محمد يسري سلامة يكتب : بين السلفيين ومحمد البرادعي


د. محمد يسري سلامة

من أصعب الأمور وأشدها خطورةً ووعورةً الحديث مع السلفيين عن الدكتور محمد البرادعي، ذلك أن الرجل يمثل من وجهة نظر غالبيتهم محورًا من محاور الشر وركنًا من أركانه، وهو اعتقادٌ يبدو عند أصحابه غير قابلٍ لنقاشٍ أو مراجعة، ما قد يصير عذرًا مقبولاً للنكوص عن أية مناقشة معهم حول الرجل، غير أني وجدت في الوقت نفسه الصحابي الفريد أبا ذر الغفاري يقول: (أمَرَني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبعٍ: "أمرني بحبِّ المساكين، والدنوِّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصِلَ الرحمَ وإن أدبَرَت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئا، وأمرني أن أقول بالحقِّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر مِن قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهنَّ من كنْزٍ تحت العرش) فلا أملك سوى أن أمتثل، فأقول الحقَّ وإن كان مُرًّا، ولا أخاف في الله لومة لائم. ثم إنني مصنَّفٌ أصلاً منذ مدةٍ طويلة على أنني (سلفي برادعاوي) وهي تهمة لا أظنَّ أن أحدًا من السلفيين أو البرادعاويين قد رُمي بها من قبل؛ لِما يحمله هذا التصنيف المركَّب من تناقضٍ ظاهرٍ في نظر كثيرين.

وأن يكون المرء مصريًّا سلفيًّا وثوريًّا في آنٍ واحد هو أمرٌ بالغ الصعوبة في كلِّ حال، لا لتناقض (السلفية) مع (الثورية)، بل لأن النقمة عليه تنصبُّ من الطرفين معًا، فلا يرضى عنه هذا الجانب أو ذاك، ويظلُّ مشكوكًا فيه على الدوام، وفي صدق انتمائه لكليهما؛ لأنه دائمًا ما يُحَمَّل أوزار الجانبين جميعًا وإن قال ما قال وفعل ما فعل.
وتعود جذور هذا التصنيف الملتبس إلى خريف سنة 2010، حينا أثيرت قضية التوقيع على المطالب السبعة للتغيير التي دعا إليه البرادعي، والتي كانت بالمناسبة – لمجرد التذكير: إنهاء حالة الطوارئ، وتمكين القضاء من الاشراف على الانتخابات، والرقابة الدولية والمدنية، وتوفير فرص الدعاية، وتمكين المصريين فى الخارج من التصويت، وإلغاء الشروط التعسفية للترشح، والانتخاب بالرقم القومى فقط. وكان اجتهاد بعض المشايخ الكرام عدم جواز التوقيع على تلك المطالب، لأنها لا تتضمن المطالبة بإقامة الشريعة واستئناف الحياة الإسلامية، وإنما تركز على مطالب سياسية، ولأن صاحبها (عالماني، يده ملوثة بدماء المسلمين في العراق) فلم يروا المشاركة في ذلك. وكان اجتهاد العبد الفقير وقلة من السلفيين يقضي بضرورة المشاركة في هذه الحملة للخروج من النفق المظلم والدرك الأسفل الذي بلغته البلاد آنذاك، والالتحام مع بقية القوى الوطنية الشريفة من أجل تحقيق ذلك. واندلعت حينها موقعةً عارمةً على صفحات الإنترنت بين أنصار القولين الأول والثاني، وكان مما قلته حينذاك (أكتوبر 2010): (لي صديقُ معتقلٌ منذ سنة 1994، ستة عشر عامًا قضاها في محبسه، دخله وكان في العشرين من عمره، والآن صار كهلاً، مات أبوه ثم أمه كمدًا وحزنًا عليه، هذا بالنسبة إلي أولوية من الأولويات، رفع هذه المظالم الفاحشة أولوية، أن أجلس في بيتي من دون أن أخشى أن يقتحمه عليَّ مَن أكرَهه أولوية، حرية الدعوة أولوية، حرية السفر والتنقل أولوية، تحجيم الفساد أولوية، فتح الباب أمام الناس ليختاروا مَن يمثلهم أولوية، والكلُّ يعلم مَن سيختارون، ولذا هم حريصون على غلق الأبواب لا فتحها، ومثل هذا الكلام يُسهم في تحقيق غرضهم. وإذا لم تكن شريعةٌ قائمةٌ في البلاد فليكن على الأقل نظامٌ عام في المجتمع، بدلاً عن الفوضى، واستشراء الفساد والظلم) وقلت أيضًا أن بعض ما يُقال عن البرادعي ويردده البعض أكاد أستشعر (سخونته) لكونه خرج للتوِّ من مطابخ أمن الدولة التي كانت تصنع هذه الأشياء صنعًا ثم تروِّجها على الناس فتروج وتشتهر، مثل قصة (يداه ملطختان بدم أبناء العراق) وأنه يريد تغيير المادة الثانية ونحو هذا، وكان مع سخونته طريفٌ أيضًا؛ لأنه أشعرنا مجرد شعورٍ أنَّ مواقف نظام مبارك كانت من الدين والشرف والشجاعة بمكان، وهو ما يُدخلنا في سحابةٍ كاذبة من (سمادير السكارى) وفق تعبير شيخ العربية محمود محمد شاكر، رحمه الله.

