عقيدة المتصوفة في الرسول صلى الله عليه وسلم


لقد غلا المتصوفة غلوا مفرطاً في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حتى رفعوه فوق منزلته التي أنزله الله فيها واعتقدوا فيه عقائد فاسدة باطلة لا أساس لها من الصحة … ومن الانحرافات التي وقع فيها المتصوفة بسبب غلوهم في الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي:

1ـ الانحراف الأول: اعتقادهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خلق من نور وأنه أول مخلوق على الإطلاق وأن الله خلق من نور محمد جميع ما في هذا الكون من أرض وسماء وما فيهما بينهما:
وإليك النصوص من بطون كتب القوم.
قال أحمد بن المبارك راويا عن شيخه عبدالعزيز الدباغ: (وسمعته رضي الله عنه يقول في قوله: “وانفلقت الأنوار” أن أول ما خلق الله تعالى نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم خلق منه القلم والحجب السبعين وملائكتها ثم خلق اللوح ثم قبل كماله وانعقاده خلق العرش والأرواح والجنة والبرزخ…" ثم قال مفصلا ما مضى: “ثم إن الله تعالى خلق ملائكة الأرضين من نوره صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يعبدوه عليها وأما الأرواح والجنة إلا مواضع منها فإنها أيضا خلقت من نور وخلق ذلك النور من نوره صلى الله عليه وسلم وأما البرزخ فنصفه الأعلى من نوره صلى الله عليه وسلم فخرج من هذا أن القلم واللوح ونص البرزخ والحجب السبعين جميع ملائكتها وجميع ملائكة السموات والأرضين كلها خلقت من نوره صلى الله عليه وسلم بلا واسطة وأن العرش والماء والجنة والأرواح خلقت من نور خلق من نوره صلى الله عليه وسلم” (1) .
هذا هو النموذج الأول مما تعتقده الصوفية تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ادعوا في هذا النص بأن أول ما خلق الله نور الرسول صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما في هذا الكون خلق من نوره صلى الله عليه وسلم.
ولنعرض هذا المعتقد الصوفي على الكتاب والسنة لنرى هل أتوا بهذا المعتقد من عند أنفسهم أم أخذوه من الكتاب والسنة.
فنقول أولا: إن ادعاء المتصوفة بأن أول ما خلق الله نور الرسول صلى الله عليه وسلم غير صحيح بل هو ادعاء باطل وكذب محض وليس لهم أي دليل يستندون عليه لإثبات دعواهم هذه سوى الحديث الموضوع والذي نصه ((أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر)) (2) . والحديث الموضوع لا يصلح أن يكون دليلا لإثبات قضية عادية فضلا عن أن يكون دليلا لإثبات قضية عقدية ولهذا نقول إن المتصوفة أتوا بهذا المعتقد من عند أنفسهم ليضللوا به العوام عن المعتقد الصحيح الموجود في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس مخلوقا من نور كما يزعمون بل خلق مما يخلق منه البشر ولكن الله فضله بالرسالة وجعله خاتم رسله وجعله أفضل مخلوقاته.
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن أول مخلوق بشري هو أبونا آدم عليه السلام وبين لنا من أي شيء خلقه وذكر لنا المراحل التي مر بها أثناء إنشائه فقال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون:12- 13]
والشاهد في الآية هو قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ[المؤمنون: 12] والمقصود بها أصل الإنسان وهو أبونا آدم عليه السلام حيث خلقه الله من طين.
ومما يدل على أن أصل الإنسان من طين قوله تعالى إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ[ص:71- 72]
فهذه الآيات التي أوردتها وغيرها كثير كلها أثبتت لنا بأن أصل الإنسان من طين وأن أول مخلوق بشري هو أبونا آدم عليه السلام وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أحد أفراد ذرية آدم عليه السلام فأصله من تراب.
