التقليدية الجديدة حتمية التواصل وأهمية التطوير


صحيفة الاقتصادية الالكترونية

التقليدية الجديدة حتمية التواصل وأهمية التطوير

د. م هاني القحطاني
التقليدية الجديدة هي الاتجاه الأهم الذي طبع العمارة في المملكة في العقدين الأخيرين لأسباب سنتعرف على بعض منها في سياق هذا المقال. وقبل الحديث عن مضمون هذا الاتجاه لابد من تفكيكه لغويا. فالتقليدية تعني ببساطة الشيء المتعارف عليه، أما الجديدة فإنها تعني شيئا جديدا يفترض فيه أن يكون مختلفا تماما عن كل ما هو تقليدي.
التقليدية الجديدة مصطلح قصد به المباني المنشأة حديثا التي تستلهم التراث بطريقة حرفية وتعتبر منطقة قصر الحكم في الرياض أشهر الأمثلة التي تمثل هذا التيار. والمصطلح بحد ذاته هو ترجمة حرفية لمرادفه الإنجليزي THE NEW TRADITIONALISM وقد تم استخدامه في أدبياتنا المحلية للدلالة على هذا التوجه في شكل وأسلوب البناء. ومن الواضح هنا أننا أمام مهمة توطين مصطلحات النقد المعماري وتوظيفها بصورة أكثر وضوحا في واقعنا المعماري الراهن وهذا موضوع على درجة عالية من الأهمية.
من الناحية اللغوية إن التقليدية الجديدة مصطلح غير منطقي، فكيف يمكن للشيء أن يكون قديما وجديدا في الوقت نفسه. أما في العمارة فإن لهذا الاتجاه جناحان هما التراث والحداثة كمرادفين لغويين لمفهومي التقليد والتجديد. ففي التراث كانت المفردات المعمارية محصلة نتاج مجتمع تقليدي لعبت الثقافة المحلية والعوامل الطبيعية وتقنيات البناء المختلفة – على بساطتها – الدور الأهم في ظهور هذه العمارة بالشكل الذي وصلتنا به. يعتبر الطين روح هذه العمارة فهو الذي أعطاها شكلها ولونها ورائحتها وهو الذي حدد ارتفاعات جدرانها وعرض أسقفها وأحجام فتحاتها وكافة تفاصيل هذه العمارة. والطين مادة عضوية مرنة يشعر الإنسان معه وكأنه والبناء استمرارا للآخر، وتبدو معها عمارة الطين وكأنها عمارة متحركة بانسيابية متدفقة في الفراغ. أما الحداثة فإنها شيء مختلف تماما. ففي مقابل الطين تأتي الخرسانة وهي روح العمارة الحديثة على طرفي نقيض. الخرسانة المسلحة على عكس محدودية الطين في البناء مادة بها من الإمكانات ما شكل منها ثورة في تاريخ العمارة والاستيطان البشري على كوكب الأرض. لقد أصبح بالإمكان بناء فراغات لا حدود لها بارتفاعات غير مسبوقة وفي أشكال لم تخطر على بال أحد.
اشتراك التقليدية الجديدة مع العمارة الحديثة في عدد من السمات. فكما فقدت العمارة الحديثة أسباب بقائها واستمراريتها الدافقة التي بدأت بها التحول إلى اتجاهات أخرى. وأصبحت العمارة الحديثة تعني فترة تاريخية معينة من تطور العمارة في القرن العشرين. والحال ذاته ينطبق على التقليدية الجديدة في المملكة التي تبدو أنها قد فقدت الزخم الذي كانت تتمتع به منذ بداية الثمانينيات من القرن المنصرم. غير أن ما يلفت النظر في كل من الحالتين هو أن العمارة عندما تتحول إلى جملة من الإملاءات (DOGMA) فإنها تتلاشى تدريجيا إلى أن تدخل في غياهب النسيان. العمارة ببساطة يجب أن تعبر عن عصرها الذي بنيت فيه ولا مانع بل إنه من المفضل ومن الحكمة أن تتواصل مسيرة البناء بين كل عصر والذي يليه وهو ما كانت تهدف إليه التقليدية الجديدة أصلا.
