والله.. ليتمن هذا الأمر! .. د. راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“5”]

تربص المتربصون بالمؤمنين… هالهم أن توجد دعوة أخلاقية إيمانية راقية فى مجتمعهم المليء بالموبقات والكوارث الإنحلالية… فزعوا من كلمة لا إله إلا الله… هربوا من الإسلام وحامليه… وانطلقوا ينهشون فى أجساد الصالحين… معلنين بكل وقاحة أن جريمة المؤمنين أنهم يقولوا ربنا الله!
شعر بعض المخلصين أن هذه قد تكون النهاية، وأن المشروع الإسلامي فى طريقه للفشل، وأن اجتماع أهل الفسق والفجور سيقضي على أحلام الأتقياء، شعر البعض بهذه المشاعر الحزينة، فذهبوا مسرعين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كَحَلٍّ أخير، يطلبون فيه أن يرفع يديه إلى السماء ويدعو الله بالنصرة، فهو مستجاب الدعوة، قريب من الله…
كان المتكلم عنهم هو خباب بن الأرت رضي الله عنه… وكان عذابه على أيدى الكفار رهيبًا، فقد كُوىَّ بالنار، حتى امتلأ ظهره بالحفر!!

ماذا كان رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

رد فعله هو رسالتنا للراغبين فى تطبيق شرع الله، والطامحين في أن ينالوا درجة العاملين المجاهدين الصابرين…
يحكي خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رضي الله عنه فيقول: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: “كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”…

إن هذا الموقف الجليل ليعطينا رسائل واضحة تبين لنا طبيعة الطريق وصفته:

الرسالة الأولى: سيظل أهل الباطل متربصين بالمؤمنين حتى مع وضوح الرسالة وجمال الأخلاق، فليس هناك أعظم من الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وليس هناك أروع من جيل الصحابة بأخلاقهم الدمثة وسلوكياتهم الراقية، ومع ذلك لم يمنع هذا التمايز الأخلاقي الواضح جنودَ الفساد من التعدي الصارخ وغير المبرر على المؤمنين، وإن كانوا يعلنون حججًا تافهة يتذرعون بها أمام المراقبين أنهم ما قاموا إلا نصرة للحق، وحفاظًا على الوطن، وهذا الدين - كما يدَّعون – يُفرِّق المكيِّين، ويصنفهم إلى ملتزم بالعقيدة الإسلامية وغير ملتزم بها، ومن ثم فحفاظًا على وحدة الوطن لابد من سحق هذه الطائفة المؤمنة…
عندما نرى هذه الصورة الفجَّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا نستغرب ما يحدث الآن مع أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه إذًا سنة كونية.


الرسالة الثانية
: في رواية من روايات هذا الحديث – وهى في البخاري- وصف خباب بن الارت رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عندما بدأ في الرد أنه “قَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ”، وهذه علامة غضب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل البعض يتعجب من غضبه صلى الله عليه وسلم من طلب خباب، فهو لم يطلب إلا الدعاء والنصرة، ولكن الذي دفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك هو إحساسه أن خبابًا رضي الله عنه قال هذه الكلمات وهو في حالة من حالات الإحباط، والإحباط ليس من شيم المؤمنين، ولا يجوز لهم أصلاً… قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}.
فهذه رسالة إلى جموع المؤمنين على مدار التاريخ: أن شعوركم باليأس في مرحلة من مراحل الدعوة - أيًا كانت هذه المرحلة - هو شعور يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فهو يغضب الله عز وجل، ولا ينبغي لمسلم أن يسمح للإحباط أن يتسلل إلى نفسه.


