العمل للدين مسئولية الجميع

كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فحدَّث بعض طلبة العلم أنه أرسل في بعثة دعوية؛ ليدعو إلى الله – تعالى - في بعض مجاهيل إفريقيا، وتكبد العناء والمشقة حتى وصل إلى هذه البلاد شديدة الحرارة التي ليس فيها مِن أمور الرفاهية شيء، واستراح ليلته وهو يقول عن نفسه أنه بذل واجتهد، وفي الصباح خرج؛ ليتفقد حال البلد، فوجد امرأة يبدو عليها السمت الأوروبي، فتعجب مِن وجودها في هذا المكان الذي تختلف طبيعته عن بلادها تمامًا، وليس فيه مِن وسائل الرفاهية والحياة الحضارية شيء؛ فسأل عنها؟ فقالوا: “هذه هنا منذ ثمان سنوات تدعو أهل هذا البلاد إلى النصرانية”! فاحتقر عمله وجهده.
وذكر أحد مَن بُعث مِن بلاده؛ ليحصل على شهادة مِن أوروبا أن امرأة طرقت عليه الباب في الصباح ذات يوم واستأذنته دقائق؛ لتبشره بالمسيح؛ فاعتذر لها بأن دينه يخالف دينها، ولكنها أصرت على أن يمنحها دقائق من أجل المسيح، ولكنه أغلق في وجهها الباب؛ فوقفت أمام الباب قرابة النصف ساعة تتحدث بما تريد أن تقوله له بصوت مرتفع!
والدكتور “أوساهير” الملقب بأبي المحركات في اليابان لما أرسلته بلده إلى ألمانيا؛ ليحصل على شهادة الدكتوراه، فأخذ يدرس ويقرأ، وأعطاه أساتذته الألمان الكتب؛ ليقرأ ويدرس، قال: “لو استمعت إلى نصائح أساتذتي الألمان؛ لما حصَّلت شيئًا”.
فنزل إلى مصانع صهر الحديد والنحاس وغيرها، ولبس بزة العمال؛ ليتعلم منهم، بل كان يخدم العامل حتى أثناء طعامه وشرابه، ويقول -رغم أنه من أسرة ساموراي-: “ولكني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء”! حتى استطاع صناعة أول محرك ياباني خالص.
هذه نماذج من بذل أهل الباطل لباطلهم، فأين بذلي وبذلك لدين الله - تعالى-؟!
وأين جهدي وجهدك في سبيل الله - تعالى-؟!
قال أوساهير: “ولكني كنت أخدم اليابان”؛ فأين خدمتي وخدمتك للإسلام؟!
وقال: “كل شيء من أجل اليابان يهون”؛ فهل يبذل كل منا ويقول: "كل شيء من أجل الإسلام يهون؟!

تهون الحياة وكل يهون ولكن إسلامنا لا يهون

إن قضية العمل للدين، والبذل في سبيل الله ورفع راية الإسلام، والاجتهاد؛ ليعلو الإسلام على كل الملل والنحل، وعودة الخلافة، وعودة هذه الأمة لقيادة الدنيا بدين الله -عز وجل-، وتعبيد الناس لرب الناس -سبحانه وتعالى-؛ ليست مسئولية شخص بعينه أو هيئة معينة، وإنما مسئولية كل مسلم على حسب طاقاته وإمكانياته وقدرته.
وإننا مَن نحتاج إلى هذا العمل الصالح وهذا البذل؛ لنجاة أنفسنا وسعادة دنيانا وأخرانا، وليس ديننا المحتاج إلى ذلك؛ لأن الإسلام قوي بذاته، ظاهر بذاته؛ لأنه هو الحق، وما سواه باطل؛ ولذلك ينتشر الإسلام في كل ربوع الدنيا، ويدخل كل يوم في الإسلام المئات، بل الآلاف على رغم ضعف المسلمين وعجزهم.
ولننظر إلى هذا المشهد الرائع ليعقوب -عليه السلام- حينما جمع أبناءه في آخر لحظات حياته؛ ليطمئن على القضية التي عاش من أجلها طوال حياته، وبذل الغالي والنفيس في سبيلها، قضية الدين: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) FONT=Arial[/font].
