المشهد المصري .. المخرج هو التسكين .. د/ راغب السرجاني

[SIZE=“5”][CENTER]

في تعليق خاص لموقع قصة الإسلام على الأحداث الجارية في مصر، وكيفية وقف نزيف الدماء أكد فضيلة الأستاذ الدكتور راغب السرجاني عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أن الحل الأمثل المستقى من سيرة النبي المصطفى هو التسكين، والذي يتم عبر الخطوات التالية:

1- فصل الفئات المتصارعة بعضها عن بعض، وبالتالي يجب على المخلصين من قادة كل فصيل المناداة بسحب أتباعهم من ساحات العراك فلا يتبقى في الشارع عندئذ إلا البلطجية، وبالتالي يسهل التخلص منهم جميعًا، ويعرف الناس حقيقتهم.

2- خروج الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي عن صمته بخطاب هادئ ورصين يتكلم فيه بعاطفة الأبوة مع شعبة، يخاطب عقول وقلوب المصريين، ويوضح فيه الحقائق الغائبة عن الشعب، ويحفزهم فيه على التسكين لحل جميع القضايا العالقة بدون سفك دماء.

3- تأجيل الاستفتاء على الدستور لفترة قصيرة؛ وذلك للأسباب التالية:

  • وجود بعض القضايا العالقة في الدستور، والتي يتحجج بها من يعارضونه.

  • فرصة تأمين صناديق الاستفتاء قد تكون في الوقت الحالي في غاية الصعوبة على الشرطة، خاصة وهي مشتتة بين تأمين الاتحادية والتحرير والبلاد وغير ذلك؛ لذا فهي لن تتمكن من التأمين الجيد للصناديق إلا إذا فُرِّغت تمامًا لذلك.

  • إتاحة فرصة كافية أمام الناس جميعًا لفهم واستيعاب مواد في الدستور الجديد.

  • حتى تهدأ نفوس المصريين مما علق بها من المشاحنات خلال الفترة الحالية.

صار المشهد معقدًا للغاية!

التشابكات لا نهائية… والمتصارعون كُثر… والضحايا تتزايد… وقد لا يعرف القاتل فِيمَ قَتَل، ولا يعرف المقتول فيمَ قُتل؟!

لا سبيل إلى فَهْم الحدث إلا بالتحليل الدقيق للمتصارعين، ومعرفة أهداف كل فريق، ومن ثَمَّ يمكن الوصول إلى ما قد يؤدي إلى الاستقرار.

المتصارعون على الساحة المصرية

وإنني أرى بعد التحليل أن الموجودين على أرض الصراع عبارة عن ثلاثة فصائل رئيسية، تضمُّ بين طياتها عشرات الفصائل الفرعية…

أما الفصيل الأول فهو الحركة الإسلامية؛ بشتى أطيافها، وعلى رأسها بالطبع الإخوان والسلفيون، وهؤلاء لهم مشروعهم الإسلامي الواضح، والتاريخ يشهد برغبتهم الأكيدة في تحكيم الكتاب والسنة، وهو مشروعهم الذي يضحُّون من أجله، ويبذلون وقتهم وجهدهم ومالهم، وكذلك حياتهم من أجل نصرته، وهؤلاء وصل أحد أبنائهم -وهو الدكتور محمد مرسي- إلى السلطة الشرعية الرسمية في البلاد، وصار عدد من أبناء الحركة في الحكومة، ولو استقرت الأوضاع لهم فإنّ المتوقع هو اتجاه البلاد ناحية المنهج الإسلامي، ولو بشكل متدرج.

والفصيل الثاني هو فصيل المشروع العلماني؛ الذي يرفض أن يكون الدين حاكمًا لحياة الناس، ويرى أن العبادة أمر فردي بين الإنسان وربه، ولا دخل للدين في سياسة الدولة أو اقتصادها أو معاملاتها، ومنهم من يتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد. ورموز هذا التيار معروفة، ولها أيدلوجيات قد تكون متباعدة جدًّا، لكن يجمعها رفض المشروع الإسلامي. وهؤلاء خسروا عدة جولات في السنتين الأخيرتين… خسروا في انتخابات مجلس الشعب، وكذلك مجلس الشورى، وخسروا في انتخابات النقابات والاتحادات، وخسروا أيضًا في انتخابات الرئاسة، وهذه الخسارة غير مقبولة عندهم، حتى لو جاءت عن طريق صناديق الاقتراع والديمقراطية، التي طالما تحدَّثوا عن عظمتها واحترامها.

