إدارة الأزمــات أم إثـارتها

إدارة الأزمــات أم إثـارتها
دكتور / عبد الرحمن توفيق
خبيـر التنمية البشرية
[B][COLOR=blue] [/color][/b]

تتوالى الأزمات وتضرب في كل اتجاه وتثير من الأتربة والرمال ما يغلق العين والأذن فلا نرى ولا نسمع صوتاً لإنجاز ولا بريقاً لنجاح.
إن كثرة الأزمات وتلاحقها يدفع المرء للتفكير في التميز بين إثارة الأزمة وإدارتها، فالقصور الإنسانـي يجب ألا يكون مبرراً لإرتكاب الأخطــاء والقدر لا يمكن أن يكون طول الوقت مسئولاً عن الإهمال. كما أن الأساليب التقليدية المستخدمة في التحقيق والتحقق إن كانت تقتص من مرتكب الخطأ أو الخلل إلا أنها لا تمنع وقوع الأزمة مرة أخرى أو إعادة ما فقدناه بسبب التراخي.
إن تكرار وقوع الأزمات وتنوعها وتتابعها يعني ضعف آليات الإنذار المبكر لوقوع الأزمة.
إن الأزمات لا تقع من تلقاء نفسها كما أنها لا تحدث فجأة إنما هي نتاج تداعيات وتراكمات وإهمال وتجاهل وغفله وتبسيط للأمور، وفوق كل هذا هي نتاج عدم تطبيق الأساليب العلمية الحديثة لاكتشاف الأزمات قبل وقوعها وعدم التعلم من الأزمات الواقعية القديمة (الأولمبياد، الحرائق، الغرق، التزاحم، السكك الحديدية، الرياضة، الكادر) وغيرها من الأزمات التي تشير إلى أن هناك مناخاً عاماً تزدهر فيه سلوكيات الغفلة والتبسيط حتى امتلأت الذاكرة بتجارب تدعو للحزن والأسى وامتلأت السجون بالمنحرفين من أعداء المجتمع والحياة. نحن نحتاج إلى نقطة تحول علمية لا نقطة تحول إنفعالية تعيد سيناريو الأزمة وما بعد الأزمة حتى يتم تخزين التجربة في الوجدان القومي للأمة كما استقر فيه.
حريق دار الأوبرا وكارثة قطار الصعيد والعبّارة ودندره العمارات المنهاره والهاربون بحراً في جنح الظلام عوامل عديدة هي التي تحكم نقطة الانتقال من إثارة الأزمات إلى إدارتها.
إلا أن العنصر البشري سيظل النقطة المفصلية في علاج المشكلات وكذلك في حسم المواقف الإدارية والسياسية والتعلم فيها. ولعل الأزمات التي تواجه مواردنا البشرية تتجاوز في آثارها كل حدود أو مدى نظراً لما يترتب عليها من تبعات وردود أفعال تجد صداها في باقي الأنشطة والمهام.
إن قيادة واحدة حاكمة وقادرة ومؤهلة تستطيع أن تتفادى وقوع الأزمات، وتستطيع أيضاً أن تتنبأ بها وتتعامل معها بحكمة وحنكة، في حين أن القيادات غير المؤهلة أحياناً ما تدفع الأمور البسيطة إلى السطح وتصعد من الصراعات والخلافات بما قد يلهب المواقف والمشاعر ويحولها بين يوم وليلة إلى أزمة أو كارثة.
لهذا ستظل الموارد البشرية بكل جوانبها هي نقطة التحول الرئيسية في علاج باقي الأزمات (اقتصادية، سياسية، اجتماعية).
إلا أن الأمر يستلزم بالأساس إيجاد تصور منهجي علمي متكامل للتعامل مع أزمة الموارد البشرية المصرية والتي يمكن إيجاز أهم مظاهرها على النحو التالي:
• أزمة منهجية: وتعني غياب الإطار الفكري الذي تتسق وتندرج داخله فلسفة الأمة باتجاه مواردها البشرية إلى أين تتجه؟ وكيف يتم تطويرها واستثمارها؟ وكيف يتم حمايتها؟ وما هي حقوقها وواجباتها؟ إلى غير ذلك من العوامل الاستراتيجية التي تشكل إطاراً فكرياً رئيسياً للتحرك في الحاضر والمستقبل.
• أزمة بشرية: ونعني بها انعدام الكفاءات المهنية المتخصصة بمجالات التدريب والتنمية البشرية بالصورة التي تتلاءم مع متطلبات التطور والتعلم المستمر، مما يفسح المجال لغير القادرين أو غير المؤهلين للعبث أو اتباع أساليب التجربة والخطأ، لذا تبقى وظائف تنمية الموارد البشرية على مستوى الدولة أقل من مستوى التوقعات والآمال.
