العنف في حروب غير المسلمين المعاصرة .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“3”]

لم يكن هذاالعنفالذي رأينا اضطهادًا خاصًّا بالمسلمين، ولكن كان طبيعةً مطردة في كل المعارك، ومع كل الطوائف والعرقيات، حتى رأينا ذلك بين أبناء الدين الواحد، والعرق الواحد! وسوف يتم -بإذن الله- تناول هذا الموضوع من خلال النقاط الآتية:

النقطة الأولى: الحرب العالميـة الأولى: (1914-1918)

تضارب المصالح بين الدول الاستعمارية الكبرى كان هو السبب الرئيسي لاشتعال الحرب العالمية الأولى، وحدث ذلك عندما ظهرت ألمانيا كقوة استعمارية جديدة هددت نفوذ الدول الكبرى التي كانت تهيمن على العالم في هذه الفترة، وانقسمت هذه القوى الاستعمارية إلى فريقين متحاربين، فاشتعل العالم أجمع وتم جره إلى سلسلة من الحروب المدمرة، ولم يكن لدى الدول الفقيرة والصغيرة أي خيار إلا الانضمام إلى أحد الفريقين، وكانت المعارك قاسية على الأطراف المتحاربة وظهرت فيها أسلحة جديدة أشد فتكًا!!

وانتهت هذه الحرب بهزيمة ألمانيا وحلفائها، وقد قُدِّر عدد القتلى من جميع أنحاء العالم بنحو عشرة ملايين إنسان، وبلغ عدد الجرحى عشرين مليونًا، وقد أنشئت بعد ذلك عصبة الأمم كمحاولة لحل المشاكل بين الدول بالطرق السلمية ولمنع مثل هذه الحروب مستقبلاً، ورغم صواب فكرة إنشاء هيئة دولية لفض المنازعات بين الدول وبالأخص الدول الكبرى إلا أن الأيام أثبتت أن العلة ليست في وجود مثل هذه الهيئة، وإنما في توافر النوايا الصادقة والمعايير الخلقية التي تدفع هذه الهيئة أولاً إلى أخذ القرارات العادلة، ثم تدفع ثانيًا الدول بكاملها للالتزام بقرارات هذه الهيئة وتنفيذها.

النقطة الثانية: الحرب الأسبانية (1936-1939):

هي حرب أهلية ضارية اندلعت في أسبانيا إثر صراع على السلطة استمر 3 سنوات، وكانت محصلتها 600.000 قتيل، منهم 210.000 أعدموا من قبل الأطراف المتنازعة، وقد انتهى هذا الصراع الدامي باستيلاء الجنرال فرانشيسكو فرانكو على مقاليد الحكم في عام 1939م ليبدأ فترة حكمه الديكتاتوري والذي استمر لمدة 35 عامًا وانتهى بموته…

ويتعجب المرء ويتساءل عن الهدف الذي يستحق أن يقتل ستمائة ألف إنسان من أجله، وما هي الجريرة التي تستوجب إعدام مائتي ألف إنسان!!

النقطة الثالثة: الحرب اليابانية الصينية (1937-1943م):

نشبت هذه الحرب المروعة في الفترة الواقعة بين عام 1937م - 1943م، حيث احتلت اليابان الصين، ومارست قواتها القسوة والوحشية بلا حساب، وقد بلغ عدد الضحايا الصينيين من القتلى، والجرحى، والمرضى بسبب غزو اليابان 5 ملايين و620 ألف شخص، كما قامت مذابح رهيبة لم يسبق للتاريخ أن عرف مثلها، ومثال ذلك عندما قام الجيش الياباني باحتلال مدينة نانكينج الصينية، حيث قامت القوات اليابانية بقتل الرجال والأطفال واغتصاب النساء، كما تم إعدام المئات من المدنيين والجنود المستسلمين في الميادين العامة، وذلك بجانب أعمال السلب والنهب لممتلكات الصينيين في هذه المدينة، وقد خلفت هذه المجزرة أكثر من 200.000 قتيل صيني، و20.000 فتاة وامرأة مغتصبة !!

