حرب اكتوبر كما يرويها الشاذلي‏(2)


قبل أن تقرأ ‏38‏ عاما عاشها الفريق سعد الدين الشاذلي وهو يري تزوير النصر الذي أسهم فيه بالنصيب الأوفر‏ .‏ لكنه ابتسم أخيرا وهو يري ثورة‏25‏ يناير
طوفانا هادرا يقتلع أكاذيب ويمحو أساطير ويعيد الحقائق إلي أماكنها‏,‏ وينسب النصر لصاحبه‏…‏ ثورة‏25‏ يناير أيضا تتعرض للتزوير علي الرغم من حداثة العهد بها وطزاجة دماء شهدائها وتأوهات جرحاها‏…‏ ولكن الكذبة لا يتمتعون أبدا بذاكرة تساعدهم علي ترسيخ الكذب‏…‏ كذب مبارك حين وضع صورته مكان الشاذلي‏,‏ بجوار السادات في غرفة العمليات في حين تقتصر الصورة الأصلية علي المشير أحمد إسماعيل وزير الحربية والشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة يليه المشير عبدالغني الجمسي رئيس هيئة العمليات‏,‏ ولم يكن قادة الأسلحة في الصورة فمن أتي بمبارك في صورة تعبيرية وهو يشير للسادات كأنه يوجه أو يبدي رأيا‏,‏ وهو الذي لم يكن يجرؤ علي الإدلاء برأي أمام السادات حتي بعد أن اختاره نائبا عام‏1975.‏
‏38‏ عاما عاني فيها الشاذلي بعض المرارة‏,‏ لكنه اختار الانحياز للحقيقة‏,‏ واستعد لدفع الثمن‏,‏ حين رأي في الصمت خيانة لدماء الشهداء‏,‏ أصحاب الفرح‏,‏ صانعي النصر‏,‏ الذي اعتبره السادات ملفا شخصيا‏,‏ ومجدا خاصا ورثه مبارك‏,‏ في حين يؤمن الشاذلي بأن كل ضابط وجندي شريك في النصر‏,‏ وقد أهدي إليهم مذكراته‏.38‏ عاما من التعتيم علي دور الشاذلي انتهت بريح شديدة اقتلعت مبارك وأسرته وأساطيره‏,‏ واحتمل سيل ثورة‏25‏ يناير زبدا كثيفا‏,‏ ومن تحته ظهر لؤلؤ الشاذلي وشرف العسكرية المصرية‏,‏ وقد احتفظ هذا اللؤلؤ بتألقه ولمعانه الأصيل‏,‏ ولهذا السبب‏,‏ أهدت السيدة زينب السحيمي ـ حرم الفريق سعد الدين الشاذلي ـ هذه الطبعة الجديدة من المذكرات إلي شباب‏25‏ يناير‏…‏ الذين صنعوا أعظم الثورات‏,‏ والتي لولاها لما رأي هذا الكتاب النور‏.‏

إمكاناتنا الهجومية
عندما عينت رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية‏(‏ ر‏.‏ا‏.‏ح‏.‏ق‏.‏م‏.‏م‏)‏ في‏16‏ من مايو‏71,‏ لم تكن هناك خطة هجومية‏,‏ وإنما كانت لدينا خطة دفاعية تسمي الخطة‏200,‏ وكانت هناك أيضا خطة تعرضية أخري تشمل القيام ببعض الغارات بالقوات علي مواقع العدو في سيناء ولكنها لم تكن في المستوي الذي يسمح لنا بأن نطلق عليها خطة هجومية‏,‏ وكانت تسمي جرانيت‏.‏
بدأت عملي بدراسة إمكانات القوات المسلحة الفعلية ومقارنتها بالمعلومات المتيسرة عن العدو بهدف الوصول إلي خطة هجومية تتمشي مع إمكاناتنا الفعلية‏,‏ وقد أوصلتني تلك الدراسة إلي النقاط الرئيسية التالية‏:‏
إن قواتنا الجوية ضعيفة جدا إذا ما قورنت بقوات العدو الجوية‏.‏ انها لا تستطيع أن تقدم أي غطاء جوي لقواتنا البرية اذا ما قامت هذه القوات بالهجوم عبر أراضي سيناء المكشوفة‏,‏ كما أنها لا تستطيع أن توجه ضربة جوية مركزة ذات تأثير علي الأهداف المهمة في عمق العدو‏.‏
