الدولة الديمقراطية قبل المدنية أو الدينية

فهمي هويدي
أرأيت كيف استدرج الناس فى مصر إلى الجدل حول المفاضلة بين الدولة المدنية والدولة الدينية، فى حين أننا لم نخط خطوة تذكر باتجاه تأسيس الدولة الديمقراطية.

(1)

هى “موضة” الموسم إن شئت الدقة، أن يتنافس نفر من المثقفين على مديح الدولة المدنية وهجاء الدولة الدينية وأن تروج وسائل الإعلام لذلك الجدل، الأمر الذى دفع كثيرين إلى الركض وراءهم ومحاولة الترجيح بين الكفتين، لذلك لم يكن غريبا أن تتعدد الندوات، التى تعقد لهذا الغرض، وكنت واحدا من «ضحايا» هذه الموضة، حيث لم يتسع وقتى هذا الشهر لأكثر من المشاركة فى ندوتين، إحداهما فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة، والثانية بكلية الطب فى جامعة عين شمس. وما كان للناس أن ينشغلوا بهذا الموضوع لولا كثافة الضخ الإعلامى، الذى تناول الموضوع، ونقل البلبلة والحيرة إلى قطاعات عريضة فى المجتمع. ذلك أنه فى غيبة رؤية واضحة لترتيب أولويات المرحلة، فإن المثقفين المهيمنين على منابر الإعلام باتوا يفرضون اهتمامهم وحساباتهم على الرأى العام، بل أصبحت ضغوطهم تؤثر أيضا فى القرارات التى تتخذ، بحيث بدا بعضها مستجيبا للضجيج والضغوط الإعلامية بأكثر من استجابته للمصالح الوطنية العليا.

الموضوع ليس جديدا، رغم أن المصطلح مستحدث فى الخطاب العربى. فالثقافة العربية عرفت الأنشطة الأهلية والجمعيات الخيرية، وكان نظام «الوقف» هو الصيغة التاريخية التى ابتكرها المسلمون للتقرب إلى الله من خلال المشاركة فى بناء مجتمعاتهم وإعمار الأرض، وقد اقتبسها الغربيون ونقلوها عن الدولة العثمانية فى القرن التاسع عشر. ورغم أن فكرة المجتمع المدنى ظهرت فى أوروبا فى القرن الثامن عشر، وكانت موضوعا للمناقشة بين الفلاسفة والمفكرين، إلا أن المصطلح تم تداوله فى مصر والعالم العربى منذ ثلاثة عقود تقريبا، برز خلالها الحديث عن منظمات المجتمع المدنى، التى كانت قد نمت وتعاظم دورها فى المجتمعات الغربية، وهذا لا يخلو من مفارقة، لأن الغربيين نقلوا عنا فكرة الوقف فى القرن الثامن عشر، ثم استوردنا نحن منهم مصطلح المجتمع المدنى فى القرن العشرين.

فى الثمانينيات حين برز مصطلح المجتمع المدنى فى وسائل الإعلام. أثار ذلك انتباه الشيخ محمد الغزالى رحمه الله، فاستفسر عنه قائلا: إنه يعرف المجتمع المكى والمجتمع المدنى الذى يميز أهل مكة والمدينة فى الحجاز. ويعرف أيضا المجتمع المدنى، الذى يعد نقيضا لذلك الذى يحكمه العسكر. كما يعرف المجتمع المدنى المشتق من المدينة بمعنى الحضر، وهو متميز عن المجتمع القروى أو الريفى، ثم سألنى: هل المجتمع المدنى الذى يتحدثون عنه يندرج تحت أى من التصنيفات؟

(2)

ليس الشيخ الغزالى وحده الذى التبس عليه الأمر. لأننى من خلال الندوات التى حضرتها متحدثا أو مستمعا أدركت أن المصطلحين (الدولة الدينية والمدنية) بحاجة إلى تحرير، وإن الالتباس واقع فيهما إلى حد كبير، وهو ما دفعنى إلى الرجوع إلى ما أمكن الوصول إليه من مراجع ودراسات حول الموضوع. كما اننى قمت فى الوقت ذاته بتجميع القصاصات والمقالات التى تناولته فى الصحف على الأقل.

الكلام فى تعريف الدولة الدينية كان التوافق حوله أكبر. ذلك أن أحدا لم يختلف حول أنها الدولة التى يدعى القائمون عليها أن بقاءهم اختيار من الله وأنهم يمثلون إرادته سبحانه وتعالى، بالتالى فإنهم لا ينطقون عن الهوى، ولكنهم مفوضون عن الله، لذلك فإن كلامهم لا يرد، وعصيانه لا يعد خروجا عن الطاعة فحسب، ولكنه يعد خروجا من الملة وتحديا لإرادة الله، النموذج الذى يضرب به المثل فى هذا الصدد هو ممارسات الكنيسة التى سنعرض لبعضها بعد قليل.