ما الذي يجعل التراث جميلا وما هو سر افتتان البعض به. الجواب ببساطة هو أن التراث نتاج عصره بكل ما عنى من ثقافة وتقنيات بناء مصاحبة لها، وهو أيضا وهذا هو المهم يختزن ذاكرة جماعية للناس. نحن للتراث ونشتاق إليه ونعتز به، غير أننا لا نود العودة للعيش فيه لأن سنن الكون تمضي قدما. ما يتم عمله في التقليدية الجديدة هو إعادة إنتاج التراث بمواد حديثة. غير أن عامل الزمن هنا قد تم تجاهله تماما ولذلك فإن عمارة التقليدية الجديدة تفتقر للحيوية والدفء والعفوية التي ميزت العمارة التقليدية. فما أن يتم بناء العمود التقليدي من الطين بالخرسانة – حسب أسلوب التقليدية الجديدة - حتى يفقد كل معاني أصالته ويتحول إلى عمود من الخرسانة لا يرتبط بأصله التقليدي من الطين لا من قريب ولا من بعيد. وعلى عكس دفء وحيوية وتدفق العمارة التقليدية تتحول العمارة بكامل مفرداتها وتفاصيلها إلى مبان جامدة في الزمان والمكان. هنا تم جلب التراث بقضه وقضيضه من الزمن الماضي وتجميده في قوالب خرسانية في زمن ليس بزمنه. هنا اختفت الملامح التقليدية لعمارة الطين وأصبح معها العمود الطيني المليء بالحيوية والدفء مجمدا في الفراغ، وتحولت الخطوط المنحنية العفوية إلى خطوط مستقيمة صارمة واختفت الأسطح الدافئة ذات المظهر الخشن المتحرك لتصبح أسطحا ملساء لا حياة فيها. في القراءة الأخرى تم جلب العمارة الحديثة من الزمن الحاضر وتم تجميدها بفعل التراث في الماضي وهو ما نتج عنه اختزال مريع لمفهوم التجدد والتطوير الذي نادت به الحداثة. هنا تم حشر الحداثة بكامل طاقتها وإمكاناتها في صندوق ضيق لتستوعب عناصر تقليدية بهدف تقليد الماضي ليس إلا. هكذا وفي كلا القراءتين النتيجة واحدة عمارة تفتقر إلى الدفء والحيوية في عروقها. فلا التقليدي أصبح حديثا ولم يصبح الحديث تقليديا.
أود في هذا السياق أن أروي حادثة طريفة لها مغزاها هنا. فعندما طلبت من بعض طلاب العمارة – وهم على درجة متقدمة من قراءة المباني معماريا كمحترفين– ضرب أمثلة لبعض الأعمال الحديثة التي تستلهم التراث العمراني جاءني أحدهم في جامع الإمام تركي بن عبد الله على أنه قصر واستمر يشرح الجامع كما لو كان قصرا. من ناحيتي كنت أسأل الطالب وأستوقفه مرارا عن الدوافع التي جعلته يخطئ في قراءته للمبنى واستنتاجاته وذكرته بمنارتي الجامع والعقود وباقي مفرداته وأخيرا قبل الطالب على مضض – وفي غياب القبة عن الجامع - أن البناء هو جامع الإمام تركي بن عبد الله. لقد أثار هذا الموقف لدي وهو بالمناسبة قد تكرر قبل ذلك أسئلة عدة حول التقليدية الجديدة. ترى هل أخطأ الطالب في قراءته للمبنى أم أن المعماري أخطأ في عمارته. هذه قراءة طالب سيصبح معماريا عن قريب لبناء علم في النسيج العمراني والثقافي للملكة فما هو حال قراءة عامة الناس لعامة البناء. هذا مثال بسيط يوضح مدى حاجتنا للنقد المعماري البناء والمتخصص والمحترف والأخذ به في واقعنا المعماري الراهن. النقد في العمارة – بوصفها نتاجا ثقافيا – مثل الهواء للنار فدون نقد بناء تنطفئ نار الإبداع.
هذا لا يعني الحكم على التقليدية الجديدة بأنها غير قابلة للتطبيق لكن الطريقة والآليات التي تم التعامل بها مع التراث والحداثة هي ما يجب إعادة النظر فيها لتحقيق طرفي المعادلة الصعبة تلك. الأمم الحية هي التي تستنهض تراثها وتعتز به وتتعايش معه بطريقة خلاقة فاعلة في الزمان والمكان. البناء عملية تراكمية فمن أخطاء الأمس نتعلم حلول الغد هكذا علمنا التراث وهكذا يجب أن تصقلنا التجربة.

* أستاذ العمارة والفنون الإسلامية في جامعة الملك فيصل