جيفارا.. لم يُصلّ الجمعة!

ارتفعت راية ضخمة في ميدان التحرير يوم الجمعة المعروف بجمعة “مصر مش عزبة”؛ تحمل صورة للرفيق آرنستو شي جيفارا (14 يونيو 1928 - 9 أكتوبر 1967)، وهو ثوري أرجنتيني كوبي ماركسي كان طبيبًا وكاتبًا وزعيم حرب عصابات وقائدًا عسكريًا ورئيس دولة عالميًا وشخصية رئيسية في الثورة الكوبية…


ارتفعت راية ضخمة في ميدان التحرير يوم الجمعة المعروف بجمعة “مصر مش عزبة”؛ تحمل صورة للرفيق آرنستو شي جيفارا (14 يونيو 1928 - 9 أكتوبر 1967)، وهو ثوري أرجنتيني كوبي ماركسي كان طبيبًا وكاتبًا وزعيم حرب عصابات وقائدًا عسكريًا ورئيس دولة عالميًا وشخصية رئيسية في الثورة الكوبية. وأضحت صورته بلحيته المميزة منذ وفاته رمزًا عالميًا للثورة والقتال الدموي ضد الحكومات الرأسمالية، ويبدو أن اليسار المصري وخاصة الحزب الشيوعي يمهد لسياسة تحبذ العنف بعد الثورة المصرية في مواجهة اختيار الشعب للإسلاميين، وهو ما جعله يستلهم صورة جيفارا في الجمعة المذكورة، ويرفع صورته على الراية الضخمة في ميدان التحرير للتبشير بثورة على غرار ثورته الدموية التي انتهت بإعدامه في بوليفيا على يد عملاء المخابرات الأمريكية!


التناقض المُشكل لدى اليسار المصري ومعه من يسمون بالليبراليين أنه لم يجد من يتحالف معه غير الفلول أو الرأسماليين اللصوص من أنصار النظام السابق؛ الذين ظلوا طوال يوم الجمعة المذكور عبر قنواتهم ومواقعهم الإخبارية يروجون للمتظاهرين فيما سموه “مليونية مصر مش عزبة”، وينقلون الهتافات التي تجأر ضد حكم المرشد، وتطالب الرئيس بالرحيل، وتطالب بالقصاص للشهداء في الوقت الذي تؤيد فيه النائب العام الذي اتهمه المتظاهرون اليساريون قبل غيرهم على مدى عام ونصف بالتقاعس عن محاسبة القتلة، وكانوا يطالبون بإقالته ورحيله.

لقد صورت قنوات الفلول ومواقعها التظاهرة بأنها انتفاضة القوى الثورية والمدنية… التي تطالب برحيل مرسي وحل التأسيسية… وتؤكد أن الأحزاب وحركة 6 إبريل تشعل المتظاهرين بالأغاني الوطنية… وتردد شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” الذي عاد مرة أخرى من جديد للتحرير، وأن هناك من رموز اليسار من يهتف وخلفه مئات المتظاهرين هتافات مثل: “يسقط يسقط حكم المرشد”، “جنزوري ما جنزورشي… مرسي لازم يمشي”، “دستور ما دستورشي المرشد مايحكمشي”، “هما اتنين ما لهمش أمان العسكر والإخوان”.

ونقلت القنوات وذكرت المواقع أن المئات من المتظاهرين خرجوا ضمن فعاليات جمعة “مصر مش عزبة” في مسيرة من ميدان طلعت حرب متجهة إلى ميدان التحرير، رافعين أعلام الحزب الناصري وصورًا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وذلك للمطالبة بإسقاط النظام، وردد المتظاهرون هتافات: “عبد الناصر قالها زمان الإخوان ما لهمش أمان”.

وأكد أحد الناشطين الليبراليين أن المشاركة الشعبية في مليونية “مصر مش عزبة” رائعة، ورسالتها واضحة. وقال فى تغريدة له عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”: “لن نقبل بدستور ينتقص من الحقوق والحريات، أو يعطي الرئيس صلاحيات مطلقة، أو يعبث بمدنية الدولة”. وتابع الناشط: “إن الكف عن الاستعلاء والبحث عن توافق وطني وشراكة للصالح العام، هي رسائل اليوم الإضافية للرئيس وللإخوان، والخطوة الأولى إعادة تشكيل التأسيسية”.

