وشهد شاهد من أهلها .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][CENTER][SIZE=“3”]

كثيرا ما يشهد أهل الحق لحقهم، وكثيرا ما يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم، ولكن قد يقول قائل: إن شهادات هؤلاء مجروحة. بمعنى أنهم يشهدون لأمر ينتمون إليه، ويعتزون به، لكن أن يشهد إنسان من فريق آخر لا ينتمي لهذا الأمر بصحة هذا الحق وقوته، ويعترف بعظمته وجلاله، فهذا من أوثق الأدلة وأقواها على روعة الأمر وإبهاره؛ لذلك قال الله عز وجل وهو يصف شهادة رجل من رجال القصر الملكي، وهو يشهد على امرأة العزيز في قصة يوسف عليه السلام: {وشهد شاهد من أهلها} [يوسف:26]، فكون الشاهد من أهلها جعل الشهادة أبلغ، والدليل أقوى.
والإسلام شهد له كل أتباعه بالخير واليمن والبركة، لكن كثيرا ما يتشكك غير المسلمين في هذه الشهادات، ويقولون: إنهم شهدوا بذلك محاباة لدينهم، وحبا لرسولهم صلى الله عليه وسلم، أو إنهم شهدوا بذلك لأنهم لا يعرفون غيره، ولو عرفوا الديانات الأخرى لكانت شهادتهم لها أعظم.

إنها حجة تقال عن جهل أحيانا، وعن عمد أحيانا أخرى، وقد تطرد هذه الحجة بعض البشر عن الإسلام، وقد تبغضهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان على المسلمين الغيورين على دينهم أن يتحركوا بالشرح والبيان، وبالحجة والبرهان، وبكل وسيلة ممكنة؛ حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله.

موقف المسلمين من شهادات غير المسلمين

ومن أبلغ هذه الوسائل وأعظمها أن نذكر للذين لا يعرفون ديننا، أو حضارتنا، أو رسولنا صلى الله عليه وسلم رأي المنصفين من العلماء من أبناء جلدتهم، ومن أقوامهم، ومن الذين لا ينتمون لهذا الدين، ولا يرتبطون بعقيدته، وخاصة إن كانوا من المشهورين عندهم، ومن المأمونين في شهادتهم، ومن الموثوق فيهم علميا، فإن شهادة هؤلاء تصبح في غاية التأثير، وقد يفتح بها الله عز وجل قلوب الكثير من عباده.

خطورة منهج التعميم في الرفض

والمسلمون قد يقفون من هذه الشهادات المهمة على طرفي نقيض! فمنهم من ينكرها، ويأنف من ذكرها، ويعتبر ذلك من الاعتزاز بدينه، فهو في رأيه لا يحتاج إلى آراء هؤلاء، وقد يقول: إنه ليس فيهم خير، بدليل أنهم لم يؤمنوا حتى بعد اطلاعهم على خير الإسلام وفضله.
ولهؤلاء نقول: إن مبدأ التعميم خطير للغاية، وقد علمنا ربن سبحانه وتعالى ألا نأخذ به في طريقة تفكيرنا؛ فقال لنا مثلا: {ليسوا سواء} [آل عمران:113]. فهو يذكر أن أهل الكتاب ليسوا على شاكلة واحدة؛ فمنهم الصادق، ومنهم الكاذب، ومنهم الأمين، ومنهم الخائن، بل إنه ذكر مثالا يقرب به الصورة إلى أذهاننا؛ فقال عز وجل :{ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما} [آل عمران:75]. فالآية تنص على أن أخلاقهم مختلفة؛ فهناك شديد الأمانة، وهناك بعيد الخسة، وبينهما آلاف الدرجات؛ لذلك لا يصلح أن نأخذ الناس جميعا جملة واحدة، ولا أن نعاقب واحدا بجريمة آخرين… قال سبحانه وتعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164]. وقال عز وجل: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38].

منهج الرسول مع غير المسلمين

وكان هذا سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، ومنهجه في تعامله مع غير المسلمين، فهو على سبيل المثال لم يأخذ المطعم بن عدي الكافر بجريرة قومه، فيعلنها صريحة أنه لو كان المطعم بن عدي حيا لوهبه أسارى بدر من المشركين [1]، مع أهمية هؤلاء الأسارى وخطورتهم؛ لأن المطعم بن عدي كان هو الذي أجار النبي لما عاد من الطائف، كما كان له دور بارز في رفع الحصار وتمزيق صحيفة المقاطعة، بل إنه أيض يأمر أصحابه ألا يقتلوا أبا البختري بن هشام إذا قابلوه في بدر [2] ؛ لأنه وقف موقفا منصفا من المسلمين أثناء حصارهم في شعب أبي طالب [3]، وهو كذلك يمدح النجاشي ملك الحبشة؛ فيقرر أنه ملك لا يظلم عنده أحد [4]. على الرغم من أنه لم يكن قد أسلم آنذاك، ولم يعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت على عقيدته، ولم يشر إلى أن اعتقاده في المسيح عليه السلام سليم، إنما أشار إلى أخلاقه العادلة بصرف النظر عن صحة عقيدته أو فسادها.

إنه منهج نبوي كريم يتعامل مع كل إنسان بحسب أخلاقه وطبيعته…

فمن هنا فنحن نرفض منهج التعميم الذي يسلكه كثير من المسلمين، فيعلنون في جفاء أن كل الأوربيين مجرمون، وأنهم جميعا معادون لنا، كارهون لعقيدتنا ولرسولنا صلى الله عليه وسلم، وإن هناك من الشهادات المنصفة ما قد يعجز عن القيام بها بعض المسلمين!

خطورة منهج التعميم في القبول

أما الطرف الآخر الذي نرفضه كذلك فهو الذي يجمع كل شهادة غربية وقعت عيناه عليها، دون تدقيق ولا تمحيص، فينسبها إلى قائلها، ويتحرك بها في كل مكان دون أن يدري أن هذه الشهادة غير موثقة، ولا أصل لها، وكم يتعرض بعض المسلمين خاصة في البلاد الغربية لمواقف صعبة ومحرجة عندما يذكرون شهادة لعالم غربي، فيطلب المستمع دليلا على هذا القول، ومصدرا لشهادته، فلا يجد المسلم شيئا! فيظهر بمظهر المدلس الكذاب، فيزداد الغربيون بذلك نفورا وإعراضا، ونكون قد ألحقنا الضرر بمن كنا نبحث عن إفادته!

المصدر: كتاب (وشهد شاهد من أهلها) د. راغب السرجانس

[/size][/center][/center]