فهمى هويدى يكتب : حكاية الحدود

إثارة موضوع تطبيق الحدود الشرعية فى الإعلام المصرى هذه الأيام لا تفسير له إلا بأحد أمرين: إما خبث القصد أو قلة العلم، والأول أسوأ من الثانى باعتبار أن سوء النية مبيَّت فيه. ذلك أن قارئ الصحف المصرية يلمح فى الأسابيع الأخيرة على الأقل إشارات واضحة تضع الفكرة على ألسنة بعض المنتمين إلى التيار الإسلامى. من قبيل ما قرأناه فى إحدى الصحف «المستقلة» صحيفة يوم 11/5 عن أن عددا من قيادات التيارات الإسلامية «كشفوا عن أن التحالف بينهم فى الفترة الأخيرة، رغم تباين مرجعياتهم الفكرية، هدفه إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الحدود». ولم تكن تلك هى الإشارة الوحيدة بطبيعة الحال، ولكنها الأحدث فى سلسلة الإشارات المماثلة. وإذا أخذتها نموذجا فستدرك أننا بصدد صياغة «مفخخة» لم تستدع فقط فكرة إقامة الدولة الإسلامية وإقامة الحدود، ولكنها اعتبرت ذلك هدفا اجتمعت عليه مختلف التيارات الإسلامية فى «تحالف» جديد عقد بينها.
وحين حاولت التثبت من هذه المعلومات فإننى رجعت إلى الذين وردت أسماؤهم فى الخبر المنشور، وفى مقدمتهم الاستاذ صبحى الصالح عضو مكتب الإرشاد فى جماعة الإخوان، فقال لى إن الكلام جزء من الدسائس الإعلامية التى تروج هذه الأيام لأسباب مفهومة.

حيث لا يوجد ما يمكن أن يسمى «تحالف» بين التجمعات الإسلامية، وإن كان من الطبيعى أن تجرى اتصالات معها، شأنها فى ذلك شأن مختلف الجماعات الموجودة على الساحة. ووصف تلك الاتصالات بأنها «تحالف» يراد به وضع الجميع فى سلة واحدة لتعميم الإدانة والاتهام عليهم، خصوصا فى الأجواء الراهنة التى تنسب فيها جميع الأفعال الشريرة الحاصلة فى البلد إلى التيار الإسلامى. أضاف أن أحدا لم يشر إلى مسألة تطبيق الحدود فى أى سياق ــ ولا تفسير لذكرها فى الخبر المنشور سوى أنه من قبيل التخويف والترويع. أما إقامة الدولة الإسلامية فمن البديهى أن تكون هاجسا يشغل بال كل المنسوبين إلى المشروع الإسلامى. ذلك أنه إذا كان من حق الليبراليين والاشتراكيين والقوميين أن يتطلع كل منهم لإقامة مشروعه، فلماذا ينكر ذلك على الإسلاميين؟

ليس فى نيتى فى اللحظة الراهنة مناقشة هذا الموضوع الذى لى فيه كلام فصلته فى كتاب «للإسلام والديمقراطية» الذى صدر فى عام 1993، لكنى استأذن فى استطراد سريع أنوه فيه إلى رأى سجلته فى الكتاب خلاصته أننى أنتمى إلى من يقولون بأنه على من يريد أن يقيم الدولة الإسلامية حقا، فعليه أن يدخل إليها من باب الدفاع عن الحرية والديمقراطية بحيث تصبح تلك مرحلة التأسيس التى تتيح للناس أن يحددوا خياراتهم الحقيقية، من خلال التصويت الحر على مشروع الدولة الذى ينحازون إليه.

فى موضوع الحدود الشرعية لدى نقطتان، الأولى أن إبرازها فى وسائل الإعلام هذه الأيام بالذات لا يمكن فصله على الجدل الدائر حول موضوع الدولة الدينية أو المدنية، ولا يحتاج المرء إلى جهد لكى يدرك أن الأمر ليس بريئا بأى حال. وأننا بصدد فزاعة جديدة استدعت من مستودع الفزاعات الذى يبدو أن معينه لا ينضب والخبث فى هذا الحال أكبر، ذلك أن بعض الممارسات التى تخوف الناس تنسب فى العادة إلى الجماعات بذاتها فتنفر الناس منهم. لكن التخويف من الحدود يوجه السهم إلى الشريعة ذاتها وليس إلى فصيل أخطأ أو أصاب فى فهم التعاليم.

النقطة الثانية أن الربط بين الإسلام دين الحدود موقف استشراقى يختلط فيه الخبث مع الجهل. إذ فى حين ينص القرآن صراحة على أن الله يأمر بالعدل، فإننا لا نستطيع أن نفترض البراءة فيمن يختزل الإسلام فى مجرد تطبيق بالحدود، التى هى من آخر ما نزل من آيات القرآن، علما بأن البحث الجاد فى شأنها يبين ثلاثة أمور: الأول أنها لا تطبق إلا إذا بطلت كل الذرائع التى تحول بين الناس وبين الانحراف. ومعروفة قصة تعليق تطبيق حد السرقة فى عام المجاعة، كما أن الفقهاء اشترطوا لإعمال الحد أن يلجأ المرء إلى السرقة مثلا رغم توفر كل احتياجاته الأساسية.

الثانى أن الشارع حدد شروطا تكاد تكون تعجيزية لتنزيلها على الواقع. حتى قال بعض الفقاء إنه أريد بها الإنذار والتخويف من الانحراف وليس التطبيق الحرفى.

الأمر الثالث يدلل على سابقة لأن بعض القضاة كانوا يحثون المتهمين على عدم الاعتراف بالجرم لكى لا يطبق عليهم الحد. فكان الواحد منهم يسأل المتهم مثلا: هل سرقت؟ ثم ينصحه قائلا: قل لا ــ كما تذكر كتب السيرة أن رجلا توجه إلى النبى عليه الصلاة والسلام واعترف أمامه بالزنى فقال له النبى: هللا سترتها بثوبك؟

إن أسوأ ما فى تلك التجاذبات ليس فقط أنها تسعى إلى تخويف الناس من الإسلام وأهله، وإنما أنها أيضا تصرفهم عن الانشغال بتحديات اللحظة الراهنة التى ينبغى أن يتصدوا لها ويستنفروا لأجلها