ولم تستطع القنوات والمواقع أن تخفي أن هناك خلافًا جرى بين ما يسمى تحالف القوى الثورية وأطراف ليست إسلامية، وصار أصدقاء الأمس يكيلون لبعضهم الاتهامات‏…‏ بل ويدعون علنًا إلى مقاطعة بعضهم بعضًا‏،‏ فقد حذر التحالف المذكور كلاً من أيمن نور وحركة 6 إبريل (أحمد ماهر) من المشاركة في جمعة “مصر مش عزبة”، والسبب كما قيل: هو أن نور وحزبه وشباب6 إبريل ارتموا في أحضان الإخوان وتحالفوا معهم ويلعبون معهم دور المحلل وفي سبيل ذلك تخلوا عن مبادئ الثورة وثوابتها، ولفت التحالف الانتباه إلى الدور الذي لعبه كل من أيمن نور وأحمد ماهر في إضفاء الشرعية على الجمعية التأسيسية الثانية والمشاركة فيها وتمكين الإسلاميين من الانفراد بكتابة الدستور الذي يبدو أنه -كما يقول التحالف- سيعبر عن دولة دينية (؟؟) وذلك وفق مسودة الدستور الأولى.

لقد استضافت قنوات الفلول ضيوفًا يتحدثون عن المظاهرة المليونية (؟)، وركزوا في أحاديثهم -في البرامج التي رأيتها- على تأجيج الصراع مع التيار الإسلامي؛ وفي مقدمته الإخوان بوصفه عدوًا يجب صده ورده، ولو اقتضى ذلك إعلان الحرب المقدسة لإنقاذ مصر من الاحتلال الإسلامي! كما رأوا أن عدم نزول الإسلاميين دليل على هزيمتهم، وجعل المليونية تمضي في سلام، مع أن الأنباء نقلت شيئًا عن اشتباك جرى بين شباب المؤتمر والمتظاهرين، وقد تم احتواؤه.

آثرت أن أضع أمام القارئ موجزًا وافيًا لما جرى، ليبصر المدى الذي وصلت إليه ديمقراطية الاحتراب التي تسعى إلى المغالبة -ولو كانت دموية- لتنتصر الأقلية على الأغلبية، ويكون الصوت الأعلى هو الأقدر على امتلاك زمام الوطن، حتى لو كان الوطن يترنح اقتصاديًا ويضج بميراث هائل من الآلام والجراح تراكم عبر ستين عامًا من حكم الاستبداد والهزائم والخيبات والفشل الذريع!

إن ظهور علم جيفارا في ميدان التحرير إشارة مزعجة بل مرعبة في وطن تخلص من ديكتاتورية بوليسية فاشية قصمت ظهره طوال ستة عقود ليدخل ديكتاتورية ماركسية دموية تذهب به إلى المجهول، وإذا ربطنا هذا الظهور بما قاله كادر شيوعي أيام الانتخابات التشريعية عن استعداد الشيوعيين للقتال لمنع وصول الإسلاميين إلى الحكم، فإن ذلك يبشر بمستقبل غامض ومخيف.

إن رفع العلم في حد ذاته لا يخيفني، ولكن محاولة فرض أيديولوجية مخالفة لإرادة الشعب المصري هو المخيف حقًا. فالشعب المصري يرفض الماركسية وأشباهها، وهو أول من عرف التوحيد على يد نبي الله إدريس، وتوالي ظهور الأنبياء ونشأتهم على أرضه، حتى جاءت الرسالة الخاتمة، ولذا لن يقبل الشعب المصري تغريب الدستور تحت أي ضغط، ثم إن السعي لتنحية الرئيس المنتخب وهو لا يزل في بداية حكمه ولم يتمكن بعد من ممارسة العمل يوحي أن هناك رغبة في عدم التوافق وإرباك الوطن وإسقاط الدولة وفي ذلك خطر كبير ومضاعفات يتحمل مسئوليتها اليسار بالدرجة الأولى.

لقد وُصف جيفارا بالجلاد الذي لا يرحم والجزار المتعطش للدماء والعقائدي المتعصب؛ من جانب بعض مواطنيه وأقاربه، لأنه اعتمد منهج الدم، وعلينا أن نتذكر أن أنصاره في التحرير لم يصلوا الجمعة لانشغالهم بالمظاهرات المليونية، والهتاف ضد المرشد والرئيس والتأسيسية أثناء الصلاة.

بقي أن نعلم أن مصر لم ولن تكون عزبة لأحد، فقد عرفها الشرق والغرب بأنها دار الإسلام والسلام والإنسانية، وهي حق لأبنائها جميعًا، بل إنها تفتح ذراعيها لأشقائها وضيوفها… مصر عقل الأمة الإسلامية، فلا تمزقوها بالأنانية والكراهية والإصغاء لوسوسة الشيطان ومنهج جيفارا!