فى الدولة المدنية الوضع مختلف، فالقائمون عليها يختارهم الناس. ومصير البلد لا يقرره فرد. لأن كل الناس فيه سواء، يتمتعون بحق المواطنة الذى يقرر لهم المساواة فى الحقوق والواجبات. والبلد تديره وتقرر مصيره المؤسسات التى ينتخبها المجتمع. أما رأس الدولة فكلامه يؤخذ منه ويرد، وهو قابل للمراجعة والمساءلة. ومن الفلاسفة من يتحدث عن بعد أخلاقى للدولة المدنية، إذ يرون أنها لا تقوم فقط بقيام المؤسسات وتحقيق المساواة بين المواطنين، لكنها تقوم أيضا بتحقق الرقى فى السلوك الاجتماعى، الذى بمقتضاه تسود قيم وأخلاق المدن التى يفترض أنها الأكثر تهذيبا. فى ذات الوقت فإن الدولة المدنية لا تأبه بالمرجعيات ولا تتدخل فى عقائد الناس وأفكارهم. إذ لا تهم مرجعيتك التى تنطلق منها، ولكن الأهم هو أداؤك واحترامك للنظام العام والقانون. وهى ليست نقيضا للدين ولا تستبعده، ولكنها تحتوى المؤسسات الدينية وغير الدينية، وتفتح ذراعيها لإسهام الجميع فى تحقق المقاصد العليا للمجتمع.

(3)

هل عرفت الخبرة العربية والإسلامية الدولة الدينية بالمعنى المتقدم؟ وهل يمكن أن يكون لها وجود فى زماننا؟ ــ ردى على السؤال أنه منذ انقطاع الوحى عن النبى محمد عليه الصلاة والسلام، فإن أحدا من حكام المسلمين لم يجرؤ على الادعاء بانه مفوض من الله… وقد اعتبر الإمام محمد عبده فيما نشر له أوائل القرن الماضى أن قلب السلطة الدينية والاتيان عليها من أساسها بمثابة أصل من أصول الإسلام. وقال إن الإسلام: هدم بناء تلك السلطة ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم… وأنه: ليس لمسلم مهما علا كعبه فى الإسلام، على آخر مهما انحطت منزلته فيه إلا حق النصيحة والإرشاد. مضيفا أن الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم ولا هو مهبط الوحى… إذ الأمة هى التى تنصبه، وهى صاحبة الحق فى السيطرة عليه، وهى التى تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدنى من جميع الوجوه.

أضاف الأستاذ الإمام فى رده على فرح انطون صاحب مطبوعة «الجامعة» أنه: لا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (ثيوكراتيك) أى سلطان إلهى. فإن ذلك عندهم هو الذى ينفرد بتلقى الشريعة عن الله، وله فى رقاب الناس حق الطاعة… وهكذا كانت سلطة الكنيسة فى العصور الوسطى، ولا تزال تدعى الحق فى هذه السلطة… وكان من أعمال التمدن الحديث الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية.

وهو يدلل على نفوذ السلطة الدينية فى التجربة الغربية، تحدث عن منشور أصدره البابا فى سنة 1864 لعن فيه كل من يقول بجواز خضوع الكنيسة لسلطة مدنية أو جواز أن يفسر أحد شيئا من الكتب المقدسة على خلاف ما ترى الكنيسة أو يعتقد بأن الشخص حر فيما يعتقد، وفى منشور له سنة 1868 قال إن المؤمنين يجب أن يفدوا نفوذ الكنيسة بأرواحهم وأموالهم. وعليهم أن ينزلوا لها عن آرائهم وأفكارهم. وبعد ذلك بثلاث سنوات (فى سنة 1871) وقد وقع نزاع بين حكومة بروسيا والبابا بشأن أستاذ بإحدى الكليات رأى رأيا لا يروق للحزب الكاثوليكى، فحرمه البابا وطلب من الحكومة عزله، إلا أن حكومة بسمارك نصرت مدنية القرن التاسع عشر على سلطان الكنيسة، وأبقت على الأستاذ، وجعلت التعليم تحت السلطة المدنية (د. محمد عمارة ــ الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ــ جـ3).