ان لدينا دفاعا جويا لا بأس بهيعتمد أساسا علي الصواريخ المضادة للطائرات‏SAM‏ولكن‏-‏ وللأسف الشديد‏-‏ هذه الصواريخ دفاعية وليست هجومية‏,‏ إنها جزء من خطة الدفاع الجوي عن الجمهورية‏,‏ وهي لذلك ذات حجم كبير ووزن ثقيل وتفتقر إلي حرية الحركة‏(‏ لم يكن لدينا في هذا الوقت الصاروخ‏SAM-6‏الخفيف الحركة والذي يستطيع أن يتحرك ضمن تشكيلات القوات المهاجمة‏),‏ وبالتالي فانها لا تستطيع أيضا أن تقدم غطاء جويا لأية قوات برية متقدمة عبر سيناء‏.‏ إنها سلاح مناسب في الدفاع حيث يمكن أن توفر لها الوقاية بوضعها في ملاجئ خرسانية يتم إنشاؤها خلال بضعة أشهر‏,‏ أما إذا خرجت من هذه الملاجئ لترافق القوات البرية المهاجمة‏,‏ فانها تصبح فريسة سهلة لقوات العدو الجوية وقوات مدفعيته‏.‏
كانت قواتنا البرية تتعادل تقريبا مع قوات العدو‏.‏ لقد كان لدينا بعض التفوق في المدفعية‏-‏ في ذلك الوقت‏-‏ ولكن العدو كان يختبئ وراء خط بارليف المنيع‏,‏ والذي كانت مواقعه قادرة علي أن تتحمل قذائف مدفعيتنا الثقيلة دون أن تتأثر بهذا القصف‏,‏ وبالإضافة إلي ذلك فقد كانت قناة السويس‏-‏ بما أضافه العدو إليها من موانع صناعية كثيرة‏-‏ تقف سدا منيعا آخر بين قواتنا وقوات العدو‏.‏
ذكر اليعازر رئيس أركان حرب القوات المسلحة الاسرائيلية خلال حرب اكتوبر‏73,‏ انه أثناء مناقشة احتمال قيام المصريين بالهجوم عبر القناة علق دايان ساخرا لكي تستطيع مصر عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف فانه يلزم تدعيمها بسلاحي المهندسين الروسي والأمريكي
معا وكان الجنرال بارليف يؤيد دايان في هذا القول‏,‏ إن هذه الشهادة من قادة العدو هي شهادة نعتز بها لأنها تظهر عظمة التخطيط وروعة الاداء اللذين تم بهما انجاز هذا العبور العظيم‏.‏
أما قواتنا البحرية‏,‏ فقد كان من الممكن أن نعتبرها أقوي من بحرية إسرائيل‏,‏ ولكن ضعف قواتنا الجوية قلب الموازين وأحال تفوقنا البحري إلي عجز وعدم قدرة علي التحرك بحرا‏…‏ لقد كان في استطاعة العدو أن يتجول في خليج السويس ببعض الزوارق الصغيرة وهي لا تحمل سوي بعض الرشاشات دون أن يكون في استطاعتنا أن نتحدي تلك القوارب الصغيرة بقطع بحرية هي أكثر قوة وافضل تسليحا‏.‏ لقد كانت تلك القطع البحرية المعادية تعتمد علي قوة الطيران الإسرائيلي الذي يستطيع أن يغرق أية قطعة بحرية مصرية تتعرض لها‏.‏ ولم يقتصر تحدي العدو لبحريتنا علي تقييد حركتها في أعالي البحار‏,‏ بل انه استفاد من ضعف دفاعنا الجوي في منطقة البحر الأحمر‏,‏ فكان يقوم بتوجيه عدة ضربات برية ضد قطعنا البحرية ونجح في عدد من الحالات في إغراق بعض قطعنا البحرية وهي راسية في الميناء‏.‏ لم يكن بإمكاننا أن نحقق دفاعا جويا مؤثرا بواسطة الصواريخ عن جميع أهدافنا داخل الجمهورية‏,‏ ولذلك فقد كانت هناك أسبقيات تنظم توزيع هذا الدفاع‏,‏ وكانت جبهة قناة السويس والعمق يستحوذان علي إمكاناتنا كلها تاركين منطقة البحر الأحمر شبه عارية من وسائل الدفاع الجوي‏,‏ اللهم إلا بعض المدافع التقليدية المضادة للطائرات‏.