ممر(التنمية والتعمير).. رؤية نقدية

يدور الحديث منذ فترة غير قصيرة عن ممر «التنمية والتعمير» الجديد فى الصحراء الغربية الذى اقترحه العالم الجيولوجى المصرى الكبير د. فاروق الباز، إلا أن هذا الحديث قد اكتسب زخما وتسارع بشكل كبير أثناء وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. وما أثار رعبى أنه قد بدأ الحديث مؤخرا عن طرح هذا المشروع العملاق فى البورصة المصرية.
بداية، أرجو ألا أفهم على أننى أقوم بدور المثير لليأس أو الفزع أو الساعى إلى الظهور أو الباحث عن دور من خلال التطاول على الكبار، فهم كبار رغم أنوفنا. أما عن دواعى الفزع الذى انتابنى فترجع إلى يقينى التام بعدم جدوى هذا المشروع وخطورته للأسباب التالية:

التكلفة والعائد

السبب الأول: أن هذا الطرح تغلب عليه العاطفة الوطنية أكثر من الواقعية والتوازن بين التكلفة والعائد، وهما مبدآن مهمان يلزم التقيد بهما عند التخطيط للتنمية فى دول العالم النامى ذات القدرات المالية المحدودة، وخصوصا فى مثل هذا المشروع العملاق ذى التكلفة الباهظة التى أجزم أن دولا كبرى كالولايات المتحدة ستتردد كثيرا فى تحملها.
وفى ضوء كون الدافع الرئيسى لمثل هذه المشاريع عادة ما يكون سياسيا أكثر منه اقتصاديا أو تنمويا، فقد فشلت غالبية هذه المشاريع فى دول العالم النامى، وفى منطقتنا العربية على وجه الخصوص. فطبقا لبيانات وتقارير البنك الدولى فإن أكثر من 80 % من مشروعات «ممرات التعمير» حول العالم قد فشلت اقتصاديا وبيئيا، وهو ما دفع البنك الدولى وصندوق النقد الدولى إلى وقف تمويل مثل هذه المشروعات. وأقرب هذه الأمثلة هى محاولة المملكة العربية السعودية فى سبعينيات القرن الماضى توفير الاكتفاء الذاتى من القمح، والذى يبدو هدفا وطنيا لا يمكن الاختلاف عليه، إلا أن ارتفاع تكلفة الإنتاج، والتى تجاوزت عدة أضعاف السعر العالمى، جعل المملكة العربية السعودية، رغم قدرتها الاقتصادية الهائلة، تتراجع عن هذا المشروع رغم ما تم ضخه فيه من استثمارات هائلة.
كما أن التكلفة البيئية لهذا المشروع، متمثلة فى الاستهلاك الكثيف للمياه الجوفية، كانت أكبر من أن تحتمل. وهو ما يجعلنى أرى أن تراجع المملكة العربية السعودية عن هذا المشروع كان تصرفا عقلانيا مسئولا. أما المثال الصارخ الثانى فهو مشروع «النهر العظيم» فى ليبيا، والذى لا أعتقد أن هناك من مخططى التنمية من يعتقد بعقلانية الدخول فيه وتحمل كلفته الاقتصادية والبيئية الهائلة. هذان المثالان فى جارتينا الشرقية والغربية، رغم إمكانيتهما الاقتصادية الكبيرة، يستوجبان منا عدم الدخول فى مثل هذه المشاريع، خصوصا أن تمويلها سيتم بالدين، سواء الخارجى أو الداخلى، أو من خلال بيعه قبل إنشائه.

