حروب النبي ..لا إكراه في الدين .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“3”]

المطلب الأول: مبدأ حرية العقيدة

قرر الإسلام حرية العقيدة لكل إنسان تقريرًا لا يحتمل لَبسًا، فلا أحد يجهل قول الله تبارك وتعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وقد جاء في سبب نزول الآية السابقة: أنه كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصران قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تُسلما، فأبيا أن يسلما؛ فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} الآية، فخلَّى سبيلهما.

إن الإسلام لا يحتاج -لتكثير أتباعه- إلى قسر الإرادات، وحملها على اعتناقه عُنَوة، بل هو منهج واثق من نفسه، ومن نفاذه إلى القلوب الحية المتجردة للحق، التي متى زالت الحوائل بينه وبين النفاذ إليها وَقَرَ الإيمان في سويدائها، وخَرَّ أصحابها ساجدين لعظمة الإله الحق. قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 106، 107].

بل إن الله عز وجل جعل من أسباب الإذن بالقتال عند المسلمين -مع كل ما وجَّهَهُ الطاعنون من سهام- حماية حرية العبادة في الأرض للمسلمين وغيرهم. نجد ذلك في قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39، 40]، فالإذن بالقتال شُرِعَ لدفع الباطل… ولولا هذا الدفع لهُدِّمَتْ دور العبادة، بما فيها الصوامع والبيع التي يتعبد فيها غير المسلمين يقينًا…

وانظر إلى قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6] فحتى إذا وقع التدافع بين الحق والباطل، ووقع القتال، وأوَى إلى المسلمين أحدٌ من المشركين -مستجيرًا يطلب الأمان- إذا بالقرآن يُرَبِّي في نفوس المجاهدين المؤمنين أن يحسنوا إلى هذا المشرك (الذي أشهر السيف في وجوههم منذ لحظات!!) حتى يراهم عن قُرب، و"يسمعَ كلامَ الله"، ويرى ترجمته على أرض الواقع… فإذا أُتيح له ذلك فقد يظنُّ مسلم أنه يجوز الآن حمله حملاً على اعتناق الإسلام -حيث رآه عن قُربٍ وحيث هو الآن في يد المسلمين- إلا أن الله تبارك وتعالى يأمر نبيه -والمسلمين من بعده- أن “أبْلِغه مَأْمَنَهُ”!! دون إجبار على شيء… فإذا بلغ مأمنه ورأى أن يدخل في الإسلام فستأتي به قدماه طائعًا لا كارهًا.
استقرَّ في قلوب المسلمين -إذن- حُبُّ تحرير العقول من سلطان القهر أيًّا كان، حتى ولو حملاً على الحق المبين، وازداد الأمر ترسُّخًا عندما رأوا فعل الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، فما قال في حياته شيئًا إلا وكان له تطبيق واقعي في حياته وحياة الناس، وإنَّ تدبُّر ذلك في حياته لمن الأهمية بمكان!

المطلب الثاني: تطبيقات نبوية:

مع حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم الشديد على الوصول برسالته إلى الناس، ومع حبه العميق لأيمانهم، إلا أنه ما فكَّر -ولو لمرة واحدة- في حياته على إكراههم على الإسلام. ظهر ذلك في كل مواقف حياته، وكذلك في كل مكاتباته وعهوده. لقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتاب من أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، ويبين لهم معالمه –فيما رواه عروة بن الزبير- فكان في رسالته: «… وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين: له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يُفتَن عنها…». كذلك كتب صلى الله عليه وسلم لأهل نجران عهدًا طويلاً جاء فيه: «… ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي على أنفسهم ومِلَّتِهِمْ وأراضيهم… وألا يُغَيَّرُوا مما كانوا عليه، ولا يُغَيَّرَ حقٌ من حقوقهم ولا مِلَّتِهِمْ، ولا يُغَيَّرَ أُسقف عن أُسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا وافه عن وافهيته».

إن هذا الأمر واضح تمام الوضوح لكل من درس السيرة من مصادرها الموثَّقة، ومراجعها الدقيقة. بل أعظم من ذلك أنه لم يكن يُكره أحدًا على الإسلام حتى بعد التمكن منه في حرب أو أسر أو غيرهما.