ولهذا نقول ونحن موقنون ومتأكدون مما نقوله بأنه حق وما عداه باطل بأن الرسول ليس أول مخلوق ولا هو مخلوق من نور كما تدعي الصوفية بل الرسول ولد من أب وأم قرشيين معروفين وهذا معلوم لدى الجميع إلا من أصيب بالمكابرة ومكانته العالية وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد فضله بالرسالة الخاتمة وجعله خير الخليقة على الإطلاق ولكن مع ذلك كله فهو عبدالله وقد وصفه الله بالعبودية له في آيات عديدة من كتابه سبحانه وتعالى منها:
قوله تعالى وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا[الجن: 19]ومنها قوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الإسراء: 1].
وقال تعالى وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[البقرة: 23]
وقد أمره الله سبحانه وتعالى أن يقول أنه بشر مثلنا فقال تعالى قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[الكهف: 110].
وبعد أن سقنا هذه الأدلة وأبطلنا حجج المتصوفة بها نقول: أن الاعتقاد الواجب تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث خلقه هو أنه خلق كما يخلق البشر غيره من أب وأم ثم أكرمه الله سبحانه وتعالى وشرفه بالرسالة الخاتمة وجعله أفضل جميع الخلق على الإطلاق وما يعتقده المتصوفة من أنه خلق من نور فغير صحيح بل هو اعتقاد باطل وكذب محض أتوبه من عند أنفسهم لإفساد عقيدة المسلمين حتى ردوهم إلى أمة وثنية تعبد الأشخاص والأحجار والأشجار.
وبما أننا أبطلنا دعوى الصوفية بأن الرسول خلق من نور فلا حاجة لمناقشة الصوفية في ادعائهم الآخر وهو قولهم إن الكون خلق من نور محمد صلى الله عليه وسلم لأن الأساس الذي أقاموا عليه دعوتهم قد قدمناه وبينا بأنه كذب محض وأثبتنا بأن الرسول بشر خلق كغيره من أب وأم وولد كما يولد البشر فالادعاء الثاني وهو زعم المتصوفة بأن الكون خلق من نوره باطل أيضا لأنها ليس لها أي أساس تعتمد عليه وليس لهم برهان من الله ولا من رسوله على صحة دعواهم هذه.
والخلاصة أن الرسول ليس مخلوقا من نور وليس الكون مخلوقا من نوره كما تدعي المتصوفة بل هو بشر قد ولد من أب وأم قرشيين معروفين فضله الله بالرسالة الخاتمة وجعله أفضل الخليقة وادعاء الصوفية بأنه خلق من نور كذب محض ومصادمة صريحة مع نصوص الكتاب والسنة فيجب أن ترد عليهم ويضرب بها على وجوههم.
2ـ الانحراف الثاني الذي وقع فيه المتصوفة هو قولهم بأن جميع الأنبياء فاضت عليهم العلوم من الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقد بالغ المتصوفة في الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل بهم الأمر إلى ادعاء أن جميع الأنبياء فاضت عليهم العلوم من الرسول صلى الله عليه وسلم وإليك النصوص الدالة على هذا:
فقد قال أحمد مبارك ناقلا عن شيخه الدباغ: (وسمعته رضي الله عنه يقول مرة أخرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن سقوا من نوره لم يشربوه بتمامه بل كل واحد يشرب منه ما يناسبه وكتب له فإن النور المكرم ذو ألوان كثيرة وأحوال عديدة وأقسام كثيرة فكل واحد شرب لونا خاصا ونوعا خاصا" قال رضي الله عنه: " فسيدنا عيسى صلى الله عليه وسلم شرب من النور المكرم فحصل له مقام الغربة وهو مقام يحمل صاحبه على السياحة وعدم القرار في موضوع واحد وسيدنا إبراهيم شرب من النور المكرم فحصل له مقام الرحمة والتواضع مع المشاهدة الكاملة فتراه إذا تكلم مع أحد يخاطبه بلين ويكلمه بتواضع عظيم فيظن المتكلم أنه يتواضع له وهو إنما يتواضع لله عز وجل لقوة مشاهدته وسيدنا موسى صلى الله عليه وسلم شرب من النور المكرم فحصل له مقام مشاهدة الحق سبحانه في نعمه وخيراته وعطاياه التي لا يقدر قدرها وهكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة الكرام والله أعلم) (3) .
