كوريا: إشكالية عمارة الانتماء المكاني

عندما شارف بناء مدينة “نيودلهي” على النهاية ولد المعمار الهندي “جارلس كوريا” (1930)، وبهذه المفارقة التاريخية فان نوعين من أساليب التفكير المتباين والمحتدم، قد تم تكريسهما واكتمالهما بصورة واضحة في الأوساط الاجتماعية والثقافية الهندية حينذاك. فلقد أريد لنيودلهي، غب تأسيسها (1911) أن تحقق المثل الأعلى لعظمة الإمبراطورية البريطانية وطلب من مصممها "أدوين لاجنس Edwin Lutyens (1869- 1944) هذا المعماري المعروف بتصاميمه لقصور وفيلات ضواحي لندن - أن يحول مدينة “نيودلهي” إلى “روما: انكلو - هندية”: فخمـة ومهيبـة في آن!!

وبموازاة هذا الأسلوب في التناول كان ثمة نهج آخر يتفاعل بجانبـه، ويتجلى ثقافياً في نبذ طريقة الأسلوب الأول، معتمدا على ضرورة تبيان الخصائص المحلية لتجسيد الذات الوطنية وديمومتها، ولئن استحالت بدايات الأسلوب الثاني في العمارة إلى ممارسة نهمة للاستنساخات النصية والشكلية لعناصر عمائر الفترات الماضويـة، مواكبة في هذا المجال مقتضيات وخصوصية حركـة التحرر الوطني التي كان يقودها المهاتما غاندي فان تجذير هذا النهج وجدليته لاحقاً كان لا بد وان يفضيا إلى منسوب مفاهيمي اكثر منطقية وواقعية وهو ما حدث فعلاً بعد الاستقلال (1946).

مثل هذه الأجواء المفعمة بالنقاش والصراعات بدأ " جارلس كوريا" Charles Correa شأنه شأن زملائه الآخرين، يتلمس طريقه نحو مهنته المستقبلية المفضلة، وعندما عاد في منتصف الخمسينات إلى الهند بعد إكماله دراستـه الأوليـة والعليا في العمارة من الولايات المتحدة، كان هاجس تقصي وإيجاد لغة جديدة للعمارة القومية والوطنية طافحاً في الأوساط المعمارية العالمية وقتذاك، بالضد " هذه المرة " ! من هيمنة وشمولية أسلوب “الطراز الدولي”. وربما أدرك “جارلس كوريا” عبر دراسته الأكاديمية الرصينة وتطبيقاته العملية القصيرة في مكتب " مينورو يماساكي Minoru Yamasaki " بأمريكا (1) بأن “عمارة المتعة البصرية " التي كان مولع بها " يماساكي " في تكويناته، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون هاجسه الحقيقي وغايته الأخيرة، ومما عزز في تأكيد قناعاته التي يصبو إليها التطبيقات الجريئة التي كان يجريها لو كوربوزيه (1887-1965) في جانديغار Chandigarh (1952) ومحاولات زملائه الهنود الآخرين أمثال " حبيب رحمان " و " جاي راتان بهالا " و " دوشي " و " ب. ماتهور” وغيرهم.

في مقالنا هذا ، سنحاول أن نرى “جارلس كوريا” معماراً طليعياً وممثلاً حقيقياً لعمارة البلدان النامية التي تدعى الآن بصورة شائعة " بعمارة العالم الثالث " بكل طموحات هذه العمارة ونضالها القاسي وأحياناً احباطاتها، بيد أنها في كل الظروف تظل تتوق نحو مستقبل افضل يحدوها آمل نبيل ومشروع في إمكانية تهيئة وخلق بيئة ملائمة وجميلة لانسانها المضطهد والمستضعف.

تنطوي عمارة " جارلس كوريا " على خصائص محددة وملموسة، وهذه الخصائص هي التي تسم عمارته بطابع فريد بحيث يكون حضور الإحساس بالانتماء المكاني لها مكتنفاً ومتغلغلاً في صميم التكوينات المعمارية التي يخلقها. فثقافته الواسعة وحبه وتعاطفه مع تاريخ بلده، وانحيازه التام لمشاكل أولئك الذين يخلقون مستقبل وطنه، وطروحاته الواضحة في هذا المجال جعلت من تصاميمـه إحدى أهم الظواهر الإيجابية في الثقافة الهندية المعاصرة.

إن أسلوب المعالجات المعمارية التي أبدعها تمتلك وشائج كثيرة مع البيئة التي يتعامل معها، وهو يعتمد في خلق هذا الأسلوب على معنى موضوعية تراكم الخبرة الهائلة المرشحة عبر قرون عديدة من تاريخ الهند العريق وتفسيراته الذاتية والمعاصرة لها. ولهذا فانه بعيد جداً عن فكره محاكاة الأشكال التاريخية وتقليدها. وهو بهذا الصدد يشير " بأننا نعيش في بلدان ذات ارث ثقافي كبير، بلدان تلبس ماضيها بالسهولة نفسها التي تكسو المرأة جسمها " بالساري " بيد أن في فهم واستعمال هـذا الماضي، دعونا لا ننسى ظروف المعيشة الحالية لأناس عديدين بآسيا في معركتهم المضنية والقاسية نحو مستقبل أفضل. ان العمارة المنحطة لوحدها يمكن أن تنظر إلى الوراء لتصرح ( أني تفحصت الماضي ووجدت أشكاله لا زالت تعمل )… “إن العمارة المفعمة بالنشاط يمكن لها أن تكون أداة تغيير ذلك لأنه باختراع الغد وكشفه - تكمن وظيفتها الأسمى”.

إن عمارة "جارلس كوريا " في اعتقادنا. ينبغي أن تدرك وتحلل في ضوء الخلفية الزمكانية التي يعمل بها. وان محاولة إسقاط هذا الجانب الأساسي من التحليل سوف يