اسطنبول: محاولة لفهم المدينة العربية المعاصرة

د. مشاري بن عبدالله النعيم
كنت ومازلت أقول ان أي محاولة لفهم تاريخ المدينة العربية المعاصرة يجب أن يبدأ من مدينة اسطنبول التي كانت تحكم أغلب أجزاء العالم العربي خلال القرن التاسع عشر والتي بدأ التأثير الاوربي الصارخ فيها منذ ذلك الوقت وترك بصماته على صورة المدينة وعلى أنظمتها وقوانينها، وصادف أنني قبل خمسة عشر عاما وقعت على أطروحة دكتوراه كتبتها باحثة أعتقد أنها تركية اسمها (زينب كليك) عن التأثير الاوربي في مدينة اسطنبول (والباحثة مهتمة بالعمارة الكولونية الاستعمارية وكتبت كتاباً عن الجزائر في هذا الصدد)، ورغم أنني قد زرت اسطنبول لأول مرة عام 1986م إلا أنني لم أتنبه لهذا التأثير أو لنقل أنني لم أهتم به لأنني في تلك الفترة مازلت طالبا في كلية العمارة ولم تتشكل اهتمامات بحثية لدي بعد. ما استغربت له هو أن دولة كبيرة كانت تسيطر على العالم مثل الدولة العثمانية لم تتنبه طيلة ثلاثة قرون للتطورات الكبيرة التي كانت تجرى في دول الجوار الأوربي فبين القرن الخامس عشر والتاسع عشر خطت أوربا خطوات كبيرة وبدأت ثورتها الصناعية بعد أن مرت بعصر التنوير وأوجدت البيئة المناسبة للاكتشافات الكبرى بينما ظلت الدولة العثمانية على تقليديتها وسكونها وتنبهت فجأة خلال القرن التاسع عشر عندما بدأ الأوربيون يطلقون عليها مسمى “الرجل المريض” ولكن الوقت كان قد فات. الملفت للنظر أن تأثر الدولة العثمانية بأوربا لم يكن تأثرا تقنيا بل ظهر على مستوى التخطيط العمراني والتشكيل المعماري ولم تستطع “اسطنبول” بناء حضارة تقنية تبقي “الرجل المريض” على قيد الحياة. يذكرنا هذا بمحاولات محمد علي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في مصر فقد بدأ مشروعه التقني والفكري بعد اعتلائه العرش عام 1805م لكنه لم يخطُ خطوة مهمة إلا العام 1820م عندما حفر قناة المحمودية في الاسكندرية على أن المشروع برمته لم يكتب له النجاح نظرا للصراعات في المنطقة وتدخل الدول الاوربية القريبة لإحباط المشروع بينما تجربة تقنية أخرى هي التجربة اليابانية بدأت في نفس التوقيت وها هي تقود العالم صناعيا وتقنيا اليوم.
المحاولات العثمانية للتطوير أنهكت الدولة ولم تساعد حقا في استعادة مكانة الأمبرطورية العثمانية بل زادت الرجل المريض مرضا، فقد أفرغت خزينة الدولة على مبانٍ فارهة لا تحقق أي منجز تقني أو اقتصادي فقصر (دولمان باهجة) أو القصر الممتلئ سعادة والذي بني في فترة مبكرة بين العامين 1848و 1856م (في عصر السلطان عبدالمجيد الذي بدأ إصلاح الدولة العثمانية وتحالف مع الغرب في حربه مع الروس) هو مبنى فاره يبين مدى البذخ الذي كان السلاطين العثمانيون يعيشونه بينما دولتهم كانت تسقط. قبل بناء القصر كانت اسطنبول متأثرة بضعفها أمام جيرانها فقد كانت دائما الأقوى ووصلت أساطيلها وجيوشها إلى العمق الأوربي وكانت أثينا وفينا وغيرها من المدن الأوربية تحت سيطرتها وها هي اليوم أصبحت ضعيفة ومريضة. بدأت عملية الاصلاح في الثلاثينات من القرن التاسع عشر بوضع دستور للدولة يعتمد على الفقه الحنفي وسمي بالمجلة وكان هذا أول دستور على النمط الأوربي محاولة لوضع نظم تمكن الأمبرطورية من التعامل مع العالم الآخر المجاور الذي تحكمه دساتير ونظم على أن هذه المحاولة الاصلاحية لم تغير من الوضع كثيرا لأن التوجه العام كان منصبا حول بناء الشكل دون إعادة إحياء للجوهر الاقتصادي والتقني للدولة فظهرت المباني على النمط الأوربي بكثرة من أجل إظهار اسطنبول، عاصمة الأمبرطورية، كمدينة تضاهي المدن الأوربية الكبرى.