الخلاصة أن الدولة الدينية تجربة غربية بالأساس قدمت الكنيسة نموذجا لها فى العصور الوسطى. وليس لها مثيل فى خبرة المجتمعات الإسلامية، وليس صحيحا ما يدعيه البعض من أن النظام الذى قام فى إيران بعد ثورة 1979 الإسلامية يعد نموذجا للدولة الدينية بمفهومها التقليدى ذلك أنها رغم التزامها النسبى بالتعاليم الإسلامية، فإن النظام هناك ليست له قداسة من أى نوع. ذلك أن رأس الدولة (المرشد أو القائد) لم يدع أنه يحكم باسم الله أو مفوض منه، ومعارضوه لم يطعن أحدهم فى دينهم، ولم يكفرهم أحد. حتى «مجاهدى خلق الذين أشهروا السلاح فى وجه النظام ولا يزالون يدعون إلى إسقاطه بالقوة. اتهموا فقط بأنهم «منافقون»، ولم يخرجهم أحد من الملة. وللعلم فإن صلاحيات المرشد هناك فيما يوصف بأنه دولة دينية كانت أقل من صلاحيات الرئيس السابق مبارك (فى دستور عام 1971). ذلك أن الأول لا يملك حق حل البرلمان المنتخب من الشعب، فى حين أن مبارك كان مخولا فى ذلك.

(4)

عندى أكثر من ملاحظة على الإلحاح على المقابلة بين الدولتين الدينية والمدنية هى:

< إن استدعاء فكرة الدولة الدينية التى اندثرت من الغرب ولم يكن لها وجود فى الخبرة الإسلامية يستدعى أكثر من سؤال، أحدها ينصب على الدافع إلى ذلك، والثانى يتعلق بإمكانية تحقيقه على أرض الواقع. ذلك أنه فى زماننا يتعذر على أى سلطة أو شخص أن يدعى أنه مفوض من الله أو يتحرك باسمه. وفى أسوأ الفروض وأبعدها فإنه لو فعلها فلن يجد من يصدقه أو يمشى وراءه.

< إن الذين فاضلوا بين الصيغتين لترجيح كفة الدولة المدنية لم ينشغلوا بمسألة الديمقراطية، التى يمكن أن تغيب فى الحالتين. وهو ما يعطى انطباعا قويا بأن إصرارهم على طمس أى هوية دينية ــ إسلامية تحديدا ــ بدا أقوى من حرصهم على تأسيس الدولة الديمقراطية، وللعلم فإن كل المستبدين فى العالم العربى يباشرون سلطانهم ويرتكبون جرائمهم فى ظل دول مدنية وبعضها موغل فى مدنيته.

< إن استحالة إقامة الدولة الدينية مع استمرار هجائها والتنفير منها، وكيل المدائح للدولة المدنية، لا يمكن تفسيره إلا بأن المراد به التنفير والتخويف مما هو منسوب إلى الدين، خصوصا فى ظل الصعود الإعلامى للتيارات الإسلامية فى المجتمع المصرى بعد ثورة 25 يناير. وإذا صح ذلك فإن الجدل الراهن حول الدولتين يصبح فى حقيقته جزءا من التعبئة التى تمهد للحملة الانتخابية المقبلة. فى شهر سبتمبر.

< إن أعلى الأصوات فى هجاء ما هو دينى وترجيح ما هو مدنى لأشخاص لهم سجل مشهود فى الدفاع عن العلمانية والدعوة إلى تهميش دور الدين. الأمر الذى يدل على أنه بعدما أصبح مصطلح العلمانية سيئ السمعـــة ومرفوضــا من جانب المجتمع، فإن المبشرين به أصبحوا لا يجرءون على الكشف عن هويتهم الحقيقية، وقرروا جميعا أن يختبئوا وراء قناع المجتمع المدنى.

< يؤيد النقطة السابقة أن الذين دأبوا على هجاء الدولة الدينية تحدثوا عن الإسلام بلغة المستشرقين. فقد انطلقوا من أنه ينفى الآخر ويقمعه، رغم سجله المشهود فى احتواء الجميع باختلاف مللهم ونحلهم. كما انهم تجاهلوا تماما الخبرة المدنية العريضة فى التجربة الإسلامية، التى حققت نجاحات كبيرة على مدار التاريخ ممثلة فى الأوقاف التى ظلت تؤدى دور الرافعة للمجتمع الإسلامى، ولا تزال تؤدى دورها الحيوى حتى الآن فى المجتمع التركى.

إن الإلحاح على إقصاء الإسلام بحجة مدنية الدولة لا يعيد إنتاج خطاب النظام الإقصائى السابق فحسب، ولكنه يشكل تحديا بل عدوانا صارخا لإرادة الأغلبية الساحقة من المصريين، الأمر الذى قد تكون له عواقبه الوخيمة على الاستقرار والسلم الأهليين.