‏ والتي لا تشكل أيتهديد خطير للطائرات النفاثة الحديثة‏,‏ والمجهزة بصواريخ جو ارض ذات مدي طويل يجعلها قادرة علي أن تصيب أهدافها دون أن تدخل في مدي مدافعنا المضادة للطائراتوفي هذه الظروف استطاع العدو أن يحصل علي السيطرة البحرية في خليج السويس والجزء الشمالي من البحر الأحمر بواسطة قواته الجوية‏,‏ وذلك علي الرغم من تفوقنا العددي والنوعي في القطع البحرية علي إسرائيل‏.‏
ونتيجة لهذه الدراسة فقد ظهر لي انه ليس من الممكن القيام بهجوم واسع النطاق يهدف إلي تدمير قوات العدو وإرغامه علي الانسحاب من سيناء وقطاع غزة‏,‏ وان إمكاناتنا الفعلية قد تمكننا‏-‏ إذا احسنا تجهيزها وتنظيمها‏-‏ من أن نقوم بعملية هجومية محددة تهدف إلي عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف ثم التحول بعد ذلك للدفاع‏.‏ وبعد إتمام هذه المرحلة يمكننا التحضير للمرحلة التالية التي تهدف إلي إحتلال المضائق‏,‏ حيث أن المرحلة الثانية سوف تحتاج إلي أنواع أخري من السلاح والي أسلوب آخر في تدريب قواتنا‏,‏ وقد كانت فكرتي في القيام بهذا الهجوم المحدود متأثرة بالعوامل الرئيسية التالية‏:‏

ضعف قواتنا الجوية
لقد كنت حريصا علي ألا نزج بقواتنا الجوية في معارك جوية غير متكافئة مع العدو‏.‏ لقد دمرت قواتنا الجوية مرتين علي الأرض‏.‏ كانت المرة الأولي إبان العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي عام‏1956,‏ وكانت المرة الثانية إبان الهجوم الإسرائيلي المفاجئ عام‏.1967‏ وفي خلال السنوات الأربع الماضية قمنا ببناء ملاجئ خرسانية لطائراتنا‏,‏ كما أقمنا شبكة دفاع جوي بالصواريخ حول قواعدنا الجوية‏,‏ وبذلك اصبح لدينا بعض الضمانات ضد تدمير قواتنا الجوية بضربة جوية مفاجئة‏,‏ كما تم في الحالتين السابقتين ولكن بمجرد أن يقلع الطيار بطائرته في الجو فإنه سوف يعتمد اعتمادا كليا علي مهارته وعلي كفاءة طائرته عند اشتباكه مع الطائرات المعادية‏,‏ ومن خلال الاشتباكات المتعددة التي تمت بين طائراتنا وطائرات العدو بعد‏1967‏ ظهر تفوق الطيران الإسرائيلي في هذه الاشتباكات بشكل واضح وحاسم‏,‏ وقد دار كثير من الجدل والمناقشات حول هذا الموضوع‏:‏ هل هو نقص في تدريب طيارينا ومهارتهم؟ أم هو عدم كفاءة طائرة الميج‏21‏ بالمقارنة مع طائرات العدو؟ كان طيارونا يلقون بأسباب فشلهم في هذه الاشتباكات علي الطائرة‏,‏ في حين كان الخبراء السوفيت يلقون باللوم علي الطيارين المصريين‏.‏ وفي اعتقادي أن فشلنا في هذه الاشتباكات كان يعود إلي كل من الطيار والطائرة‏,‏ وكذلك إلي الظروف التي كان العدو يفرضها علينا في هذه الاشتباكات‏.