فهو لم يرضَ أن يموت فقط على الإيمان، بل يطمئن على مستقبل أولاده وأمته في طاعتهم وعبوديتهم لله.
وجده الخليل -عليه السلام-: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) FONT=Arial[/font].
والحفيد يوسف -عليه السلام- ما شغله السجن وما فيه مِن ظلم وألم عن القضية الكبرى في حياته، العمل للدين، والدعوة إلى الله -تعالى-، فحين جاءه الرجلان يسألانه عن تأويل الرؤيا دعاهما إلى الله -تعالى- أولاً: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) FONT=Arial[/font].
ولما تولى الملك والسلطان ما شغله عن قضيته هذه كما أخبر عنه مؤمن آل فرعون بعده بسنين في زمن موسى -عليه السلام-: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) FONT=Arial[/font].
ونوح -عليه السلام- دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ومع ذلك قابلوا دعوته بالعناد والكفر: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) FONT=Arial[/font].
ومع ذلك ظل على دعوتهم، ولم ييأس ويقل: “لا خير فيهم”، و"لن يرجى من ورائهم خيرًا"؛ فدعاهم سرًا وجهرًا، وجماعات وفرادى، ليلاً ونهارًا، ترغيبًا وترهيبًا: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا . ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا . فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا . مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) FONT=Arial[/font].
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- ظل في مكة يدعو إلى الله -تعالى- ويبذل في سبيل الله، ولما وقف له كفار قريش تكذيبًا وعنادًا وكفرًا؛ ذهب إلى الطائف؛ ليفتح لدعوته مجالاً آخر، فموطن الداعية حيث مصلحة الدعوة، وقوبل بمثل ما قوبل به من قريش، بل أشد، ثم ترك أحب البلاد إليه وأحب البلاد إلى الله، وموطنه ومكان مولده هجرة إلى الله -تعالى-، ثم جهاده في سبيل الله حتى آخر لحظات حياته، وكان في آخر اللحظات حريصًا على أمته وعلى دينها، وحماية جنابه، فكان آخر ما تكلم به: (الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال: (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ). يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا (متفق عليه).
والأنبياء هو الأسوة والقدوة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) FONT=Arial[/font]، وهم الذين يمثلون المنهج الرباني في كل عصر ومصر.
وغلام الأخدود الغلام ـ الذي لم يبلغ سن الشباب حين هداه الله إلى الإيمان ـ ظل يدعو الناس إليه حتى وصل الأمر للملك، فحاول قتله، فلم يستطع؛ فدله على طريقة موته، إنه عاش من أجل قضية هي: قضية الدين، ويريد أن تصل الدعوة إلى كل إنسان في بلده، فبذل نفسه في سبيلها حتى آمن الناس، رغم أنه مات قبل أن يرى ثمرة دعوته.
وخليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشد أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- حينما ولي الخلافة، وارتد من ارتد من العرب، ومنع من منع الزكاة، قال قولته المشهورة: “أينقص الدين وأنا حي”، أي: لا يمكن أن يحدث هذا، وهو الذي ظل حياته مجاهدًا في سبيل الله، بذل ماله كله في سبيل الله، وظل حياته إلى أن مات يعيش لدينه ونصرته.
والطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه- حينما أسلم في أول لحظات إسلامه يعلم أن عليه واجبًا تجاه دينه ودورًا في نصرته، فيقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن نطق بالشهادتين: “إن دوسًا كفرت بالله، فمرني فلأذهب إليها”.
وصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- جميعًا بعد جهاد ثلاثة وعشرين عامًا من البذل والتضحية، وتحمل الآلام والصعاب، وترك الأهل والأوطان والأولاد، وبذل الأموال وغير ذلك ما جلسوا؛ ليستريحوا بعد ذلك، أو ليحصلوا على النياشين والأوسمة، ويرووا قصص البطولات الماضية، وإنما انطلقوا جميعًا استمرارًا في العمل للدين، ونصرة للإسلام حتى مات كل منهم في قارة مِن قارات العالم.
ونور الدين وصلاح الدين الذين -رحمهما الله- أوقفا حياتهما لله حتى حرر الله -تعالى- على المسجد الأقصى على يد صلاح الدين، وقالا قولتهما المشهورة التي وردت على لسانيهما: “كيف أضحك والقدس أسير؟!”.