المحزن حقا هو أن أمبراطورية بحجم الدولة العثمانية لم تستطع بناء خط سكة الحديد الحجازية إلا بصعوبة بالغة وبعد أن تبرع لهذا المشروع كل الدول الاسلامية في ذلك الوقت ومر على المشروع عقود عدة قبل أن يكتمل عام 1910م وقد وصلت حالة الامبراطورية في ذلك الوقت إلى حالة يرثى لها بعد أن تقطعت اوصالها وزاد المعارضون لها حتى في الداخل (وأقصد هنا داخل اسطنبول)، بينما الدول الأوربية بنت شبكات سكة الحديد منذ العام 1830م ولم ينتهِ القرن التاسع عشر إلا وأوربا كلها مرتبطة بمشاريع نقل عملاقة مكنت القارة من بناء اقتصاد عملاق أدى إلى استعمار العالم اقتصاديا حتى اليوم. وقد قمت شخصيا بزيارة محطات القطار في مدينة اسطنبول وكلها بنيت في مطلع القرن العشرين متأخرة كثيرا عن أوربا وإحدى تلك المحطات في الجانب الآسيوي من المدينة وتدعى (هيدر باشا) وقد صممها معماريان أوربيان على الطراز الباروكي لأوربا الوسطى وألمانيا وتم الانتهاء من بنائها عام 1906م. والحقيقة أن مدينة اسطنبول برمتها حاولت أن تكون أوربية وفتحت الباب على مصراعيه للمدن العربية الكبرى كي تتأثر بأوربا وإن كانت القاهرة والجزائر لهما تجربتهما المختلفة جدا فالقاهرة كانت تمثل الثقل العربي القوي وبدأت تجربتها التنموية بموازاة التجربة العثمانية في اسطنبول وكان يمكن ان تكون تجربة أكثر نجاحا من كل محاولات الدولة العثمانية لولا الظروف التاريخية غير المواتية والضعف العام الذي كان يعيشه العالم العربي الذي لم يتنبه لما كان يحدث في أوربا حتى وجد نفسه فجأة مستعمرا من قبل الغرب. بدأت مشاريع السكك الحديد في مصر منذ العام 1850وبدأت اول سكة حديد بين القاهرة والاسكندرية عام 1855وقام الخديو إسماعيل بتخطيط القاهرة في ستينيات القرن التاسع عشر وبدأ في نفس الوقت في حفر قناة السويس، لكنه كان متأثرا بالبذخ العثماني ولم يتنبه لما كان يدبر له فقام ببناء القصور للصديقات والعشيقات (أحدها القصر التابع لفندق ماريوت في جزيرة الزمالك) وأفرغ خزينة الدولة وأدخل مصر في معركة الديون التي انتهت بفرض الانتداب البريطاني على مصر.

علاقة اسطنبول بتاريخ المدينة العربية المعاصر علاقة عميقة ومهمة ويصعب تفسير كثير من التحولات التي مرت بالعالم العربي دون فهم لما حدث في اسطنبول خلال القرن التاسع عشر، خصوصا على مستوى الحواضر الكبيرة التي ارتبطت بعاصمة الخلافة بشكل مباشر، وتأثير تلك الحواضر على المدن والقرى الصغيرة. والذي يبدو لي أن محاولات فهم هذه العلاقة غير جادة بما فيه الكفاية فهناك الكثير الذي يجب أن يعمل من أجل نفض الغبار عن هذه العلاقة المهمة التي ستجعلنا بكل تأكيد نفهم بشكل أفضل ما حدث في العالم العربي في فترة تاريخية مهمة ما زلنا نعيش تأثيرها علينا حتى اليوم.