‏ فعندما كان العدو يخطط لمثل هذه الاشتباكات فإنه كان ينتقي لها افضل طياريه ويرسم لها خطة محكمة يبدأها عادة بأن يخترق أجواءنا في الوقت والمكان والاتجاه الذي إنتخبه ضمن خطته‏,‏ وعندما نقوم نحن باعتراض تلك الطائرات المعادية‏,‏ فإننا نعترضها بواسطة من يتصادف قيامهم بخدمة العمليات في أعلي درجات الاستعداد‏,‏ وقد يكون من بينهم بعض الطيارين حديثي الخبرة وهؤلاء لا يمكن مقارنتهم بأي حال من الأحوال بالنخبة المختارة من الطيارين التي دفع بها العدو للتحرش بهم‏,‏ وبالإضـافة إلي ذلك فإن طيارينا ينطلقون بطائراتهم الاعتراضية إلي الجو دون أي خطة مرسومة معتمدين علي ما سوف يحصلون عليه من معلومات من الموجهين الأرضيين‏,‏ وحيث إن الموجهين الأرضيين هم الآخرون يقومون بدور خدمة عادي‏,‏فقد يكون منهم الموجه الجيد أو الموجه دون المستوي المطلوب‏.‏ونتيجة لذلك كله‏,‏ فإن العدو يقابلنا بأفضل طياريه وبخطة مرسومة‏,‏ بينما نقابله نحن بما هو متيسر لدينا في الخدمة من طيارين وموجهين ودون أية خطة‏,‏ ولذلك فقد كانت النتائج دائما في مصلحة العدو‏.‏ في كثير من الحالات أفاد طيارونا بأنهم اسقطوا بعض طائرات العدو‏,‏ ولكن لم يقم دليل قوي علي ذلك في معظم الحالات‏.‏ لم يكن طيارونا تنقصهم الشجاعة‏,‏ ولكن كانت تنقصهم الخبرة والتجربة‏.‏ لقد كانت الغالبية العظمي منهم تقل ساعات طيرانهم عن‏1000‏ ساعة طيران‏,‏ في حين كان متوسط ساعات طيران الطيارين الإسرائيليين يزيد علي‏2000‏ ساعة‏.‏ لقد كانت القوات الجوية الإسرائيلية تسبق القوات الجوية المصرية بعشر سنوات علي الأقل‏,‏ وإذا أضفنا إلي ذلك كله أن طائراتنا كـانت اقل كفاءة من طائرات العدو‏,‏ ولاسيما من حيث المدي وقوة التسليح والتجهيز بالأسلحة الإلكترونية لوجدنا أن طيارينا كانوا يقاتلون عدوهم في ظروف غير متكافئة‏,‏ ومن هنا بدأ يتولد عندي أسلوب جديد في استخدام قواتنا الجوية يعتمد علي مبدأين‏:‏ المبدأ الأول‏,‏ هو تحاشي المجابهة مع العدو في الوقت والمكان اللذين يختارهما هو‏.‏ والمبدأ الثاني هو أن نستخدم قواتنا الجوية عندما تشتعل الحرب بتوجيه ضربات مفاجئة في الأوقات والأماكن التي نستبعد فيها أي تدخل من جـانب قوات العدو الجوية‏.‏ وبمعني آخر‏,‏ فقد كنت اهدف إلي أن اجعل القوات البرية والأهداف الأرضية الإسرائيلية تتأثر نفسيا بهجمات قواتنا الجوية‏,‏ وفي الوقت نفسه نحاول أن نتجنب أية معارك جوية‏.‏ لقد كنت مقتنعا بأنه ما لم نستخدم قواتنا الجوية بحرص وذكاء فمن الممكن أن نخسر قواتنا الجوية للمرة الثالثة مع فارق بسيط هو أننا هذه المرة نخسرها وهي في الجو بدلا من خسـارتها وهي علي الأرض‏,‏ كـما تم في المرتين السابقتين‏.‏