• أزمة لوجستية: بمعنى انعدام التنسيق بين الهيئات والجهات والمؤسسات العاملة في مجال تدريب وتنمية الموارد البشرية (المرأة، الطفولة، الشباب، العاملين بالحكومة، العمالة بالقطاع الخاص، ذوي الاحتياجات الخاصة، الجمعيات الأهلية، المعاهد الخاصة) وكيف يتم التنسيق؟ وما هي عناصره أو أجزائه أو الجهات المعنية بإتمام التنسيق؟

• أزمة سلوكية: وتعني غياب الإطار المهني والأخلاقي للممارسين في مجال الموارد البشرية، فما زالت هذه المهنــة والعاملين فيهـا بلا إطـار ولا حــدود يميز بين الممارسات الأخلاقيـــة والــلاأخلاقيـــة في كـــل مـا يتعلق بها.
إن التدخل لعلاج هذه الأزمات إدارياً ومنهجياً سيفسح المجال لتوفير مناخ يسمح بتحرير الطاقات الكامنة للموارد البشرية المصرية، وهو ما يسمح بدوره في تحليل وعلاج الأزمات الإدارية الأخرى ذات العلاقة بالنواحي الإدارية، ومن بينها على سبيل المثال:
o أزمة اختيار القيادات.
o أزمة تأهيل وإعداد القيادات.
o أزمة إعداد الصف الثاني.
o أزمة استثمار وتشغيل العمالة الماهرة وغير الماهرة.
o أزمة انخفاض الرواتب والمكافآت وربطها بالإنجازات الاستثنائية.
o أزمة مراكز التدريب المعدة إعداداً رديئاً لا يتلاءم مع النتائج المتوقعة منها.
وغير ذلك من الأزمات الإدارية والإنسانية للموارد البشرية المصرية التي تحتاج منا لفهمها أن نعود أدراجنا لنحلل ونفهم ماذا نقصد بالأزمة وكيف يمكن تفاديها أو على الأقل تقليل خسائرها.
وبالرغم من أن معظم المنظمات تحجم عن التأهب لمواجهة الظروف السيئة، ويجد القادة في أي مجال الفشل بغيضاً إلى النفس… إذ يصعب عليهم الاعتـراف بأنهم - أو المنظمات التي يرأسونها – موصومون بالغفلة والتهـاون إلا أن الأمر يتجاوز التفضيلات الذاتية إلى الحلول العملية فهل يفكر في النجاح، وهل يخطط له، وهل يرتبط بأناس إيجابيين، وهل نستطيع أن نتخلص من الفاشلين.
إن كنا نستطيع ذلك أو لدينا منهج ورؤية محددة لتحقيق عندئذِ يمكن القول أننا سائرون بالاتجاه الصحيح.
إن الأزمات غير المدارة – بغض النظر عن الظروف الخاصة لكل منها – تتبع نمطاً معيناً، وما أن نفهم ديناميكيات أزمة ما حتى يصبح بوسعنا اختيار الأدوات القادرة على مساعدتنا على تشكيل نتائجها. أولاً: يجب علينا أن نتعرف على بداية الأزمة، وليس هذا بالأمر الصعب مثلما قد يبدو، إذ تكون هناك عادةً فترة محددة سابقة للأزمة… شيء يشبه الإحساس المنذر بحدوث نوبة صداع نصفي: فأنت تعلم أن هناك شيئاً ليس على ما يرام ولكنك لا تدرك كنهه على وجه اليقين. وتتميز هذه الفترة بثلاث مراحل متميزة:
المرحلة الأولى هي عدم الأداء: فهناك شخص ما أو مجموعة ما لا تؤدي الوظيفة المسندة إليها، ويكون الفشل المبدئي ضيئلاً ولكنه يحدث مراراً وتكراراً. هذه الأعمال المتكررة غير متقنة الأداء وإن كانت لا تشكل خطراً في مجملها تمثل إشارة تحذير، فحصص المبيعات المقررة لا يتم تحقيقها والتدفقات النقدية لا تسير وفقاً لما هو متوقع والجداول الزمنية للإنتاج غير ملتزم بها وأهداف الجودة لا يتم بلوغها والميزانيات لا يتم الصرف في حدودها والحسابات المدينة تتقادم على نحو سيء والنماذج الأولية تظهر فيها العيوب والإعلانات لا تستهدف السوق الصحيحة ومعدل دوران الأفراد زائد عن الحد… كل هذه أمثلة لعدم الأداء، وفي هذه المرحلة غالباً ما تتجاهل الإدارة العليا المشكلات.