المهم في الأمر أن هذا التصنيف قد تعزَّز قبل يوم 25 يناير، حينما دعوت للنزول في هذا اليوم والمشاركة في الثورة على خلاف الرأي السائد، ومن المعروف أن معظم من شارك يوم 25 على وجه التحديد كان من أنصار البرادعي ومؤيديه. ولذلك فإنني أعجب كثيرا ممن ينكر دور البرادعي في الثورة، ووجوده في أحداثها، فجميع من شارك فيها يعلم أن أول خطوة خطاها لصنع الكتلة الحرجة التي قامت بالثورة كانت هي التوقيع على المطالب السبعة، ومن ثمَّ المشاركة يوم 25، لأننا شعرنا جميعا أن هناك شخصية مصرية ذات ثقلٍ على المستوى العالمي والمحلي يمكنها أن تساندنا وتدافع عن قضيتنا من دون أن تكون معرضةً للبطش والقمع والتنكيل، حيث أظن أن كلَّ من شارك قد وضع احتمال تعرضه لمكروهٍ نصب عينيه، لكنه أحسَّ حينئذٍ أن هناك ظهراً ما يحميه إلى حدٍّ ما، وهذا هو الدكتور البرادعي، سواءٌ أتَّفقنا معه أم لم نتفق، وسواءٌ أأحببناه أم لم نحبَّه. ومن لا يشكر الناس، لا يشكر الله.

لكنَّ ما أشيع حول الرجل كان قد فعل فعلَه، لأنه كان متعلقا بالدين في مجتمعٍ متدين، وبقصةٍ داميةٍ في قلب كلِّ مصري هي قصة العراق وما حدث له، حتى أن الجهود المتواصلة التي يبذلها أنصاره ومحبوه ومسؤولو حملته من أجل تصحيح صورته ونفي تلك الشبهات عنه لا تكاد تُحدث أثرا يُذكَر نتيجة عداء كثيرٍ من الإسلاميين له، وهم الذين يتمتعون بالثقة والمصداقية لدي كثير من فئات الشعب. وساهم في ذلك أن تحولت الجمعية الوطنية للتغيير إلى منبرٍ تكاد تكون وظيفته كلها في الحياة نقد الإسلاميين ومهاجمتهم، وهو توجهٌ لا أظن الدكتور البرادعي يرضى عنه، بل لا أظنه يعلم عنه شيئا.

ورغم هذا فأنا لا أطلب من السلفيين أن ينتخبوا البرادعي أو أن يؤيدوه، كل ما أطلبه من بعضهم أن لا يجاوزوا حدود الشرع الشريف وقواعده وآدابه في الحديث عن الرجل وحوله، وأحب أن أنوِّه هنا بالاعتذار الذي قدَّمه قبل أشهرٍ شيخُ السلفيين في مصر وكبيرهم الدكتور محمد إسماعيل المقدم للدكتور البرادعي نيابةً عن الدكتور (الداعية) حازم شومان بسبب ما قاله عنه، وهو مسجَّلٌ مصوَّر، لكننا مع هذا وجدنا تجاهلاً تامَّا من قِبَل الإعلام لمثل هذا التصريح الذي يجمع ولا يفرِّق، ويصلح فلا يُفسد، بينما وجدنا احتفاءً شديدا بمقولة (غزوة الصناديق) ونحوها، وهو ما يدلنا على حقيقة أن الإعلام المصري سببٌ رئيس من أسباب كوارثنا عمدا أو بغير عمد، إلا من رحم الله.

أقول إنني لا أطلب من السلفيين أن يدعموا البرادعي أو أن يؤيدوه، لأن أصواتهم ستذهب إلى مرشح إسلامي سيكون هو الشيخ حازم أبو إسماعيل في الغالب، لكنني لا أريد منهم كذلك أن يكونوا عونا لأنصار النظام شبه البائد في إنجاح مرشحهم وإيصاله إلى كرسي الرئاسة، والذي سيكون على الأغلب مدعوما من قِبَل المجلس العسكري بصورةٍ علنيةٍ أو شبه علنية أو سرية، وذلك في حال انحصرت المنافسة بين هذا المرشح وبين البرادعي في الإعادة مثلاً؛ فهما يستويان في موقفهما من القضية التي هم معنيون بها، وهي قضية تطبيق الشريعة، التي يستوي في الموقف منها كذلك كافة المرشحين الآخرين، وكذلك المجلس العسكري بالمناسبة، عدا الشيخ حازم بطبيعة الحال. ولا يستغربنَّ أحدٌ عندئذٍ أن يكون أول قرار للمرشح (الفائز) عن النظام شبه البائد أو من أولى قراراته عودة أمن الدولة لنشاطها السابق في تعقب الإسلاميين وملاحقتهم، واستمرار التمييز الحاصل عليهم، وفتح المعتقلات على مصراعيها لاستقبالهم ولو بعد حين.

صحيحٌ أن المقال يكاد ينتهي من دون أن أعلن أنني لست برادعاويا ولا شيئا من هذا القبيل، وأنني قلت ما قلت من باب الإخلاص والحرص على الصالح العام فحسب؛ لكنني لن أفعل ذلك، لأن محاكم التفتيش قد انتهت منذ زمن بعيد، ثم إنها لم تكن من حضارتنا ولا من ثقافتنا.

كما إنني أرجو ممن يتناول موضوع البرادعي ودوره في غزو العراق أن يردف هذا بذكر الدور المشرف الذي لعبته المملكة العربية السعودية والكويت في هذا المضمار، وشكرا.