النقطة الرابعة: الحرب العالميـة الثانيـة:

في عام 1939م بدأت الأحداث المروعة للحرب العالمية الثانية، والتي شارك فيها خمسة عشر مليون وستمائة ألف مقاتل، واستمرت زهاء الست سنوات 1939- 1945م، وتُعَدُّ هذه الحرب أكثر الحروب دموية على مدار التاريخ، ولقد خسر فيها الجميع، حيث خرجت الولايات المتحدة الأمريكية المنتصرة بحصيلة قتلى بلغت 292.000 من قواتها المسلحة، وخسر الاتحاد السوفيتي 750.000 قتيل، وخسرت الصين بمفردها مليونين ومائتي ألف، وبلغ عدد الجرحى 80 مليونًا، بالإضافة إلى ما خلفته الحرب من ملايين لا تحصى ما بين مُعوَّق ومُشرَّد ومفقود!!.

وللأسف فإن المدقق والباحث وراء الأسباب الحقيقية لقيام هذه الحرب يجد أن الطمع وغرور القوة وغياب الوازع الديني والخلقي من أهم الأسباب التي ألقت بالعالم كله في أتون هذه الحرب المدمرة، وفيما يلي بعض الأمثلة لهذه الحرب المهلكة:

1- معركة ستالينجراد 1942م:

هي إحدى المعارك الحاسمة في الحرب العالمية الثانية، وفيها توجه الألمان لغزو روسيا بجيش مكوَّن من 300.000 جندي، وسبقت القوات الألمانية إلى مدينة ستالينجراد الروسية ألف طائرة ألمانية دكت المدينة تمامًا وقتلت 40.000 مدني، ولكن المدينة قاومت، واستغل الروس دخول الشتاء الروسي القارص لإنهاك القوات الألمانية، وبدأت الكفة تميل ناحية الروس، وبعث قائد القوات الألمانية إلى هتلر يبصره بالوضع الحرج ويستأذنه في الانسحاب، وعاند هتلر ولم يوافق وطلب من قائده مواصلة الهجوم والصمود حتى آخر جندي وآخر طلقة!! واستطاع الروس محاصرة القوات الألمانية وقطع الإمدادات عنها حتى اضطر الألمان في النهاية للانسحاب بعد أن شارفوا على الهلاك. لقد انخفض عدد الجيش الألماني عند الاستسلام إلى 90.000 جندي معظمهم جرحى !!

2- الغارات الجوية على ألمانيا (1943-1945):

بدأت سلسلة هذه الغارات في يناير 1943م، وقامت بها الولايات المتحدة الأمريكية بالاشتراك مع بريطانيا، وكانت موجهة بشكل مركز على ألمانيا والمدن الخاضعة تحت سيطرتها، وبدأت هذه الغارات متزامنة مع التراجع والارتداد الألماني في العديد من الجبهات والمواقع، واستمرت الغارات حتى سقطت العاصمة الألمانية برلين في الثاني من شهر مايو 1945م، وألقت الجيوش الألمانية بسلاحها، وانتحر هتلر في مخبأه العميق الذي شيده تحت دار المستشارية الألمانية، وقد خلفت هذه الغارات قرابة المليون شخص مابين قتيل وجريح، وكلهم من المدنيين الألمان، كما دمرت هذه الغارات أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون بيت ومبنى تدميرًا كاملاً، ولم تتوقف هذه الغارات إلا مع سقوط برلين وانهيار المقاومة الألمانية بعد أن صارت معظم مدنها خرابًا !!