كان العامل الثاني هو قدرات صواريخنا المضادة للطائرات‏SAM‏ومداها في المعركة الهجومية‏.‏ لقد أثبتت صواريخنا كفاءتها خلال حرب الاستنزاف ما بين‏68‏ و‏70,‏ وكذلك خلال الاشتباكات والتحرشات مع طيران العدو بعد وقف إطلاق النار في‏7‏ من أغسطس‏70‏ وحتي قيام حرب أكتوبر‏.73‏ إن إسرائيل لم تحترم قط وقف إطلاق النار‏,‏ واستمر طيرانها يقوم باختراق مجـالنا الجوي كلما سنحت له الفرصة بذلك‏,‏ ولكننا لاحظنا بكل فخر انه كان دائما يحاول أن يتفادي اختراق المناطق التي يعلم أنها تحت مظلة من صواريخ‏SAM,‏ وقد كان ذلك في حد ذاته شهادة رسمية من العدو تنطق باحترامه وخشيته من صواريخنا‏.‏ لقد كان أحد دروس حرب الاستنزاف هو أن القوات الجوية المعادية تكون ذات تأثير ضئيل ضد القوات المخندقة‏,‏ وذات تأثير كبير ضد القوات الأرضية إذا ما هوجمت في العراء وهي خارج مدي مظلة دفاعنا الجـوي بالصواريخ‏SAM.‏ ومن هنا كان علينا أن نقيد حركتنا شرق القناة في أية عمليـة هجومية‏,‏ وان نربط هذه الحركة بقدرة دفاعنا الجوي علي مدي الوقاية التي يستطيع أن يحققها لقواتنا البرية‏.‏ وقد كانت إمكاناتنا في الدفاع الجوي‏-‏ بعد القيام ببعض الإجراءات الخاصة‏-‏ قادرة علي تحقيق دفاع جوي مؤثر شرق القناة بمسافة تتراوح ما بين‏10‏ و‏12‏ كيلومترا‏,‏ وان أي هجوم بري يتجاوز هذه المسافة قد يقود إلي عواقب وخيمة‏.‏
لقد كان العامل الثالث هو الرغبة في أن نرغم إسرائيل علي قتالنا تحت ظروف ليست مواتية لها‏.‏ إن إسرائيل ذات الثلاثة ملايين نسمة تعبئ وقت الحرب نحو‏20%‏ من قوتها البشرية للانضمام إلي القوات المسلحة وقوات الدفاع الإقليمي‏,‏ وهي نسبة عالية جدا لم تستطع أية دولة في العالم أن تصل أليها‏.‏ وإسرائيل نفسها لا تستطيع أن تتحمل مثل هذه التعبئة لمدة طويلة لأنها ترهق اقتصادها القومي وتصيب خدماتها وجميع نشاطاتها الأخري بالشلل الكامل‏.‏ ونتيجة لهذا الموقف‏,‏ فإن لإسرائيل مقتلين‏:‏ المقتل الأول هو الخسائر في الأفراد‏,‏ والمقتل الثاني هو إطالة مدة الحرب‏.‏ إن إسرائيل لا تهتم كثيرا إذا هي خسرت الكثير من الأسلحة المتطورة‏Sophisticated‏من دبابات وطائرات ولكنها تصاب بالهلع إذا خسرت بضع مئات من الأفراد‏.‏ حيث إن لديها رصيدا هائلا من المعدات‏,‏ وهناك من يقوم نيابة عنها بدفع ثمن فواتير السلاح‏,‏ أما خسائر الأفراد‏,‏ فإن رصيد الشعب اليهودي من البشر رصيد محدود‏,‏ ومن الصعب تعويض هذه الخسائر‏.‏ كذلك فإن إطالة الحرب هي السم الذي يضعف مقاومة إسرائيل يوما بعد يوم‏.‏ إن الجندي الإسرائيلي الذي يستدعي في ألتعبئه هو نفسه العامل والمهندس في المصنع‏,‏ وهو نفسه الأستاذ والطالب في الجامعة‏,‏ وهو نفسه الذي يقوم بجميع النشاطات الأخري في الدولة‏,‏ فكيف يمكن لهذه الدولة أن تعيش لو امتدت الحرب ستة أشهر فقط‏,‏ وما بالك بأكثر من هذا؟ لقد كانت إسرائيل في جميع حروبها السـابقة تفضل أسلوب الحرب الخاطفة‏Blitzkrieg.‏لذلك فقد كان من مصلحتنا أن نفرض عليها حربا بأسلوب ليس في مصلحتها‏.‏ فلو أننا توقفتا شرق القناة بمسافة تتراوح ما بين‏10‏ و‏12‏ كم‏,‏ فاننا سنسبب لها موقفا صعبا‏,‏ فإذا هي قامت بالهجوم علي مواقعنا شرق القناة فستكون لدينا الفرصة لأن نحدث في قواتها المهاجمة خسائر كبيرة سواء في القوات الأرضية أو القوات الجوية التي تساندها‏,‏ نظرا لوجود تلك المنطقة تحت مظلة دفاعنا الجوي‏,‏ وإذا هي عزفت عن الهجوم فسوف تضطر إلي الاستمرار في تعبئة قواتها المسلحة‏,‏ وبذلك تستنزف قوتها الاقتصادية‏.‏