وقال البوصيري:وإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما اتصلت من نوره بهم (4)
فالنصوص المتقدمة تدل دلالة واضحة بأن الصوفية يعتقدون بأن جميع الرسل شربوا من نور الرسول صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم حسب ما يناسبه وأن جميع الرسل فاضت عليهم العلوم من نور الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن الصوفية ليس لهم دليل يستندون عليه لإثبات هذا المعتقد الباطل لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هي دعوى مبنية على الهراء البحت فقط.
والرسل عليهم الصلاة والسلام لم تفض عليهم العلوم من الرسول كما يزعمون بل نزلت عليهم من الله عز وجل وحيا كما نزلت على الرسل محمد صلى الله عليه وسلم ومما يدل على هذا قول الله عز وجل إِنَّا أَوْحَيْنَا إليك كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ[النساء: 163]فهذه الآية نص قاطع في أن جميع الرسل نزل عليهم الوحي من الله ولم تفض عليهم العلوم من نور الرسول كما يزعم الصوفية الكذبة.
وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه بأن رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف الكتاب ولا الإيمان قبل أن يوحي الله إليه فكيف أخذ الرسل منه العلوم التي أوحيت إليهم وفي هذا يقول الله عز وجل وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إليك رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْايمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[الشورى: 52]ومن هنا نقول ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يدري الكتاب ولا الإيمان قبل أن يوحي إليه الله عز وجل فمن باب أولى أن الرسل لم يأخذوا العلوم التي أوحيت إليهم منه بالإضافة إلى أن الرسل أوحي إليهم قبل أن يخلق الرسول صلى الله عليه وسلم ويظهر في الوجود ومن أجل هذا نقول إن دعوى الصوفية بأن الرسل أخذوا العلوم من نوره صلى الله عليه وسلم دعوى باطلة تماما وليس لها أي أساس تعتمد عليه.
3ـ الانحراف الثالث الذي وقع فيه المتصوفة هو اعتقادهم بأن الرسول ينفع ويضر من دون الله والتوجه إليه بالدعاء والاستغاثة به:
لقد غلا المتصوفة غلوا مفرطا في الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رفعوه من مقام العبودية إلى مقام الألوهية فقد توجهوا إليه بأنواع من العبادات التي لا ينبغي صرفها لغير الله عز وجل رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من الغلو والإطراء فيه في أحاديث كثيرة وقد نهي الله عز وجل عن الغلو فقال تعالى قُلْ يَا أهل الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ[المائدة: 77]وإليك نماذج من كلام المتصوفة الذي يظهر فيه الغلو واضحا جليا وتشم منه رائحة الشرك العفنة المنتنة التي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته ونهى الله عنه في كتابه والذي يعتبر أكبر جريمة عصي بها الله عز وجل في هذا الكون على الإطلاق.
فقد قال محمد الفقي في كتابه (التوسل والزيارة) في إحدى قصائده والتي زعم أنها إحدى القصائد التي نظمها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم متوسلا به مستغيثا به وزعم أن الرسول تحدث معه بشأنها ونحن لا نريد إيراد القصيدة كلها هنا وإنما نريد أن نأخذ منها مقتطفات فقط لتكون لنا شواهد على ما نقول:
يقول في تلك القصيدة:إلى مصدر الأنوار والأنس نهرعُ
وفي الساحة العليا نحط ونفزعُحماك ملاذ اللاجئين وقصدهم
يطوف به وفد وآخر يضرعُألا يا رسول الله ما لي ملجأ
سواك أناجيه وجاهك واسعُأناجيك في سري وأدعوك جهرة
يهيجني وجد وشوق ومطمعُوليس بخاف أنني كنت دائما
أروح بحبي في رضاك وأرجعُوما ذاك إلا أنك الفضل كله
وأنك غوث للأنام ومفزعُوأنك يوم العرض حصن وموئل
رؤوف رحيم شافع ومشفعُفيا من عهدناه الوسيلة للورى
يلبي دعاء المستجير ويسمعويا من عهدناه الشفيع إذا دعا إلى
الموقف الداعي وعم التطلعسألتك فضلا يسعف القلب والنهي
يقوم به مثلي ويحيا ويخشعفجد لي به واعطف فعطفك نعمة
وكل الورى يصبو إليه ويطمعألست لنا بعد المهيمن رحمة
وبابا لعفو الله والكل يقرعفيا سيدي إني على الباب قائم