وما أروع موقفه صلى الله عليه وسلم مع أعرابي خطط لقتله!

يروي جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، يقول: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غِرَّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، فقال: «من يمنعك مني؟» قال: «الله!» فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟!» قال: كن كخير آخذ، قال: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟» قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلَّى سبيله!! قال: فذهب إلى أصحابه قال: قد جئتكم من عند خير الناس".

فهذا رجل أمسك السيف، ووقف به على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهدده بالقتل، ثم نجَّى الله عز وجل رسوله، وانقلبت الآية، فأصبح السيف في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فالحقد والغلُّ لا يعرفان طريقهما أبدًا إلى قلبه صلى الله عليه وسلم… إنه يعرض عليه الإسلام، فيرفض الرجل، ولكن يعاهده على عدم قتاله، فيقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببساطة، ويعفو عنه، ويطلقه آمنًا إلى قومه!!

وإذا كان الموقف السابق مع رجل ليس له تاريخ طويل من العداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول لله صلى الله عليه وسلم له مواقف تقترب من الخيال مع مَنْ قاتله وحاربه السنين الطوال!! إنه المبدأ الأصيل الذي لا خروج عنه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك موقفه مع صفوان بن أمية، الزعيم القرشي الشهير! ولندرك عظمة الموقف لابد من مراجعة سريعة لتاريخ هذا الزعيم المكي المهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لم يكن “صفوان بن أمية بن خلف” زعيمًا عاديًا من زعماء قريش؛ فقد كان أبوه من أشد المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الذين قُتِلُوا في بدر، وورث صفوان بن أمية هذه الكراهية من أبيه للإسلام والمسلمين، وحارب الرسول صلى الله عليه وسلم بكل طاقته، وكان ممن التفَّ حول ظهر المسلمين في أُحد مع خالد بن الوليد، واشترك اشتراكًا كبيرًا في قتل سبعين من شهداء الصحابة –رضي الله عنهم-، واشترك أيضًا في غزوة الأحزاب، وكان من القليلين الذين اشتركوا في عملية القتال عند فتح مكة المكرمة…

بل إن صفوان بن أمية كان قد دبَّر محاولة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه المحاولة بينه وبين ابن عمه عمير بن وهب، وكان وقتها لا يزال كافرًا… وفيها تعهَّد صفوانُ بن أمية لعمير بن وهب أن يتحمل عنه نفقات عياله، وأن يسدِّد عنه دَيْنه، في نظير أن يقتل عميرٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم…!! إلا أن المحاولة فشلت، وذلك عندما أسلم عمير بن وهب –رضي الله عنه- في المدينة المنورة بعد أن أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما دار بينه وبين صفوان في حجر الكعبة!!

ومرَّت الأيام، وجاء فتح مكة، وهُزم المشركون، وفرَّ صفوان بن أمية، ولم يجد له مكانًا في مكة المكرمة، وعلم أنه لن يُسْتَقْبَلَ في أي مكان في الجزيرة العربية؛ فقد أصبح الإسلام في كل مكان، فقرر أن يُلقي بنفسه في البحر ليموت! فخرج في اتجاه البحر الأحمر ومعه غلام اسمه يسار، حتى وصل إلى البحر، وهو في أشد حالات الهزيمة النفسية، ورأى صفوان من بعيد أحدَ الرجال يتتبعه، فخاف، وقال لغلامه: ويحك انظر من ترى؟ قال الغلام: هذا عمير بن وهب. فقال صفوان: وماذا أصنع بعمير؟! والله ما جاء إلا يريد قتلى، فهو قد دخل في الإسلام وقد ظاهر محمدًا عليَّ.
ولحق عمير بن وهب –رضي الله عنه- بصفوان بن أمية، فقال له صفوان: يا عمير ما كفاك ما صنعتَ بي؟ حمَّلتني دَيْنَك وعيالَكَ، ثم جئتَ تريد قتلي؟! فقال: أبا وهب، جُعِلْتُ فِدَاكَ! قد جِئتُكَ من عِنْدِ أَبَرِّ الناس، وأوصل الناس.