هذا الفصيل الثاني رفض نفسيًّا ثم واقعيًّا أن يصل أصحاب المشروع الإسلامي إلى بُغيتهم؛ فاختاروا أن ينقلبوا على الوضع الشرعي، متجاهلين مبادئهم التي تدعو إلى تحكيم صندوق الانتخابات، وهم -في هذا العمل المخالف لأفكارهم المعلنة- مدعمون بجيش كبير من الإعلاميين الذين يعتنقون مبادئ العلمانية، ويبغضون مبادئ الحركة الإسلامية، وتقادمَ عليهم الزمن في هذا الاتجاه.


أما الفصيل الثالث فهو البقايا الكثيرة والمتشعبة للنظام السابق
؛ وهي المعروفة بالفلول، وهؤلاء لا يتخيلون فَقْدَ سلطتهم، والتي كانت مطلقة، كما أنهم يخشون قيام دولة العدل التي يمكن أن تقيم عليهم أحكامًا تصادر أموالهم، وتقيِّد حرياتهم، وهؤلاء في معظمهم من رجال المال، أو رجال السلطة القديمة، أو كلاهما معًا، وهم مدعمون بعشرات الآلاف أو مئات الآلاف -بلا مبالغة- من البلطجية المحترفين، الذي يرغبون في استمرار الوضع القديم؛ لأنهم لا يستطيعون العيش إلا في أجواء الفساد، ولا يُتقنون إلا صناعة الإجرام، والحديثُ عن الأخلاق أو مصلحة الوطن هو عندهم نوع من العبث.

هذا الفصيل الأخير -فصيل الفلول المدعوم بالبلطجية- لن يقبل إلا حل الفوضى، وهم لا يتركون الأمر للصدفة، إنما يحرِّكون الأحداث لكي تسير إلى الفوضى، وهو ما يُسَمَّى بالفوضى الخلاَّقة، وسيصبح الهدف الأسمى لهذا الفريق هو ضرب الفصيلَيْن الأولين بعضهم ببعض، وذلك عن طريق سكب البنزين المستمر على نقاط الخلاف بين الفريقين، واستخدام الإعلام -الذي يمتلك أدواته كثيرٌ من الفلول- في تأجيج الفتنة، واستغلال رغبات البعض -الذين لم يُوَفَّقُوا في انتخابات الرئاسة، أو لم يحصلوا على مرادهم في الدولة الجديدة- في تهييج الصراع كلما خمد، أو أوشك على الانطفاء.

ولو اصطدم الطرفان الأول والثاني في وجود العوامل المساعدة من الفلول والبلطجية؛ فإننا سندخل في دائرة مفرغة، لن تترك البلاد إلا قاعًا صفصفًا.

وما المخرج ؟!

المخرج في كلمة واحدة هي: التسكين!

إننا في هذا الجو المشحون، وفي ظلِّ صناعة الإشاعات التي يحترفها الكثير من وسائل الإعلام لا يمكن أن نصل إلى قرار سليم حكيم يحل الأزمة.

ومن ثَمَّ لزم أن ندخل في حالة من “السكون”؛ بغية الوصول إلى حالة من الهدوء النفسي والاستقرار؛ تسمح للعقلاء أن يحسنوا الاختيار بين الاقتراحات المتعددة، وتعطي الفرصة الكافية لاكتشاف المجرمين من رموز الفساد والبلطجة، الذين لا يريدون للأوضاع أن تهدأ أبدًا…!

لقد خرج قبل ذلك جيش عظيم من المسلمين الأكارم إلى البصرة، وكان على قمته السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكذلك طلحة والزبير رضي الله عنهما، وخرج أيضًا جيش آخر على رأسه الصحابي العظيم علي بن أبي طالب، وكاد الفريقان أن يقتتلا، فتوسَّط القعقاع بن عمرو التميمي لفضِّ النزاع، وجلس مع فريق عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم، وسألوه عن الحل، فقال: التسكين! نترك الأمور تهدأ لفترة نُقَيِّم فيها الأوضاع، وتهدأ فيها النفوس، ونعطي الفرصة لبعضنا البعض أن يسمع إخوانه وأبناء وطنه، وبعدها نحكم ونختار…

فقبلوا بهذا الطرح، وباتوا بأسعد ليلة… هكذا التسكين يقود إلى السعادة… لكن “الطرف الثالث” -وهم رموز الفساد والبلطجية- لم يقبلوا بهذا الوضع؛ فأثاروا الفتنة، وقتلوا من هنا وهناك؛ قتلوا من فريق عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم، وكذلك قتلوا من فريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأشاعوا أن كل طرف قتل الطرف الآخر، وفي خضمِّ التقاء الجيوش دارت المعركة المؤسفة… معركة الجمل، وسقط عدد كبير من الضحايا، وصارت نقطة سوداء في التاريخ، وترسخت كراهيات كان لها أبلغ الأثر -سلبًا- على الأمة الإسلامية.

كان السبب في هذه المأساة أننا وضعنا الجيشَيْن إلى جوار بعضهما البعض، فتيسَّرت مهمة الفاسدين في إحداث الفتنة، وكان السبب أن الطرفين لم يجلسا مع بعضهما البعض جلسة مودَّة؛ يستمعون فيها إلى حجج بعضهما البعض بهدوء، وكان السبب عدم الالتفات إلى خطورة “الطرف الثالث” المفسد في الأرض، فحدثت المأساة… كل ذلك مع أن الطرفين يضمَّان كرام الصحابة والجيل الأول، فما بالكم بالحال في زماننا الآن؟!! وليس فينا من يبلغ معشار هؤلاء في الفضل والعقل.

ما الهدف من التسكين ؟

إن التسكين الذي نرجوه ليس شيئًا مخدِّرًا، وليس أمرًا نؤجِّل به المشكلة إلى فترة مقبلة، إنما هو فرصة لجعل النفوس تهدأ، وفرصة لجعل الصالحين والمخلصين يأخذون وقتًا في جمع المعلومات الصحيحة، وتقريب وجهات النظر، وهو فرصة أيضًا لكشف مخططات المفسدين، والذين ستنكشف أوراقهم في الجو الهادئ أكثر ألف مرة من الأجواء المضطربة والفوضوية.

وهذا التسكين الذي نرجوه له آليات كثيرة؛ بعضها في يد الرئيس، وبعضها في يد المخابرات والشرطة والجيش والأمن بشكل عام، وبعضها في يد الإخوان والسلفيين، وبعضها في يد الرموز الوطنية المختلفة، وبعضها في يد رؤساء الأحزاب، وبعضها في يد العلماء ورجال الدين، وبعضها في يد الإعلاميين الوطنيين…

هناك الكثير يمكن أن يبذل في هذا المجال… ولعلَّ البداية تكون في أن يأمر العقلاء على رأس التجمُّعَيْن الإسلامي والعلماني بسحب كل أفرادهم، وترك الساحات خالية من البشر؛ حتى لا يتبقى فيها إلا البلطجية والمأجورون. ولعلَّ البداية أيضًا في خطاب هادئ رزين أبويّ جامع لرئيس الجمهورية، وكذلك تكون البداية -فيما أعتقد- في تأجيل الاستفتاء على الدستور؛ حتى يأخذ فرصة في أن يعرفه الشعب، فيحترموه ويوقروه، ويقبلوا مستقبلاً أن يعيشوا في ظلِّه.

أيها المصريون من شتى الطوائف والاتجاهات والتيارات…

أنتم شعب كبير عظيم… وصَّى به رسول الله صلى الله عليه وسلم… وينظر إليه العالم العربي والإسلامي والإفريقي على أنه قدوة ومَثل، فلا تفتنوا الناس فيكم، وكونوا كبارًا على قدر قيمة دولتكم، وتعالوا على سفاسف الأمور، وتقاربوا وتحابُّوا وتعاونوا، ولا تُعَمِّقوا جراحات قد لا تندمل أبدًا.

حفظ الله مصر والمصريين، وهدانا إلى سبل الرشاد والسداد.

[/center][/size]

المشهد المصري … المخرج هو التسكين … د/ راغب السرجاني