أموت وأحيا هواك وأولع (5)
فهذه الأبيات إذا نظرنا إليها نظرة فاحصة سنجد فيها أن الرجل وقع في شرك صريح بالله عز وجل حيث صرف للرسول صلى الله عليه وسلم عبادات لا ينبغي صرفها لغير الله عز وجل لأن المعبود هو الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له أما غيره فكلهم عبيد له سبحانه يتصرف فيهم كما يشاء ففي البيت الأول الرجل صرح بأنه إذا أصيب بأي مصيبة يسرع إلى الرسول ويفزع إليه حتى ينقذه مما أصيب به حسب زعمه وكذلك في البيت الثاني وصف الرسول بأن كل من يطلب شيئا يتوجه إلى الرسول وأن هناك وفود تطوف بالرسول وطبعا يقصد قبره ووفود أخرى تتضرع إلى الرسول وفي البيت الثالث صرح الرجل بأنه يناجي الرسول في سره ويدعوه علنا طالبا منه ما يريده، وفي البيت الرابع وصف الرسول بأنه يعلم الغيب ويعلم ما فيه من حالة وأنه بذل جهده لإرضاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي البيت الخامس كما هو واضح وصف الرسول بأنه كل الفضل وأنه مغيث لجميع من في الكون ومفزعهم عند الشدائد وفي البيت السادس وصف الرسول بأنه حصن لجميع المخلوقات وموئلهم يوم القيامة وفي البيت السابع وصف الرسول بأنه وسيلة جميع الورى وأنه يستجيب دعاء من يدعوه ويسمعهم وفي البيت العاشر والحادي عشر صرح الرجل بأن الفضل بيد الرسول وطلب منه أن يجود له به ثم صرح بأن جميع من في هذا الكون يتوجهون إليه ويطمعون في فضله وفي البيت الأخير صرح الرجل بأنه قائم على باب الرسول ويعني به طبعا باب قبره طلبا للمغفرة والرحمة وقضاء جميع ما يحتاجه.
وهكذا غلا المتصوفة في الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أعطوه أمورا لا يملكها إلا الله عز وجل حيث تجاوزوا به حدود البشرية وأوصلوه إلى حدود الألوهية والربوبية فتوجهوا إليه بأنواع العبادات رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهي عن الغلو وحذر منه تحذيرا شديدا منها حديث ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) (6) .
ومع ذلك فقد بالغ المتصوفة في تعظيمه صلى الله عليه وسلم حتى رأوا أن الطواف بقبره والتمسح بترابه والسجود له من القربات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل واعتقدوا أنه ينفع ويضر ويعطي ويمنع وأنه يفرج الكربات وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل من يشاء وهذا غلو منهم ومبالغة ممقوتة تؤدي بصاحبها إلى الشرك والانسلاخ الكامل من الدين إن لم يتب منها.
وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يملك نفعا ولا ضرا كما أمره الله عز وجل في كتابه فقال: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[الأعراف: 188]ففي هذه الآية نفى الله عن رسوله ملك النفع والضر وأنه لو كان يملك ذلك لما أصابه السوء بل لدفعه عنه ومعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أصيب في حروبه مع المشركين إصابات كما في غزوة أحد (7) . فلو كان يملك تفريج الكربات لفرج عن نفسه ولكنه لا يملك شيئا من ذلك بل الرسول يدعو الله عز وجل والله يفرج عنه فهو عبد من عباد الله فضله الله بالرسالة وجعله خير ما خلقه الله على الإطلاق ولكن مع ذلك لم يخرج عن كونه عبدا لله.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسله الله إلا للنهي عن الشرك بالله والدعوة إلى توحيده فكل من يدعو غير الله يعتبر محادا لله ولرسوله لأنه يريد أن يعيد الشرك الذي وصفه الله بأنه أعظم ظلم وحاربه رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالمخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا كان نبيا أو ملكا أو وليا فالكل عبيد الله فالتوجه إليهم بالدعاء بأنه مثل الذي يريد إيصال الماء إلى فيه مع بسط كفيه وهذا تشبيه دقيق ومقنع فكما أن الذي يريد أن يوصل الماء إلى فيه مع بسط كفيه لا يمكن أن يصل إلى فيه ويشرب منه فكذلك الذي يتوجه بالدعاء إلى غير الله لا يمكن أن يحصل على مطلوبه لأن الذي يتوجه إليه بهذا الدعاء لا يملك ما يطلبه منه وفاقد الشيء لا يعطيه وإليك الآية قال تعالى لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ[الرعد: 14].