وتبدأ المرحلة الثانية عندما يتم التعرف على المشكلات، وتكون هذه عادةً فترة طويلة من الإنكار… فيقول الرئيس في العمل “هذه المشكلات ليست حقيقية، ولو كان لدينا منظور واستغرقنا بعض الوقت في وضع الأمور في سياقها الصحيح فسوف نجد أن المشكلات ليست خطيرة حقاً وأنها ستزول”. ولكن حينما لا تزول المشكلات تبدأ الأخطاء في التراكم، وهنا تنزلق الشركة نحو المرحلة الثالثة والأخيرة من فترة ما قبل الأزمة، ويكون الخوف والغضب هما الشعوران المسيطران على هذه المرحلة… فتشتعل الصراعات ويبدأ الجميع في توجيه أصابع الإتهام لبعضهم البعض.
والواقع أن من بين أكبر مسئوليات الإدارة العليا رصد المؤشرات المبكرة لحدوث سلسلة عدم الأداء، ثم الإنكار وتبادل الاتهامات، ثم الغضب والخوف، ولكي تتمكن من ذلك يجب على الإدارة أن تكون على صلة بالعمليات على كافة المستويات. وقد أطلق “توماس بيترز” و “روبرت ووترمان” على هذا الأسلوب اسم “الإدارة بالتجوال” في كتابهما “البحث عن التميز”. وأي مسئول تنفيذي ضليع يعلم أن من بين أقسى العقوبات الانعزال عن بقية المنظمة وأفرادها وعدم وجود مشاركة مباشرة، خطر أن يداهم المرء ما لا يكون متوقعاً. غير أن قلة فقط هي التي تدرك وجود مراحل ما قبل الأزمة هذه، وهذا الإدراك يمكن أن يكون عظيم القيمة حيث أنه يتيح للإدارة اتخاذ إجراء رادع. قد يأتي هذا الإجراء متأخراً، غير أن المبادرة الفعالة المبكرة أفضل من الانتظار حتى تنفتح أبواب الجحيم على مصراعيها.
إن الألم المتولد من الأزمة يسلك مساراً يمكن التنبؤ به بمضي الوقت، فهو يزداد ببطء في مرحلة ما قبل الأزمة، أما عندما تضرب الأزمة الفعلية ينطلق الألم في اتجاه صعودي مثل حمى الغضب حتى يبلغ الذروة، ومع انتهاء الأزمة يهبط الألم ببطء ولكنه يستقر عند مستوى أعلى مما كان عند بداية المرحلة.
إن الأزمة عندما تنشب لا يكون هناك وقت لتبادل الاتهامات، ويكون أوان اتخاذ التدابير الوقائية قد فات، وكل ما يستطيع كبير المسئولين التنفيذيين أن يفعله الآن هو إبداء رد فعل ومحاولة حصر الأضرار الناجمة في أضيق الحدود وكسب الوقت والاستعداد لأيام أفضل، ويكون الفشل هو المرحلة الأولى في فترة الأزمة… فشل ذو أبعاد مدمرة وظاهر لكل ذي عينين.
وما لم تتم إدارة الأزمة، فإن تسلسل مراحلها يكون قابلاً للتنبؤ به نوعاً ما، فخلال فترة ما قبل الأزمة يحقق الرصد والتدخل النفع الأكبر، وفي المرحلة الثانية - حيث الفشل الواضح والضجة الإعلامية المصاحبة والذعر والانهيار - لا يكون هذا هو وقت المديرين والمخططين الاستراتيجيين بل وقت القيادة والمجهودات البطولية التي تتجاوز بكثير المجهودات اليومية العادية حتى من جانب أفضل المسئولين التنفيذيين.
وفي مرحلة ما بعد الأزمة يعيد التغيير الجذري ترتيب كل شيء وتنتقل السيطرة إلى لاعبين جدد. إن النقطة الجوهرية في إدارة الأزمة هي تحطيم تسلسل الأزمة غير المدارة والتنبؤ بالأحداث.

وقد ازدادت احتمالات حدوث الأزمة في حياتنا العملية خلال السنوات القليلة الماضية نتيجة التوسع الهائل في عدد المنشآت وتعدد مجالات نشاطها وتعقد آليات عملها والاطمئنان المفرط إلى توفر الوعي والقدرات والكفاءات التي يمكن أن تدرأ الأخطار عن المنشأة في تصورنا، بنفس القدر الذي استطاعت به أن تلحق بعجلة التطور والتقدم من الناحية المهنية العملية والفنية. وذلك على الرغم من خطورة النتائج التي يمكن أن تسفر عنها أزمة متوسطة، ليس أقلها أن تتوقف حركة العمل في المنشأة تماماً لبعض الوقت