لقد رأى عمير بن وهب ابن عمه وصديقه القديم صفوان يهرب من مكة فَرَقَّ له، وأشفق عليه، فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا رسول الله، سيد قومي خرج هاربًا ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تُؤَمِّنَهُ، فداك أبي وأمي. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أَمَّنْتُهُ»!!
هكذا!! دون شرط ولا قيد!!

قال عمير بن وهب لصفوان: إن رسول الله قد أمَّنَكَ. فخاف صفوان، وقال: لا -والله- لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها. فرجع عمير بن وهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا رسول الله، جئتُ صفوانَ هاربًا يريد أن يَقْتُلَ نفسه، فأخبرته بما أَمَّنْتَهُ، فقال: لا أرجع حتى تأتيني بعلامة أعرفها. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى التسامح: «خُذْ عِمَامَتِي إِلَيْهِ»!! فأخذ عمير العمامة، وذهب إلى صفوان بن أمية، حتى وصل إليه، وأظهر له العمامة وقال له: يا أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبرِّ الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعِزُّه عزك، ومُلْكُهُ مُلْكُكَ، ابنُ أمِّك وأبيك، أُذكّرك اللهَ في نفسك. فقال له صفوان في منتهى الضعف: أخافُ أن أُقتل! قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سَيَّرك شهرين!!

ولننظر إلى هذا العرض السخي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أسلم صفوان لانتهت القضية، وأصبح له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، وإن أراد أن يأخذ شهرين كاملين يفكر فيهما فهو في أمان! وتذكَّر أننا نتحدث عن رجل طالما حاول أن يستأصل المسلمين من جذورهم!
فرجع صفوان بن أمية مع عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل الحرم، والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس صلاة العصر فوقفا سويًا، حتى ينتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة، فقال صفوان لعمير بن وهب: كم تُصلون في اليوم والليلة؟ قال: خمس صلوات. قال: يصلي بهم محمد؟ قال: نعم.

فلما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهى من صلاته، صاح صفوان يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني بعمامتك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيتُ أمرًا وإلا سَيَّرْتَنِي شهرين. فقال صلى الله عليه وسلم في رفق وسهولة: «انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ»… (وانظر إليه يُكَنِّيهِ ويَتَلَطَّفُ إليه!)… فقال صفوان في خوف: لا - والله - حتى تُبيِّن لي!! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “بَلْ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ”!

وبالفعل أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية أربعة أشهر كاملة ليفكر… !! إنه لم يخطر على بال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من قريب ولا من بعيد أن يُكرِه صفوان أو غيره على الإسلام، لا لشيء إلا لأن ذلك ليس من الإسلام. فليس ضعف صفوان ولا قوة الإسلام بمبرراتٍ تسمح بمزاولة الضغط على إنسان لتغيير عقيدته.

وبَعْدُ، فهذا غَيْضٌ من فيض أخلاقالرسول صلى الله عليه وسلم في حروبه مع المشركين التي لا تُقارَن بأخلاق قادة العالم في كل مكان وزمان. إن أخلاقه صلى الله عليه وسلم لا تُوصف إلا بأنها أخلاق أنبياء، فذلك أصدق وصفٍ لها، وكفى.

وصدق الله العظيم إذ يقول في وصفه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

المطلب الثالث: رد شبهة نشر الإسلام بالسيف

أكذوبة كثيرًا ما يرددها أعداء الإسلام، ومفادها أن الرسول صلى الله عليه وسلم -والمسلمون من بعده- نشروا الإسلام بحد السيف، وأن معتنقي الإسلام لم يدخلوا فيه طواعية ولا اختيارًا، وإنما دخلوا فيه بالقهر والإكراه.

والحقيقة أن جوهر الإسلام وخبر التاريخ ليكذبان هذه الفرية، ويستأصلونها من جذورها… فكما بيَّنا في المطلبين السابقين أن من أهم القواعد التي حرص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته هي قاعدة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] فلم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من بعده- أحدًا باعتناق الإسلام قسرًا، كما لم يُلجئوا الناس للتظاهر به هربًا من الموت أو العذاب؛ إذ كيف يصنعون ذلك وهم يعلمون أن إسلام المُكرَه لا قيمة له في أحكام الآخرة، وهي التي يسعى إليها كل مسلم؟!

وقد جعل الإسلام قضية الإيمان أو عدمه من الأمور المرتبطة بمشيئة الإنسان نفسه واقتناعه الداخلي، فقال سبحانه: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ولفت القرآن نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة وبيَّن له أن عليه تبليغ الدعوة فقط، وأنه لا سلطان له على تحويل الناس إلى الإسلام فقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48] ومن ذلك يتضح أن دستور المسلمين يرفض رفضًا قاطعًا إكراه أحد على اعتناق الإسلام.

وتطبيقًا لهذه الحقيقة فقد ثبت أن المسلمين أسروا في سرية من السرايا سيد بني حنيفة: ثمامة بن أُثال الحنفي، وهم لا يعرفونه، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه وأكرمه، وأبقاه عنده ثلاثة أيام، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام عرضًا كريمًا فيأبى، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أطلق سراحه. فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد؛ فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. لقد تأثر ثمامة بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمته فأسلم دون ضغط أو إكراه، وهكذا كان إسلام كل من أسلم في تاريخ الدعوة.

وعقلاً فإن من أُكرِه على شيء لا يلبث أن يتحلّل منه إذا وجد الفرصة سانحة لذلك، بل ويصبح حربًا على هذا الذي أُكره عليه، إلا أن التاريخ لم يُثبت مثل هذا، وإنما رأينا أن الذي يسلم لا يتوانى – ولو للحظة واحدة - في الدفاع عن الإسلام بكل ما يملك.

ثم لينظر المتشككون وأرباب الشبهات إلى الإحصائيات الرسمية الحالية لأعداد الذين يعتنقون الإسلام، والتي تدل على أن عدد المسلمين في ازدياد مستمر، على الرغم من كل ما ينالهم من اضطهاد وما يتعرضون له من عوامل الإغراء!! فهل أكرهنا الأوربيين والأمريكيين واليابانيين وغيرهم على دخول الإسلام؟! إن ما حدث معهم هو الذي حدث مع كل من أسلم في تاريخ الإسلام. إن القوة الحقيقية للإسلام داخلية ذاتية. إنه دين الفطرة الذي يُقنع أي باحث صادق، ويعجب أي قارئ محايد.

وأيسر من أن نستقصي الحروب وأسبابها في صدر الإسلام لنعي تلك الحقيقة، أن نلقي نظرة عامة على خريطة العالم في الوقت الحاضر لنرى الشعوب التي دخلت في الإسلام دونما حرب أصلاً. إن السيوف لم تحمل بتاتًا في إندونيسيا وماليزيا والهند والصين، وسواحل القارة الإفريقية، وما يليها من سهول الصحاري الواسعة؛ ومع ذلك فأعداد المسلمين فيها هائلة !

ولو كان هناك إكراه على الإسلام فكيف نفسر بقاء المسيحيين واليهود والوثنيين وأشباه الوثنيين إلى الآن في داخل معظم بلاد العالم الإسلامي!!

أما تشريع الجهاد في الإسلام، فلم يكن لقهر الناس أو لإجبارهم على اعتناق الإسلام، وإنما كان لتحرير الإنسان وتحييد القوى الظالمة التي قد تحول بينه وبين الإسلام.

يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب): “إن القوة لم تكن عاملاً في نشر القرآن، وإن العرب تركوا المغلوبين أحرارًا في أديانهم، والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم، وقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تُفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلام - إذن – بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قَهَرت العرب مؤخرًا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند - التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل - ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها… ولم يكن الإسلام أقل انتشارًا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط…”.

ويقول جورج سيل: “ومن قال إن الإسلام شاع بقوة السيف، فقوله تهمةٌ صرفة؛ لأن بلادًا كثيرة ما ذُكر فيها اسم السيف، وشاع الإسلام”.

ويقول الكاتب الغربي الكبير توماس كارليل صاحب كتاب (الأبطال): "إن اتهامه -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم- بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخفٌ غير مفهوم؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجلٌ فردٌ سيفَه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به من لا يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها.

فالإسلام -إذن- إنما غزا القلوب، وأسر النفوس… وإن كان بإمكان السيف أن يفتح أرضًا… فليس بإمكانه أبدًا أن يفتح قلبًا!!

المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.

[/size][/center]