عدم وضوح الرؤية

السبب الثانى: أن مراجعة ما نشر حول هذا المشروع من تقارير وتصريحات تشير إلى أن هناك قدرا كبيرا من الضبابية وعدم وضوح الرؤية حول طبيعة وأهداف هذا المشروع باهظ الكلفة. فما نشر عن طبيعة هذا المشروع وما يتضمنه من طرق سريعة وسكك حديدية فائقة السرعة تخترق صحراء مصر الغربية من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، وما على جانبيها من مسطحات زراعية ومدن، يجعلنا أمام نموذج من أحلام اليقظة أو الخيال العلمى. أعرف أن البعض قد يعترض على هذا الرأى ولكن تمحيص ما ذكر من أهداف لهذا المشروع قد يبدد هذا الاعتراض.
فقد جاء فى مقال منشور فى موقع «أخبار مصر» بتاريخ 24 /02 /2011«إن مشروع «ممر التنمية» سيغير وجه مصر ويفتح آفاقا جديدة للنمو العمرانى والزراعى والصناعى بالقرب من التجمعات السكنية وإنشاء 200 مدينة جديدة ونصف مليون قرية على جانبى ممر التنمية» ويتأكد أن هذه الأهداف نوع من أحلام اليقظة إذا ما علمنا أن كل ما أقامته مصر من مدن وقرى، على ضفاف النيل وفى دلتاه لا فى قلب الصحراء، وعبر آلاف السنين لم يصل إلى هذا العدد. كما أن تنمية كل هذا العدد من المدن والقرى وما تتطلبه من قاعدة اقتصادية زراعية وصناعية سيتم اعتمادا على المياه الجوفية. ولا يخفى على القائمين بعمليات التنمية فى المناطق الصحراوية ارتفاع كلفة استخراج المياه الجوفية، خصوصا كلما زاد عمر المشروع وكلما زاد عمق منسوب المياه الجوفبة. كما أن السحب الكثيف من المياه الجوفية التى يتطلبها هذا المشروع سوف يجعل المشروع برمته مشكوكا فى جدواه الاقتصادية وفى استمراريته سواء من حيث توافر المياه الجوفية أو تكلفة استخراجها.

أولويات التنمية

السبب الثالث: يتعلق بأولويات التنمية، وهل هذا المشروع يمثل أولوية متقدمة لمصر فى ظل ظروفها الاجتماعية والاقتصادية الراهنة؟. ومما لا شك فيه أن مصر الآن فى حاجة إلى مشاريع ذات عائد اقتصادى واجتماعى سريع وذات مستوى مخاطرة منخفض، وهو حتما ما لا يوفره هذا المشروع. إذ إن ما ذكر فى النقطتين السابقتين يؤكد ارتفاع مستوى المخاطرة فيه، كما أن عائده، بافتراض جدواه الاقتصادية، سيكون على المدى البعيد، وهو ما لا يستطيع تحمله إلا الاقتصادات ذات القدرة الذاتية على التمويل.
أما تمويل هذه المشاريع بالدين فيجعل من توقع هذا العائد أمرا مشكوكا فيه، أو محدودا جدا فى أفضل التوقعات. لذا، تمثل المشاريع الصناعية والخدمية متوسطة الحجم غير كثيفة رأس المال، والتى يستطيع القطاع الخاص المحلى تمويلها، أولوية متقدمة.
كما أن التوسع الزراعى على هوامش الصحراء فى وادى النيل والدلتا، خصوصا على الطريق الصحراوى الغربى وبموازاة نهر النيل، يعتبر أولوية متقدمة فى مجال التنمية الزراعية فى مثل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى تمر بها مصر. كما أن ذلك يتماشى مع مبدأ التدرج فى عمليات التنمية والاستثمار الذى يتناسب مع قدرات مصر الاقتصادية وظروفها فى تلك المرحلة بالغة الحساسية. كما أن ذلك التدرج يُمَكن الدولة من القيام بعمليات التقويم والمراجعة والتعديل طوال فترة التنفيذ.

استثمارات محدودة

وإذا ما أخذنا كل هذه الأسباب فى الاعتبار، وبمقارنتها بالتكلفة التقديرية المتوقعة لهذا المشروع والبالغة 243 مليار جنيه (أخبار مصر ــ 15 يناير 2009)، والتى نتوقع أن تكون أضعاف هذا الرقم بعد أن نغرق بالبدء فيه، أعتقد أن الفزع الذى أصابنى بعد الحديث عن طرح هذا المشروع فى البورصة المصرية يبدو مبررا.
إن مصر اليوم وفى ظروفها الراهنة لا تستطيع تحمل العواقب الاقتصادية والاجتماعية لمغامرات بهذا الحجم. إننا فى هذه الفترة فى حاجة ماسة إلى العقلانية والرشد عند توجيه تلك الاستثمارات المحدودة. الأمر الذى يستوجب أن نضع «البعد عن المخاطرة» كمعيار أساسى يسبق العائد المتوقع، مهما كان عاليا، عند المفاضلة بين هذه المشاريع. كما أن ذلك يستلزم ألا ننساق وراء أحلام وطموحات تفتقر إلى الواقعية ولا تحقق الموازنة بين التكلفة والعائد. وإذا كنا قد اقتنعنا خلال العقود الماضية بأهمية «ترشيد الإنفاق»، فإن «ترشيد الاستثمار» يصبح اليوم أكثر أهمية، خصوصا عندما يكون من المتوقع أن يتحول هذا الاستثمار إلى إنفاق، أو إهدار، غير مبرر.
http://208.43.71.196/arabic/nama/news/130199-2011-04-17-09-13-21.html