قصة

قصة قصيرة )
[FONT=Times New Roman]
[SIZE=4]انتهت من قصِّ حكاية قبل النوم على مسامع ( وفاء ) الصغيرة ذات الخمس سنوات ، والتي تزامن نومُها مع نهاية القصة بعد أن أخذت تدافع النوم الذي كان يداعب جفنيها أثناء سماع القصة ، وكأنه يريد أن يحرمها من سماع انتصار البطل في نهاية القصة .
بسمة ارتسمت على شفتي أمها … أخذت تملأ عينيها بمشهد البراءة النائمة ، وكأنها ترتوي بالنظر إلى فلذة كبدها وأنيستها في هذا المنزل … هذا المنزل الذي لا تعرف جدرانه منذ سنوات إلا ( وفاء ) وأمها …
قامت بهدوء سائرة على أطراف قدميها إلى باب الحجرة … التفتت لتلقي نظرة على أميرتها الصغيرة النائمة …
مرَّ بخاطرها …
بسمته تداعب مخيلتها كأنها حلم جميل …
نظراته الحانية … كلماته الرقيقة …
تذكرت يوم أن كان يحتضن يديها بين يديه و … ويحلم …
نعم … يحلم معها …
يقرآن القرآن سويًّا … تحوطهما الملائكة فرحين بهما …
فرغ من قراءته … التفت إليها وقال : أريد أن أحيا بالقرآن يا شريكة العمر … أتعينيني ؟
نظرت إليه وقالت : معك إن شاء الله … أعاهدك أن نحيا ونموت لله …

خرجت من حجرة ( وفاء ) الصغيرة متجهة إلى غرفة المعيشة … فتحت أحد الأدراج وأخرجت منه كتابًا قديمًا … ألقت جسدها الذي أنهكته الأحزان والآلام على أقرب مقعد لها .

فتحت أولى صفحات الكتاب … قرأت أول إهداء كتبه لها بخطه :
إهداء إلى زوجتي الحبيبة …

  • جئتُ لكِ بهذا الكتاب ، أعطيني قلمًا لأكتب لك إهداءً …
    تناولت من يديه وردة رقيقة ، وأمسكت الكتاب وطالعت عنوانه … فتحت حقيبتها باحثة عن قلم .
    فتح الصفحة الأولى … أمسك القلم …

إهداء إلى زوجتي الحبيبة
لا يلزم أن يكون طريق السعادة مفروشًا بالورود …
ولكن قد تعتريه بعض الأشواك
زوجك
ناولها الكتاب … تعلقت عيناها بتلك الجملة التي ذيل بها إهداءه … ورود وأشواك ! … بدت على وجهها الحيرة …
نظر إليها قائلًا :
كثير من الناس يظن أن طريق السعادة طريق رحب واسع مفروش بالورود ، فإذا وقع به بلاء في هذا الطريق ظن أنه قد ضل الطريق … بل قد يظن أنه سار منذ البداية في الطريق الخاطئ … ولم يدرك هؤلاء أن طريق السعادة به أشواك … بل كثير من الأشواك …
سكت قليلًا ونظر إليها … ما زالت عيناها متعلقتين بتلك الكلمات … رفعت عينيها لتلتقي بعينيه … أردف قائلًا :
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر … هكذا قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم … وبالرغم من أنها سجن ـ عزيزتي ـ إلا أن المؤمن سعيد بربه عز وجل … ويجب أن يعلم أن طريق الحق هو طريق السعادة ، ولو مر بالشوك وآذاه … فهو يمر على الشوك في سعادة … ومن أشد ما يسعد المرء أن يجد مؤازرًا له في هذا الطريق يشد من أزره ويدفعه للأمام … فهلَّا كنتِ ؟
نظرت إليه وعبرة تترقرق في عينيها … حاولت أن تمنعها لكنها أبت إلا أن تجري على وجنتيها …
كانت المرة الأولى التي تسمع منه هذه الكلمات … كان دائمًا يحدثها عن سعادة الورود ، ولم يحدثها من قبل عن سعادة الشوك …
حبيبتي … إن من لوازم الحب في هذا الطريق ألا يستسلم أي من الطرفين … وإن اشتد الألم من الأشواك … وألا يدفعه طول الطريق وقسوته إلى أن يتخلى عن رفيق دربه … وهذا عين الوفاء …
نحن على طريق بلاء وامتحان … ألم يُبتلَ الأنبياء والمرسلين ؟ فكيف لا يُبتلى أتباعهم ممن ورثوا عنهم وظيفتهم وهي دعوة الخلق وتعبيد الناس لربهم ؟
انظري إلى الوردة التي بيدك … كم هي جميلة ورقيقة … ولكنها ستذبل يومًا ما … أما الوفاء ـ حبيبتي ـ فهو الوردة التي لا تذبل … مهما كان البلاء ومهما كانت الشدة يبقى الوفاء زاهيًا لا يذبل بحال …
هلَّا كنتِ ؟

الدنيا منغَّصة … وأَنَّى لحياة الورد أن تستمر … سرعان ما أدمته الأشواك لأنه قال ربي الله وقال للناس اعبدوا ربكم …
نظر إليها ، ونطقت عيناه : ها هو الشوك يا رفيقة الدرب … فهل أنتِ على وعدك ؟
لملمت حروفها المبعثرة … خرجت منها كلماتها المرتجفة :
أنتظرك … وأنا على العهد …
كانت آخر كلمات سمعها منها ، ثم كابد ظلمات سجون الدنيا ، بينما كان جنينٌ يتحرك في ظلمات أحشائها …
مرت عليها الأيام … وضعت وليدتها الصغيرة التي لم يشأ الله لأبيها أن يحملها بين يديه عند ولادتها …
سمَّتها ( وفاء ) …
مرت الأيام … الشهور … السنون …
كبرت ( وفاء ) أمام عينيها يومًا بعد يوم …
تُلقي على مسامعها قصص البطولة عن أسلاف أبيها الذين باعوا الفانية بالباقية …
وتُترع فؤادها بالقرآن الذي عاهدت من قبلُ أن يكون نبراسها الذي تحيا وتموت عليه …
أخذ الشيب يدب في رأسها يومًا بعد يومٍ …
ذبلت الورود التي أهداها لها في بداية طريقهم …
وبدأت أيضًا زهرة شبابها في الذبول …
بينما ظل الوفاءُ في قلبها وردةً لا تذبل …
[/size][/font]