أما العامل الرابع الذي اثر علي تفكيري‏,‏ فقد كان تعلم الحرب بواسطة الحرب‏,‏ أوبمعني آخر تدريب الضباط والجنود علي الحرب الكبيرة‏-‏التي سوف تتم في مراحل مقبلة‏-‏ عن طريق الزج بهم في حرب محدودة يستطيعون فيها أن يكتشفوا ذواتهم وان يكتسبوا خبراتهم بأنفسهم‏.‏ لقد تعلمت من خدمتي في القوات المسلحة واشتراكي في خمس حروب سابقة أن ميدان المعركة هو انسب الأماكن لتدريب الرجال علي فنون الحرب‏.‏ إننا مهما حاولنا خلال التدريب أن نصنع المناخ الذي يتشابه مع مناخ الحرب‏,‏ فإننا لن نستطيع أن نوفر الأثر النفساني الذي تولده الحرب في الجنود‏,‏ هذا الأثر الذي هو خليط من الخوف والشجاعة‏,‏ خليط من الكبرياء وحب البقاء‏.‏ هذه الآثار النفسية علي المقاتل لا يمكن أن تكتشف إلا عن طريق الحرب الحقيقية‏.‏ لقد كنت أتوقع أن يلعب نجاحنا في هذه الحرب المحدودة دورا مهما في رفع معنويات قواتنا المسلحة بعد أن تكبدت ثلاث هزائم أمام إسرائيل خلال السنوات الخمس والعشرينلماضية‏.‏ لهذا كنت أري أن الحرب المقبلة يجب أن تكون مخاطرة محسوبة‏,‏ ويجب ألا تكون بأي حـال من الأحوال نوعا من أنواع المقامرة‏…‏

تطور الخطة الهجومية
قبل مرور شهرين علي تعييني رئيسا للأركان العامة‏,‏ كنت قد أصبحت مقتنعا بأن معركتنا المقبلة يجب ان تكون محدودة ويجب أن يكون هدفها هو عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف واحتلاله ثم اتخاذ أوضاع دفاعية بمسافة تتراوح بين‏10‏ و‏12‏ كم شرق القناة وأن نبقي في هذه الأوضاع الجديدة إلي أن يتم تجهيز القوات وتدريبها للقيام بالمرحلة التالية من تحرير الأرض‏.‏ وعندما عرضت هذه الأفكار علي الفريق أول محمد أحمد صادق ـ بصفته وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة ـ عارض هذه الفكرة بشدة وقال إنها لا تحقق أي هدف سياسي أو عسكري‏,‏ فهي من الناحية السياسية لن تحقق شيئا وسوف يبقي ما يزيد علي‏60000‏ كيلو متر مربع من سيناء‏,‏ بالإضافة إلي قطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي ومن الناحية العسكرية سوف تسبب لنا موقفا صعبا فبدلا من خطنا الدفاعي الحالي الذي يستند إلي مانع مائي جيد‏,‏ فإن خطنا الدفاعي الجديد سوف يكون في العراء وأجنابه معرضة للتطويق‏…‏ وبالإضافة إلي ذلك فسوف تكون خطوط مواصلاتنا عبر كباري القناة تحت رحمة العدو‏.‏ لقد كانت فكرته في العملية الهجومية هي أن نقوم بتدمير جميع قوات العدو في سيناء‏,‏ والتقدم السريع لتحريرها هي وقطاع غزة في عملية واحدة ومستمرة‏!