والمواقف من حياة سلفنا في العمل للدين ونصرة الإسلام والبذل لله لا يحصيها إلا الله، وانظر لهذا الإحساس عند سلفنا، يقول بعضهم: “إني لأرى المنكر لا أستطيع تغييره؛ فأبول دمًا”، ويقول الآخر: “وددت لو قرض جلدي بالمقاريض وعبد الناس ربهم”.
وقد تقول: ومَن أنا؟ وهل يكون لعملي قيمة؟!
نقول: لا تحتقر نفسك، فقد يجعل الله على يديك خيرًا كثيرًا، فاصدق الله، وأخلص، وابذل الجهد، واجتهد في العمل؛ تجد خيرًا ـبإذن الله-، وكل مَن جرب الدعوة إلى الله؛ وجد أمام عينيه ثمارًا طيبة كثيرة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ) (رواه النسائي والحاكم، وصححه الألباني)، (لا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا) (رواه مسلم).
وتعبدنا الله -تعالى- بالعمل ولم يتعبدنا بالنتائج، قال -صلى الله عليه وسلم-: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ) (متفق عليه). فهذا نبي لم يؤمن به أحد، ولكنه أدى ما عليه، وقام بدوره.
فتقول: وما دوري أنا؟ وماذا أفعل لخدمة ونصرة ديني؟
أولاً: ابحث لنفسك عن دور، فلا تنتظر أحدًا يعرفك دورك، فمن حبك لدينك؛ ستجد أدوارًا.
وهذه مفاتح أدوار تعينك:
1- التزامك بشرع الله، وتربية أولادك على الإسلام مِن أعظم النصرة للدين.
2- الدعوة إلى الله -تعالى-، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- تعلم الدين، وتعليمه للناس، ومنه: الخطبة، والدرس.
4- الاهتمام بقضايا المسلمين في كل مكان، وتعريف الناس بها وبحقيقتها، وحقيقة كيد الأعداء.
5- رعاية الأيتام، والفقراء، والمساكين، وكفالتهم.
6- تفوقك الدراسي، وذلك مِن أجل تقدم أمة الإسلام: اقتصاديًا، وسياسيًا، وعلميًا، وتكنولوجيًا.
7- خدمة المسلمين في مكان عملك، والبعد عن الحرام؛ سواءً كنت موظفًا، أو عاملاً، أو طبيبًا، أو مهندسًا، أو غير ذلك.
8- الدعاء والتضرع إلى الله لنصرة المسلمين، وهذا الأول عمل لا يعجز عنه أحد، قال -صلى الله عليه وسلم-: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ) (رواه البخاري)، وفي وراية: (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا؛ بِدَعْوَتِهِمْ، وَصَلاتِهِمْ، وَإِخْلاصِهِمْ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
9- اذهب لأهل العلم والدعاة إلى الله في مكانك ومنطقتك؛ ليدلوك على أعمال يحتاجونها، وتبذل أنت فيها لله.
قال بعض أهل العلم: “كانوا يقولون لنا: دقك المسمار؛ لتعليق لوحة إعلان عن درس علم نصرة للدين، ومشاركة في عودة الخلافة”.
وصدقوا، فلا تحقرن عملاً، فميزان الله بمثاقيل الذرات، ورب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تحقره النية.
والمرأة كذلك لها دور، فلابد أن تعيش قضايا أمتها، فهي ليست بمعزل عن العمل للإسلام ونصرته، فمن أدوارها:
1- التزامها بشرع الله، وخاصة فريضة الحجاب، وأن تكون أسوة وقدوة لغيرها في حسن الخلق، وحسن الأدب والحياء.
2- تربية أولادها على الإسلام.
3- دفع زوجها وأولادها، وحثهم على طاعة الله، والعمل لدين الله.
4- تهيئة البيت لزوجها وأولادها للعمل والبذل “فزوجة الداعية الجندي المجهول”.
5- ألا ترهق زوجها بالمطالب والمصاريف حتى لا تشغله عما هو أهم.
والله أسأل أن يعز الإسلام وينصر المسلمين، ويذل الشرك والمشركين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك وخليلك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.