يوحنا بن ماسويه.. الطبيب النابغة .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“3”]

وقبل أن يكون هذا الطبيب نابغة في نفسه يستحق الذكر والإشادة، فإنه كان دليلاً وشهادة للحضارة الإسلامية التي استوعبت في جنباتها طاقات كل الأطياف التي كانت تحت ظلِّها، فلم تُفَرِّق بين مسلم وغير مسلم، ولم يعرف تاريخها أن جنسًا يعلو على جنس، فالعرب والفرس والروم والكرد والترك، والأسود والأصفر، كلهم لا فضل لأحد فيهم على أحد، لا عند الله ولا عند الناس إلاَّ بالعمل الصالح.

وهو ليس دليلاً على هذا فقط، بل إن ارتفاعه في المنزلة ليصير الطبيب الخاصَّ لخلفاء بني العباس وفي عهد قوتهم وأوج سلطانهم لدليل على أن المناصب في الدولة الإسلامية تؤخذ بالكفاءة وحدها، وهي معروضة لكل من نبغ فاستحقَّها.

فطبيبنا هو أبو زكريا يوحنا بن ماسويه كان فاضلاً مُقَدَّمًا عند الملوك عالمًا مصنِّفًا ، وكان نصرانيًّا سريانيًّا، ومن كبار أطباء مدينتي جنديسابور وبغداد، عاش فيما بين عامي (190-243هـ)، وتوفي في مدينة سامراء، واشتهر بالذكاء، تتلمذت على يده أعداد كبيرة من أطباء عصره، وكانت له خبرة جيدة في ترجمة الكتب القيمة .

بدأت مهمته في الدولة الإسلامية منذ ولاَّه هارون الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة التي وجدها بأنقرة وعمورية، وسائر بلاد الروم حين افتتحها المسلمون، ووضعه أمينًا على الترجمة، وكان يوحنا صاحب النصيحة لبناء دار كبيرة للكتب، فقام الرشيد ببناء دارٍ اتسعت فيما بعدُ حتى صارت أكاديمية للعلوم (بيت الحكمة) في عصر المأمون، وأسند المأمون رئاستها إلى يوحنا عام (215هـ/830م) .

وخدم يوحنا الرشيد والأمين والمأمون، ومَن بعدهم من الخلفاء إلى أيام المتوكل، وكان ملوك بني هاشم لا يتناولون شيئًا من أطعمتهم إلاَّ في وجوده، “فكان يقف على رءوسهم ومعه البراني بالجوارشنات الهاضمة المسخِّنة الطابخة المقوية للحرارة الغريزية في الشتاء، وفي الصيف بالأشربة الباردة الطابخة المقوية والمعاجين، وكان معظَّمًا ببغداد جليلَ المقدار”.

يقول كمال السامرائي: “يوحنا بن ماسويه أشهر واحد من أسرة ماسويه، وهو الذي خلَّد اسمها لأعماله الجليلة في صناعة الطب، فهو من مشاهير أطباء بغداد وسامراء في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، ومن أكثرهم حظوة من خلفائها المأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل… تعلَّم اللغة السريانية والعربية، فلم يجد صعوبة في دراسة العلوم الطبية المكتوبة بهاتين اللغتين. تزوَّج ابنة عبد الله الطيفوري الطبيب، واستمرَّ يصعد في المراتب الاجتماعية والحكومية حتى وصل إلى بلاط الخليفة المأمون” .

إنجازات يوحنا بن ماسويه الطبية:
قَدَّم يوحنا بن ماسويه الكثير من الإنجازات الطبية، وبالتحديد في علم التشريح؛ حيث كان يقوم بتشريح القردة ثم يُطَبِّق ما تَوَصَّل إليه على الإنسان، ونجح في هذا المجال نجاحًا عظيمًا، ولهذا كانت معلوماته في هذا المجال تفوق جالينوس.

يقول أحمد شوكت الشطي: “وتؤكِّد المصادر أن يوحنا بن ماسويه كان يُشَرِّح جثث القردة في قاعة تشريح خاصَّة بناها على ضفة دجلة، وأنه كان يختار من أنواع القرود النوع الكثير الشبه بالإنسان، وأن الخليفة المعتصم كان يساعده في الحصول على تلك القردة من بلاد النوبة، وهذا يدلُّ على عناية خلفاء العرب بعلم التشريح وتشجيعهم له”.

ولم تقتصر جهود يوحنا الطبيةعلى علم التشريح فقط، بل تعدَّاه إلى تخصُّصات أخرى؛ فقد اهتمَّ بأمراض الجهاز الهضمي والعيون ونبغ فيها، فكان أول من شَخَّص مرض الحساسية عند الإنسان الناتج من أكل الأسماك وشرب الحليب، أمَّا مجال العيون فقد ألَّف فيه كتابًا يحتوي على معظم المعلومات اللازمة لعلاج مرضى العيون، وأطلق عليه اسم (دغل العين)، ذلك الكتاب الذي ظلَّ لمدة طويلة المرجع الأساسي للأطباء والباحثين في العالم العربي والإسلامي في مجال طب العيون .

مواقف من حياة يوحنا بن ماسويه:
لم يكن يوحنا بن ماسويه مجرَّد طبيب عادي، بل كان يتمتع بخفَّة النفس والتواضع النادر النظير، فهو صاحب نكتة جيدة وبارعة؛ فمن نوادره أن رجلاً شكا إليه علَّة كان شفاؤه منها الفصد، فأشار به عليه، فقال: لم أَعْتَدِ الفصد. فقال له: ولا أحسب أحدًا اعتاده في بطن أُمِّه، وكذلك لم تعتد العلَّة قبل أن تعتلَّ، وقد حدثت بك فاختر ما شئت من الصبر على ما أحدثت لك الطبيعة من العلة، أو اعتياد الفصد لتَسْلَمَ منها.