‏ قلت له كم أود أن نقوم بتنفيذ ذلك‏,‏ ولكن ليس لدينا الإمكانات للقيام بذلك سواء في الوقت الحالي أو في المستقبل القريب‏,‏ فرد قائلا‏:‏ لو أن السوفيت أعطونا الأسلحة التي نطلبها فإننا نستطيع أن نقوم بهجومنا هذا في خلال عام أو أقل لم أوافقه علي رأيه هذا وأخبرته أننا قد نحتاج إلي عدة سنين لكي نحصل ونتدرب علي الأسلحة اللازمة لمثل هذا الهجوم وأعدت ذكر الأسباب التي تفرض علينا القيام بعملية هجومية محدودة وبعد مناقشات مطولة وعبر جلسات وأيام متعددة وصلنا إلي حل وسط وهو تجهيز خطتين‏:‏ خطة تهدف إلي الاستيلاء علي المضائق‏,‏ وأخري تهدف إلي الاستيلاء فقط علي خط بارليف‏.‏
أطلقنا علي الخطة الأولي اسم العملية‏41‏ وقمنا بتحضيرها بالتعاون مع المستشارين السوفيت بهدف إطلاعهم علي ما يجب أن يكون لدينا من سلاح وقوات لكي نصبح قادرين علي تنفيذ هذه الخطة أما الخطة الثانية‏,‏ فقد أطلقنا عليها الاسم الكودي المآذن العالية‏,‏ وكنا نقوم بتحضيرها في سرية تامة ولم يكن يعلم بها أحد من المستشارين السوفيت‏,‏ كما أن عدد القادة المصريين الذين سمح لهم بالاشتراك في مناقشتها كان محدودا للغاية‏,‏ وفي خلال يوليو وأغسطس‏1971‏ كانت الخطتان قد تم استكمالها كانت الخطة‏41‏ غير قابلة للتنفيذ إلا إذا توافرت أسلحة ووحدات افترضنا وجودها‏,‏ أما خطة المآذن العالية فقد كانت أول خطة هجومية مصرية واقعية‏.‏
وبناء علي الخطة‏41,‏ قمنا بتحرير كشوفات بالأسلحة والعتاد المطلوب الحصول عليها من الاتحاد السوفيتي‏,‏ وكالعادة دارت مناقشات مطولة بيننا وبين المستشارين الروس بخصوص هذه الكشوفات‏,‏ فقد كان الروس يتهموننا دائما بالمغالاة في مطالبنا‏,‏ بينما كان الجانب المصري يتهم الروس دائما بعدم الاستجابة إلي مطالبنا العادلة والضرورية‏.‏ وفي أكتوبر‏1971‏ سافر الرئيس السادات والفريق أول صادق إلي موسكو‏,‏ حيث تم الاتفاق علي صفقة أسلحة كانت تعتبر أكبر صفقة أسلحة مع السوفيت حتي ذلك الوقت ورغم ضخامة هذه الصفقة فإنها لم تغط جميع الأسلحة اللازمة لتنفيذ الخطة رقم‏41.‏
وعلي الرغم من هذه الحقائق‏,‏ فقد أخذ السادات يدق طبول الحرب بعد عودته من الاتحاد السوفيتي‏,‏ ويصرح في كل مناسبة وأحيانا دون مناسبة بأن عام‏71‏ هو عام الحسم‏,‏ ولكي يقنع الجميع بجديته في ذلك أعلن نفسه قائدا عاما للقوات المسلحة اعتبارا من‏31‏ من أكتوبر‏71,‏ وفي الوقت نفسه أخذت وسائل الإعلام المصرية ـ التي تسيطر عليها الدولة ـ تتحدث عن الحرب المقبلة بحرية غريبة كأنها نوع من حفلات المبارزة التي يعلن مسبقا عن ميعادها ومكان انعقادها‏.‏ لقد كان موقفا غريبا وشاذا مما اضطرني إلي أن أفاتح الفريق صادق في هذا الموضوع‏,‏ حيث قلت له‏:‏ إن الرئيس يضعنا في موقف صعب إذا كنا حقا سنخوض المعركة هذا العام فإن الرئيس يحرمنا من المفاجأة التي يمكن أن نحققها لو أنه ظل صامتا‏,‏ وإذا كنا لن نقوم بالمعركة هذا العام‏,‏ فإنه بتصريحاته هذه يمكن أن يدفع اسرائيل إلي أن تقوم بضربة إجهاض ضد قواتنا‏,‏ أو علي أقل تقدير فقد تأخذ هذه التصريحات ذريعة لطلب أسلحة جديدة من الولايات المتحدة‏!,‏ قال لي إنه يتفق معي في وجهة نظري هذه‏,‏ وإنه ناقش هذا الموضوع مع الرئيس وإنه يعتقد أن الرئيس يلعب لعبة سياسية‏.