3- مأساة هيروشيما وناجازاكي:

حدثت هذه المأساة في عام 1945م، وهي الحلقة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية والني انتهت باستسلام اليابان، وبدأت أحداث هذه المأساة في صباح يوم 6 أغسطس 1945م حينما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتها الذرية الأولى على مدينة هيروشيما اليابانية، فمات على الفور 70.000 مواطن ياباني، والعجيب أنه بعد ثلاثة أيام فقط ألقت أمريكا القنبلة الثانية على مدينة ناجازاكي فمات على الفور 60.000 مواطن آخر (صورة 18)، وقد صرَّحَ مجلس مدينة هيروشيما إن عدد قتلاها ارتفع في سنوات قليلة إلى 230.000 شخص بسبب ما خلفته القنبلة من إشعاعات، كما وصل عدد الجرحى إلى 157.000 شخص !!

والسؤال الملح الذي يطرح نفسه من الناحية الخلقية والإنسانية هو:

ألم يكن من الممكن تفادي استعمال هذا السلاح الرهيب؟

وللإجابة على هذا السؤال يتحتم علينا العودة إلى الأحداث التي واكبت هذه الجريمة الأخلاقية والسقطة الإنسانية، وبالتحديد نعود بالأحداث إلى عام 1944م، وهو العام الذي شهد التراجع الياباني، وتفوق جبهة الحلفاء في البر والبحر والجو، ووصلت الغارات الأمريكية إلى العمق الياباني وسببت دمارًا هائلاً في مدينتي يوكوهاما وأوزاكا، بل وسببت خسائر فادحة في منشآت مدينة طوكيو العاصمة اليابانية! ثم تفاقم حرج الموقف الياباني في مايو 1945م باستسلام ألمانيا، وتأكد لليابانيين استحالة النصر، بل وألمحوا للروس عن رغبتهم في وضع نهاية للحرب، وبات من الواضح أن الاستسلام الياباني صار وشيكًا، ومع ذلك أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على إلقاء قنبلتها الذرية على اليابان، بل وأعقبتها بالثانية بعد ثلاثة أيام فقط!!

النقطة الخامسة: حرب فيتنام (1964-1975):

تبعد فيتنام الشمالية عن الولايات المتحدة الأمريكية آلاف الأميال، ولا تشكل خطرًا عليها من أي نوع، كما إنها لم تتورط في أي شيء يمس الولايات المتحدة من قريب أو من بعيد، ومع ذلك شنت الولايات المتحدة حربًا شاملة ضد فيتنام الشمالية، أسفرت عن مقتل 3 مليون فيتنامي معظمهم من المدنيين، وخلّفت أكثر من 30.000 معوق، فضلاً عن الدمار الكامل الذي حاق بالمدن الفيتنامية !!

وقد تخلّت الولايات المتحدة عن أخلاق الحروب في سبيل إخضاع فيتنام، وقامت بالعديد من المذابح والانتهاكات في حق المدنيين، وأطلقت جنودها ليعيثوا الفساد في القرى الفيتنامية، يقتلون الحيوانات ويتلفون المحاصيل وعندما يتذمر القرويون يطلقون عليهم الرصاص ثم يضرمون النار في بيوت القرى المصنوعة من القش !!

وعندما استخدمت المقاومة الفيتنامية الغابات للتخفي قامت الولايات المتحدة الأمريكية بشن حرب كيمائية على منطقة الغابات الفيتنامية التي تبلغ مساحتها 40 مليون فدان وتقترب من نصف مساحة فيتنام الشمالية، وبالفعل قامت القوات الأمريكية باستخدام المبيدات القاتلة التي أتت على الأخضر واليابس ودمرت هذه الغابات تمامًا وظلت آثار هذه المبيدات لسنوات طوال امتدت لما بعد نهاية الحرب، ويكفي أن نعرف أن بعثة الأكاديمية القومية الأمريكية للعلوم قد قامت بزيارة للمنطقة عقب انتهاء الحرب، وذكرت في تقريرها أن منطقة الغابات يلزمها أكثر من مائة عام لكي تعود لسابق عهدها !!

المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.

[/size][/center]