طريق المحبين

كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا مع الأسباب الجالبة للمحبة التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله-.
5- مطالعة القلب للأسماء والصفات:
قال -رحمه الله-: “الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها، ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة، ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب”.
فأساس المحبة أمران:
الأول: معرفة معاني الأسماء والصفات.
والثاني: مشاهدة آثارها في الكون.
فلا شك أن هذا هو السبب الأعظم في زيادة محبة العبد لربه -سبحانه وتعالى- ومحبة الله -عز وجل- له، ويكون ذلك بأن يتعبد لله -عز وجل- بمعرفة كل اسم من هذه الأسماء التي أعلمنا إياها الله -عز وجل- في كتابه وأعلمنا إياها رسوله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، وكذلك مشاهدة أثر كل منها، مع استحضارها في القلب، ورد كل فعل في الكون إلى اسم وصفة له تبارك وتعالى، وكلام كل الأنبياء يدور حول ذلك، كما ذكرنا شيئًا من هذا عند الكلام على تدبر القرآن، فإن مدار الأمر كله على أفعال الله -عز وجل- وأسمائه وصفاته -سبحانه وتعالى-، ففي قوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) FONT=Arial[/font]، السبب المرغِّب للمؤمن الحامل له على الذكر قوله تعالى بعد ذلك: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) (الأحزاب: 43)، فرغبهم الله -عز وجل- في ذكره بإعلامه لهم أنه يذكر من ذكره في الملأ الأعلى، وهذا أشرف ما يتصور، وقد قال -عز وجل-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَقُولُ اللهُ -عز وجل-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ) (رواه البخاري ومسلم).
ومن ذلك أن تشهد آثار أسماء الله وصفاته في الاجتباء والاصطفاء والمنة، ومنه ما قاله يعقوب لابنه يوسف -عليهما السلام-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6)، ففيه شهود الاختصاص بالرحمة والتفضيل، وهو من أعظم ما يأخذ بقلب العبد إلى ربه سبحانه، حبًّا وشوقًا، ورجاءً وعبوديةً، فالحب ينبت على حافات شهود المنن ومعرفة الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهذا قد تحقق في كلمات يعقوب لابنه يوسف -عليهما السلام-؛ فمدار كلام يعقوب في الآية على الأسماء والصفات، وعندما يأتيه خبر له وقع شديد على نفس الإنسان العادي ـ وهو أن ابنه قد أكله الذئب ـ تجد سكونًا عجيبًا: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18)، ثم يأتيه خبر آخر عندما يقول له أبناؤه كما قال -عز وجل- عنهم: (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ)، فلا زال الألم بسبب ضياع يوسف موجودًا، (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 63-64).
فمع وجود الأسف والألم والحزن على ما فات يحتاج المؤمن إلى علاج لهذا الألم وتدارك لهذا الحزن حتى لا يشقى به، فلابد له من برد يطفئ حر الأسف، ولا أحسن ولا أجمل ولا أوسع ولا أفضل من التعلق بأسماء الله وصفاته؛ فبه يحصل برد اليقين، وحسن الظن، وصدق التوكل والتفويض، وانتظار الرحمة من أرحم الراحمين، وهو أرحم بالعبد من أمه وأبيه ونفسه التي بين جنبيه.
قال يعقوب؛: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً)، وقُرئ: (حِفْظًا)، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 64)، فحفظ الله ليوسف خير من حفظ يعقوب له، ونعم والله، فحفظ الله له بعيدًا عن أبيه كان أكمل وأعظم من حفظه له وهو يرعاه بنظره ويربيه بحنانه.
فكل حال من أحواله؛ فيه تعلق بصفة من صفات الله؛ فحينما يستحضر بُعد يوسف عنه يستحضر حفظ الله -عز وجل- له، وحينما يشفق على يوسف ويرحمه يستحضر أن الله -عز وجل- أرحم الراحمين، فمن أعظم الأمور التي تقرب العبد من الله التعلق بأسماء الله وصفاته.
وما زال الحديث موصولاً عن هذا السبب من الأسباب الجالبة لمحبة الله –عز وجل-.