‏ لم أقتنع بمثل هذه الخدع السياسية وعكفت علي تدقيق وتجهيز خطة المآذن العالية حتي لا أجد نفسي مفاجأ بقرار سياسي بالهجوم دون فترة إنذار معقولة‏.‏
وفي خلال عام‏1972‏ أخذنا ندخل بعض التعديلات الطفيفة علي كل من الخطة رقم‏41‏ و خطة المآذن العالية وذلك بناء علي التغير المستمر في حجم قواتنا وحجم قوات العدو‏,‏ ولكن جوهر كل خطة بقي كما هو عليه‏,‏ ولكن تم تغيير اسم الخطة‏41‏ لتكون جرانيت‏2,‏ وبنهاية عام‏1972‏ بقيت خطة المآذن العالية هي الخطة الوحيدة الممكنة‏,‏ بينما كانت خطة جرانيت‏2‏ هي خطة المستقبل التي يشترط لتنفيذها حدوث تغييرات أساسية في إمكانات قواتنا المسلحة‏.‏ كان مازال هناك ثلاث نقط ضعف رئيسية تحد من قدراتنا علي تنفيذ خطة جرانيت‏2‏ وكانت أولي هذه النقط هي ضعف قواتنا الجوية‏.‏ فلم تكن لديها الإمكانات التي تمكنها من تصوير وتفسير وتسليم الصور الجوية في وقت يسمح بالاستفادة من هذه المعلومات‏.‏ كذلك لم تكن القوات الجوية بقادرة علي توفير الدفاع الجوي للقوات البرية أثناء تحركها‏.‏ وكانت نقطة الضعف الثانية هي عدم توافر كتائب صواريخ‏SAM‏ الخفيفة الحركة بالقدر الذي يمكنها من أن تحل محل القوات الجوية في توفير الغطاء الجوي للقوات التي تتقدم شرقا‏.‏ وكانت نقطة الضعف الثالثة هي عدم قدرة غالبية عرباتنا علي السير عبر الأراضي‏,‏ أي خارج الطرق الممهدة وعبر الأراضي الرملية‏.‏ لقد تعلمنا من خبراتنا السابقة في الحرب أن العربات ذات العجلات التي لا تتمتع بقدرة مقبولة علي السير في الرمال خارج الطرق تشكل عبئا ثقيلا علي كاهل القوات المقاتلة‏,‏ فعندما يقوم طيران العدو بتدمير بعض هذه العربات أثناء سيرها علي الطرق المرصوفة‏,‏ فإن هذه العربات تقوم بسد الطريق مما يدفع العربات اللاحقة ـ في محاولة لتفاديها ـ إلي الخروج عن الطريق المرصوف فتغرز في الرمال ويتكرر الأمر نفسه حتي يختنق الطريق تماما بما يعادل نحو‏50‏ مترا من كل جانب بالعربات المعطلة أو المغروزة‏.‏

تحياتى واحترامى لمهندس خطة العبور سعد الدين الشاذلى
شخصية عسكرية من ظراز رفيع , ظل يحكى عن تزوير التاريخ وتزييف الحقائق ولم ينصفه احد وشوهت صورته منذ ايام السادات وحتى عهد المخلوع اتمنى ان تنصفه الايام القادمة

هل هذا هو نفسه الضابط الذي يظهر أمام علم مصر في صورتك الرمزية؟

كيف نجد هذا الكتاب كاملاً؟

لاقيت الرابط ده

يوجد حلقات فى جريدة الاهرام المسائى

[CENTER][SIZE=+0][CENTER][SIZE=+0][CENTER][SIZE=+0][CENTER][SIZE=+0][CENTER]

[/center]
[/size][/center]
[/size][/center]
[/size][/center]
[/size][/center]

شكرى تقديرى