إننى أخشى من استمرار إشغال الناس بجدل مشكوك فى براءته ومقاصده حول الدولة الدينية والدولة المدنية، فنبدد طاقتنا ونضيع وقتنا، وننشغل عن إقامة الدولة الديمقراطية، التى هى المشكلة وهى الحل.
http://www.onislam.net/arabic/newsanalysis/analysis-opinions/130243-2011-04-19-09-58-11.html

دكتور فهمى هويدى طول عمره راجل محترم جدا وانا اقدره بشده وجزاك الله خيرا يا باشمهندس احمد ربنا يكرمك دائما سباق فى الخير والدعوة اليه

شكرا لردك الطيب

الكلام فى تعريف الدولة الدينية كان التوافق حوله أكبر. ذلك أن أحدا لم يختلف حول أنها الدولة التى يدعى القائمون عليها أن بقاءهم اختيار من الله وأنهم يمثلون إرادته سبحانه وتعالى، بالتالى فإنهم لا ينطقون عن الهوى، ولكنهم مفوضون عن الله، لذلك فإن كلامهم لا يرد، وعصيانه لا يعد خروجا عن الطاعة فحسب، ولكنه يعد خروجا من الملة وتحديا لإرادة الله، النموذج الذى يضرب به المثل فى هذا الصدد هو ممارسات الكنيسة التى سنعرض لبعضها بعد قليل.

كلام فعلاً رائع، وهو ينطبق مع ما بحت به أصواتنا، أن الدولة الدينية لا تتقابل مع دولة الإسلام في أية محطة

وليس صحيحا ما يدعيه البعض من أن النظام الذى قام فى إيران بعد ثورة 1979 الإسلامية يعد نموذجا للدولة الدينية بمفهومها التقليدى ذلك أنها رغم التزامها النسبى بالتعاليم الإسلامية، فإن النظام هناك ليست له قداسة من أى نوع. ذلك أن رأس الدولة (المرشد أو القائد) لم يدع أنه يحكم باسم الله أو مفوض منه، ومعارضوه لم يطعن أحدهم فى دينهم، ولم يكفرهم أحد.

أما هذا الكلام فهو غير صحيح على الإطلاق ويبدو أن الدكتور فهمي لم يتوغل كثيراً في معتقدات الحكومة الإيرانية، الحكومة الإيرانية حكومة “شيعية إمامية إثنا عشرية رافضية صفوية خمينية” وهذه التركيبة تعني أنهم يؤمنون بولاية آل البيت فقط وهو وحدهم من يستحقون الحكم، ونظراً لأنه لا إمام الآن من آل البيت وأنهم طال بهم انتظار خروج الحسن العسكري (أو ابنه لا أذكر) من السرداب فإن الخوئي وبعض أقرانه ابتدعوا بدعة آية الله العظمى (كما قال ابن الخوئي نفسه) وهي أحد المنافذ التي ابتدع منها الخميني بعد الثورة بدعة جديدة آمنت لها أغلب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية حتى من كانوا خارج إيران، ألا وهي بدعة “ولاية الفقيه” وبذلك وحتى لا يقعون في خلاف مع أهل السنة لأن ذلك يطعن في أصل العقيدة الإمامية وهو أن الولي لابد أن يكون معصوماً وأن يتلقى التأييد من الله، فقضوا بأن ما للولي الغائب فهو للفقيه، وصار هذا المنصب يورث، وأنه لابد من فقيه له ولاية (وهو بخلاف المراجع) إذ أنه مرجع المراجع، أو بصيغة أخرى فإن المراجع مقلدوه، هناك فيديو لحسن نصر الله لو استطعت أن ارفعه سأرفعه إن شاء الله وهو يلخص هذا الموضوع في كلمتين، ولو تابع أحد منكم خطاباً للخميني أو حتى الخمنئي سيرى أنه يكتبون آية “وكلمة الله هي العليا” وكلمة الله منها آياته، والولي “آية الله” ولا سيما “آية الله العظمى” وهو ما يعني أنه هو “كلمة الله العليا”

المهم أن الدولة الإيرانية دولة ثيقراطية من العيار الثقيل، وأنا لا أدري كيف فات على الدكتور الهويدي أنه صدر حكم بالإعدام لحد الردة ضد موسوي بسبب خروجه على ولاية الفقيه قبل عام واعتراضه على إقرار الفقيه لنتيجة الانتخابات المزورة
أنا أقول هذا الكلام لأن نفاية النظام الثيقراطي عن دولة تزعم أنها تحكم بالإسلام يعتبر خطراً كبيراً على المنهج الحق، ومثالاً منفراً من النظام الإسلامي