولكن يجلس حيث انتهى به المجلس؛ ففي الصحيحين عن أبي واقد الليثي أن رسول الله بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان منهم إلى رسول الله وذهب واحد، فوقفا على رسول الله، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله -أي من كلامه- قال: “ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهما فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه”.[12]
وفي أسباب النزول والتفسير أن رسول الله كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، وأن ناساً منهم جاؤوا إلى مجلسه فلم يجدوا موضعاً، فقاموا مواجهين له ولم يوسع لهم أحد، فقال رسول الله لبعض من حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان ويا فلان، وفي ذلك نزل قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ) الآية، (المجادلة:11).[13]
وسيأتي تفصيله في ذكر آداب مجلسه -صلى الله عليه وسلم- .
وربما وقف السامع إلى حديث رسول الله، وفي البخاري: باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، وأخرج حديث أبي موسى الأشعري: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله؟ فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا”.
قال الراوي: وما رفع رأسه إليه إلا أن السائل كان قائماً".[14]
وكان الملازمون مجلسَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه من الرجال.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "قال النساء للنبي: غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً لنفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن…إلخ ".[15]
وظاهر ترجمة البخاري لهذا الحديث أن اليومَ المجعولَ للنساء لم يكن يوماً مفرداً وحيداً، بل جعل لهن نوبة من الأيام؛ فيحتمل أنه جعل لهن يوماً في الأسبوع، أو في الشهر، أو بعد مدة غير معينة يعين لهن موعده من قبل، والله أعلم.

د. محمد بن إبراهيم الحمد

__________________________

[1] انظر صحيح البخاري (684) ومسلم (121).

[2] مسلم (2403).

[3] انظر الهداية الإسلامية 10/584-586.

[4] البخاري (1196) ومسلم (1390 و 1391).

[5] الترمذي (2367) وقال: “حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه”.

[6] أخرجه البخاري (118 و 2223) ومسلم (2492).

[7] انظر الهداية الإسلامية 10/586-587.

[8] الهداية الإسلامية 10/587.

[9] شرح الشفا 2/151.

[10] أخرجه أبو داود (5230).

[11] انظر شرح الشفا 1/289، والهداية الإسلامية 10/588.

[12] البخاري (66 و 474) ومسلم (2176).

[13] انظر تفسير التحرير والتنوير 27/36-42، والهداية الإسلامية 10/588-589.

[14] البخاري (123) ورواه مسلم (1904).

[15] البخاري (101 و 1249) ومسلم (2633).