الجهاد الأكبر بقلم الدكتورة هبة روؤف عزت

علي صفحة الفيس بوك أرسل لي صديق شاب فكرة عن الهجرة من الوطن أو داخله، وفي اليوم التالي أرسلت لي صديقة من نفس جيله رسالة بسؤال مشابه علي هاتفي المحمول عن ترك الوطن والهجرة…لوطن آخر، فجلست أتأمل في فكرة الهجرة، تلك التي تعني فقدان الأمل أو غلبة الخطر أو الشعور بتعثر الجهد أو انسداد الأفق.

وزاد همي الوعي بأننا في العادة نلوم الفرعون وأسرته الحاكمة، وبطانته الفاسدة، وهامان وحلفاءه من حزب قارون، وجنده الذين استخفهم فأطاعوه.

لكن يبقي السؤال: مَنِ الذي يصنع الاستبداد، هل هو المستبد المتغلب علي السلطة والقابض علي مفاتيح الخزائن والسجون،
الممسك بزناد الترويع والبطش، أم الشعب الذي يقبل بهذا دون أن يحرك ساكناً أو حتي يفتح فماً؟! نعم الحكومة فيها فساد للأكتاف وليس للركب فقط، وهناك قبضة أمنية، وبطش سياسي، وسطوة لرجال الأعمال علي صنع القرار، ونهب للمال العام بعقود قانونية لكن تقديراتها وهمية، ونفعية، وتدمير لقطاعات كاملة، لكن هذا ليس له صلة بأن نلقي القمامة من نوافذ المطابخ لتملأ بها مناور العمارات بدلاً من إحكام وضعها وربطها في أكياس وتركها لدي البواب في انتظار الزبال، وذلك إما لأن هذا أسهل أو هروباً من دفع مقابل للمسكين بعد أن صارت رسوم القمامة علي إيصالات النور-وهذه من الأمور المضحكة لأن الدولة الجابية تأخذ الرسوم ولا تقدم الخدمة- عادي: بلطجة رسمية.

وما صلة الوضع السياسي والفساد بسلوك التبول في الطريق العام الذي يمارسه الرجال في مصر بكل أريحية تحت الكباري وفي الطرق العمومية وعلي الطرق السريعة وعملياً في أي مكان!

ما صلة هذا بأن تزيد درجة العنف في الشارع حتي يضرب بعضنا بعضا؟ طيب الرجال يضربون بعضا… مسألة تحدث وتتعلق بالهرمونات والثقافة الذكورية وبعض الوحشية عند البعض، لكن أن يحدث احتكاك بسيط بين سيارة يقودها شاب وسيارة تقودها فتاة فينزل -لا ليشتمها لا سمح الله- بل ليضربها في وجهها عدة لكمات ثم يركب سيارته ويمضي في سلام، فهذا جديد.

ما صلة هذا بأن يزيد رصيد كلمات الشتائم في القاموس اليومي في الرضا والغضب، بل يصبح استخدام الكلمات النابية والشتائم القبيحة جزءاً من لغة الشباب في أرقي الجامعات والنوادي، ناهيك عن أبسط العشوائيات والأحياء، أو أن يحتال الناس في قضايا الأحوال الشخصية كي يحرموا أماً وأبناءها من النفقة التي تستحق أو ينزعوا عنها حضانة أبنائها، ويتواطأ الأقارب وليس منهم رجل رشيد؟!

ما دخل استبداد الحكومة بأن يتحرش أحدهم بفتاة محجبة ليس في صحراء مدينة نصر بل في محطة المترو في شبرا فلا يتحرك أحد، إما لأن الفتاة دائما متهمة «واقعدوا في بيوتكم واتلموا بقي»، أو لأن الناس لم يعد عندها أي قدر من المروءة ولا أحد يريد أن يوجع دماغه أو ينتهي به الوقت بتعطيل نفسه في القسم في محضر؟!.

ما دخل فساد النظام وقضية التوريث بأن يترك الناس امرأة عجوز في ميدان التحرير واقفة تنتظر من يعبر بها الطريق ولا يلاحظها أحد، أو أن يرفع أحدهم صوت المذياع من ميكروفون مسجد أو كاسيت سيارة أو قلب مأتم فيخرم أذن من لديه صمم حتي ولو كان بتسجيل لترتيل القرآن، أو يفعل آخر الشيء نفسه بأغنيات سافلة. ما دخل تقصير انهيار السياسة الزراعية بأن الناس لم تعد في الريف كما كانت من قبل وأن التنازع والصراع دخل العائلات التي كانت متضامنة من قبل وعلي قلب رجل واحد، فقتل الأخ أخيه أو حرم أخته من الميراث.

نعم بالطبع الفقر أذل أعناق الرجال، لكن ذلك دون اختيار، ويمكن أن تذل الأعناق قسراً دون أن تنحط دخائل النفوس، ونغم اتساع المدن أدي لتفكك العلاقات الإنسانية لكن لا يعني هذا أن يتحول الإنسان لوحش كاسر يمتهن أمه ويطرد أخته من بيت أبيه بدلاً من أن يرعاها ويكون لها السند والكفيل. أو أن يتم التعامل بين الجيران وكأنه بين المستوطنين وأهل القدس الشرقية، وأن تتآكل البنية التحتية من الأخلاق رغم كثافة القشرة الدينية لدينا كمصريين-مسلمين ومسيحيين.

قد يصبح من التفاؤل توقع أن ينتفض الناس علي نطاق واسع مطالبين بحقوقهم المنهوبة، فالجبن سيد الأخلاق حين تكون عصا البطش عمياء أو حين يصبح محض البقاء هو الأمل الوحيد، لكن يمكن أن نطالب أنفسنا بسلوك أرقي وأخلاق أفضل ومعاملات أرحم وصبر أرحب.

نضالنا القومي من أجل الجمهورية في مواجهة هيمنة السلطة يتضمن المسار السياسي، والنضالي الحقوقي، وصولاً للحق المشروع في العصيان المدني الذي دعا له منذ سنوات المستشار طارق البشري -بارك الله في عقله وعمره- «والذي تسميه الدولة تحريضاً وتريد تجريمه بعقوبات موتورة»، لكن هناك نضال أهم، هو نضال الجمهور الذي سيحمل قيم الجمهورية وصياغة مجتمع متمدن أخلاقي يجعل الدين منطلقا لإعمار الدنيا والثروة رأس مال لتحقيق العدل.

فإذا غلب البطش علي الشجاعة، والسلطان علي العنفوان- ولو إلي حين- فإن الإنسان الفرد سيواجه تحدي أن يبقي إنساناً آدمياً، والمجتمع يجب أن ينتفض كي يبقي حياًً تراحمياً…لأنه لو أفلح الاستبداد في تدمير البنية الأخلاقية والمجتمعية كما دمر البنية السياسية والاقتصادية فإننا نكون قد خسرنا الحرب برمتها وليست إحدي المعارك فحسب.
أن نناضل بقوة من أجل إصلاح ذات البين وأن يبقي الإنسان إنساناً… هذا هو الجهاد الأكبر.