الرسالة الثالثة
: ذَكَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبابًا بالتاريخ، فأشار إلى أقوام عُذِبوا وأُوذوا أكثر من العذاب والأذى الذي تعرض له خباب، فبالقياس إلى ما سبق يعتبر أن ما تعرض له خباب والصحابة أهون بكثير مما مضى.
وفي هذه الرسالة ندعو القراء إلى مراجعة التاريخ البعيد والقريب ليدركوا حقيقة هذا المعنى… أما التاريخ البعيد فأحداثه كثيرة، ولا يتسع المجال في هذه المقالة للتفصيل، ولكن التاريخ القريب كلنا عاصره! وقد كانت أزمتنا أشد وأنكى من موقفنا الآن ألف مرة… لقد كانت أزمتنا في أيام النظام الفاسد لمبارك وجنده أقسى من كل ما نشاهده… وتذكروا أن البلطجية كانوا يمنعوننا من مجرد التصويت في الصناديق، وتذكروا التزوير الفاضح، وتذكروا المحاكم الصورية والعسكرية، وتذكروا أمن الدولة بسجونه وتعذيبه وامتهانه للكرامة وظلمه وتكبره… وكانت أزمتنا أشد كذلك في أثناء الثمانية عشر يومًا، في الأيام الأولى للثورة، وقبل تنحي مبارك، ونحن لا ندري ما سيفعل بنا لو لم تنجح ثورتنا…
وكانت أزمتنا أشد كذلك في الانفلاتات الأمنية الرهيبة، والتي دفع كثير من المصريين أرواحهم فيها، وما أحداث استاد بور سعيد منا ببعيد، وكانت أزمتنا أيضًا أشد في الهجمة الإعلامية الشرسة على الحركة الإسلامية ككل عندما قرروا النزول في انتخابات الرئاسة… تذكروا الاستبيانات المزورة، وتذكروا الإشاعات الفاسقة، وتذكروا الوجوه الكئيبة التي كانت تسخر من الإسلام والمسلمين… وتفاقمت الأزمة بصورة أكبر في جولة الإعادة بين الدكتور مرسي مرشح الثورة والفريق شفيق مرشح الفلول، حتى تخوَّف الكثيرون، وبلغت القلوب الحناجر… رأينا كل ذلك وعاصرناه… فماذا حدث؟! لقد أرانا الله أنه على كل شئ قدير، وأنه بما يعملون محيط، وأخرجنا من كل هذه الأزمات أقوى مما كنا، وأفضل مما حلمنا، وأكثر نجاحًا مما توقعه أشد متفائلينا… وثبت لنا بالدليل القاطع أن حساباتنا البشرية شئ، وتدبير رب العالمين المهيمن سبحانه شئ آخر.
التاريخ القريب – وكذلك البعيد عندما نحسن قراءته – يثبت أن الله يخرج المكروبين من كربهم، وينصر القليلين على ضعفهم، بطرق لا يفهمها ولا يتوقعها أحد من الخلق، فنصر المؤمنين أحد آياته ومعجزاته، وأحد أدلة ألوهيته، فلابد أن يتم ويكتمل…

الرسالة الرابعة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جَزَمَ بشكل قاطع أن الله سيتم هذا الأمر: الإسلام… وليس هذا إتمام دعوة فقط، ولكن إتمام تمكين كذلك، حتى يسبر الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، وأقسم على ذلك، وأكَّده بمؤكدات لغوية متعددة…
فوالله أيها المصريون… يا من أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكم… ليُتِمَنَّ الله هذا الأمر، ولينتشرنَّ الأمن في ربوع بلادنا، وليعلونَّ شأن الإسلام حتى يطبقه الناس في أدقِّ تفصيلات حياتهم… ولتُرفعَنَّ رايات التوحيد في أيدي هذا الشعب المصري المؤمن الأصيل، وليعرفنَّ العالم أجمع الإسلامَ من أفواه علمائنا وأقلامهم، ومن سلوكيات شعبنا وأخلاقه… ووالله ثم والله… ليحدثنَّ هذا وأكثر، مهما أرجف المرجفون، أو حقد الحاقدون، أو مكر الماكرون والمجرمون والمفسدون، فهو قدر هذه الأمة، ومستقبلها الذي وعدنا به القدير سبحانه…

الرسالة الخامسة: على عِظَم هذه الأمنية… أمنية تمام الإسلام وتمكينه… إلا أن الأمر النبوي المباشر هو ألا نستعجل… فلله حكمة في التأخير، وهو قادر – سبحانه – على نصرة المؤمنين، وكشف أوراق الفاسدين بكُنْ فيكون، ولكنه يؤجِّله لأجل معلوم… فوجود العجلة من المسلمين قد يكون علامة ضعف يقين، أو قلة صبر، أو بوادر إحباط، وهذا كله خطير ومرفوض، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي”… بل يجب أن يعمل المسلمون في جد واجتهاد، وفي حمية ونشاط، حتى وإن كانت الأحداث التي يشاهدونها غير مشجعة، أو توحي في اعتبارات الكثيرين بغلبة أهل الباطل على أهل الحق… والله سينزل النصر حتمًا في الوقت الذي يريد، وبالطريقة التي يريد…
إن هذا الموقف المتفائل ليس موقفًا فريدًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شبيه أو مثيل… كلا… إنه موقف متكرر رأيناه كثيرًا… رأيناه في كل سنوات مكة في تعدي أهلها عليه… ورأيناه عند عودته من الطائف، ورأيناه عند هجرته إلى المدينة وترك الديار والأهل والأموال، ورأيناه عند اضطراب دولته في أول عهدها، ورأيناه في مصيبة أحد، وكذلك عند حصار الأحزاب، وعند الاصطدام مع الرومان، وعند إرجاف المنافقين، وغير ذلك كثير…
إنها السُنَّة الماضية… مهما بلغ الألم فستكون له نهاية، ومهما اشتدَّ الظلم فسيأتي زمن العدل، ولا يأتي الفجر إلا بعد أحلك ساعات الليل…

إنها ليست أحلام فيلسوف، أو أمنيات مُصلِح، إنما موعود رب العالمين…

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}…

ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين…

[/size][/center]

والله… ليتمن هذا الأمر!