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بأن المدعوين من دونه لا يمكلون كشف الضر ولا تحويله عمن يدعوهم فقال تعالى قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً[الإسراء: 56]وقد أخبر الله عز وجل بأن المشركين دعوا شركاءهم فلم يستجيبوا لهم حيث قال تعالى وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ[القصص: 64]وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن المدعوين من دونه لا يملكون شيئا ولو كان شيئا بسيطا جدا كالقطمير فقال تعالى إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر: 14].
وبعد أن أوردنا هذه الآيات نقول إن كل من يتوجه إلى غير الله بالدعاء والاستغاثة وطلب قضاء الحوائج سواء كان المدعو ميتا أو حيا ولكنه غائب وسواء كان المدعو نبيا أو ملكا أو وليا يعتبر قد وقع في الشرك الأكبر الذي بعث الله الرسل لمحاربته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرسالة السنية)
(فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام ممن مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان أيضا قد يمرق وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال قُلْ يَا أهل الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ[المائدة: 77] وكذلك الغلو في بعض المشايخ بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح عليه السلام فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني أو أغنني أو ارزقني فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله إنما أرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى[الزمر: 3]ويقولون وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ[يونس: 18]فبعث الله رسله تنهي أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة.
ولهذا نقول أن ما يعتقده المتصوفة تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه ينفع ويضر من دون الله وتوجههم إليه من العبادات التي لا ينبغي صرفها لغير الله عز وجل يعتبر شركا أكبر بالله عز وجل وقد اتضح لنا جيدا من خلال النصوص التي سقناها عن المتصوفة أنفسهم أنهم يتوجهون بطلب أو جلب منفعة من المنافع مع أن هذه الأشياء لا يقدر عليها إلا الله عز وجل في حياته فكيف بعد مماته والرسول صلى الله عليه وسلم قد نفى عن نفسه هذه المهام التي يزعم المتصوفة أنه بإمكانه أن يحققها كما في قوله تعالى قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[الأعراف: 188]وقال قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[الكهف: 110] فالآيات المتقدمة تكفي للرد على المتصوفة بأن ما يعتقدونه تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه ينفع ويضر ويعطي ويمنع ويفرج كرب المكروبين وهم المهمومين ويستجيب لمن دعاه باطل واعتقاد فاسد مخالف تمام المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو شرك محض لا علاقة له بالإسلام دين التوحيد لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وقد أخبر بأنه بشر وأن ميزته الوحيدة هي أنه يوحى إليه وأنه أفضل جميع الخليقة ولكن كونه أفضل جميع الخليقة لا يدعونا ذلك إلى أن ندعوه من دون الله ونرفعه إلى درجة الربوبية.
وقد نهي الله عز وجل عن أن يتجه الإنسان بالدعاء إلى غيره فقال تعالى وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ[يونس:106 - 107]إذا فدعاء غير الله يعتبر شركا بالله وأن المدعو من دون الله ليس بمقدوره النفع والضر وأنه لا يستطيع أن يرفع البلاء ولا أن يرد الخير وقد أخبر الله عز وجل بأن كل من يدعو من دون الله أحدا من خلقه يعتبر كافرا بالله فقال تعالى وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[المؤمنون: 117]وهذه الآية نص صريح في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك أكبر ولهذا قال تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ[يونس:106 - 107]لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع ولازم ذلك إفراده بتوحيد الألوهية لأنهما متلازمان وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير لا يكشف الضر إلا هو ولا يجلب الخير إلا هو قال تعالى مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[فاطر: 2]فتعين أن لا يدعى لذلك إلا هو وبطل دعاء من سواه ممن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وكما قالوا: فاقد الشيء لا يعطيه. (8)