“واشتدت على يوحنا علَّةٌ كان فيها حتى يئس منه أهله، ومن عادة النصارى إحضار من يئس منه أهله جماعة من الرهبان والقسيسين والشمامسة يقرءون حوله، ففُعِلَ مثل ذلك بيوحنا، فأُفرق والرهبان حوله يقرءون، فقال لهم: يا أولاد الفُسَّق، ما تصنعون في بيتي؟ فقالوا له: كنا ندعو ربنا في التفضُّل عليك بالعافية. فقال لهم يوحنا: قرصُ ورد أفضل من صلوات جميع أهل النصرانية منذ كانت إلى يوم القيامة، اخرجوا من منزلي. فخرجوا”.

من أقوال يوحنا بن ماسويه:

  • سئل عن الخير الذي لا شرَّ معه، فقال: شُرْب القليل من الشراب الصافي.

  • ثم سئل عن الشرِّ الذي لا خير معه، فقال: نكاح العجوز.

  • وقال: أَكْلُ التفاح يَرُدُّ النفس.

  • وقال: عليك من الطعام بما حَدَثَ، ومن الشراب بما عتق.

مؤلفات يوحنا بن ماسويه:
لقد وضع يوحنا بن ماسويه العديد من المصنفات كانت بمثابة منبر لمن يريد دراسة الطب من بعده ومن مصنفاته (كتاب البرهان)، وهو في ثلاثين بابًا، و(كتاب البصيرة)، و(كتاب الكمال والتمام)، وقد جمع فيه ابن ماسويه معلومات عن رطوبات الفم وأدويتها، وأدوية العين، والمغص وأوجاع المعدة وأمراض الكلى، وعلاج المفاصل، وغيرها من الأمور المتعلِّقَة بعلاج الأمراض .

ومن مؤلفاته أيضًا (كتاب الحميات)، وجمع فيه معلومات عن الأمراض التي تُصيب الأذن، والصداع وعلاجه، وأيضًا تَحَدَّث فيه عن الكبد والمرارة .

و(كتاب في الأغذية) جمع فيه معلومات عن منافع بعض الأغذية، وتداوي الريح الغليظة في البطن والإمساك .

(كتاب في الأشربة)، كتاب (المنجح في الصفات والعلاجات)، وجمع فيه كثيرًا من المعلومات عن تداوي الخفقان الحارِّ، وعلاج الأمعاء بالحقن، وأطعمة المصابين بالكلى والمثانة، ووجع المفاصل، وحالات الجدري وعلاجها .

(كتاب في الفصد والحجامة)، (كتاب في الجذام)، كتاب (الجواهر) جمع فيه معلومات عن أنواع الجواهر؛ كالذهب، والفضة، والزمرد، والياقوت، والمرجان، وغيرها .

(كتاب الرجحان)، (كتاب في تركيب الأدوية المسهلة)، وجمع فيه معلومات عن الأدوية المقيِّئَة، وعلاج عرق النسا، وأوجاع المفاصل المتولّدة عن البلغم، ودواء اللثة وعلاج، وأظهر فيه فضائل أكل الرمان في علاج الإسهال، وغيرها من الأمور .

(كتاب دفع مضار الأغذية)، (كتاب في غير ما شيء مما عجز عنه غيره)، (كتاب السر الكامل)، (كتاب في دخول الحمام ومنافعها ومضرتها)، (كتاب السموم وعلاجها) وتحدَّث فيه عن سموم الأفاعي .

(كتاب الديباج)، و(كتاب الأزمنة)، و(كتاب الطبيخ)، و(كتاب في الصداع) وعلله، وأوجاعه، وجميع أدويته، والسدد والعلل المولدة لكل نوع منه، وجميع علاجه، ألَّفه لعبد الله بن طاهر، (كتاب الصدر والدوار)، (كتاب لِمَ امْتَنَعَ الأطباء من علاج الحوامل في بعض شهور حملهن).

كتاب (محنة الطبيب) جمع فيه معلومات عن حالات نبض المحموم وبوله، كتاب (معرفة محنة الكحالين)، كتاب (دخل العين)، كتاب (مجسة العروق)، كتاب (الصوت والبحة)، كتاب (ماء الشعير)، كتاب (المرة السوداء)، كتاب (علاج النساء اللواتي لا يحبلن حتى يحبلن)، كتاب (الجنين)، كتاب (تدبير الأصحاء)، (كتاب في السواك والسنونات)، كتاب (المعدة)، كتاب (القولنج)، كتاب (النوادر الطبية)، كتاب (التشريح)، كتاب في ترتيب سقي الأدوية المسهلة بحسب الأزمنة وبحسب الأمزجة، وكيف ينبغي أن يسقى، ولمن ومتى وكيف يعان الدواء إذا احتبس، وكيف يمنع الإسهال إذا أفرط، كتاب تركيب خلق الإنسان وأجزائه وعدد أعضائه ومفاصله وعظامه وعروقه، ومعرفة أسباب الأوجاع، ألَّفه للمأمون، كتاب (الأبدال)، فصول كتبها لحنين بن إسحاق بعد أن سأله المذكور ذلك، كتاب (الماليخوليا) وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، كتاب (جامع الطب) مما اجتمع عليه أطباء فارس والروم، كتاب (الحيلة للبرء).

المصدر: كتاب (قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية) للدكتور راغب السرجاني.

[/size][/center]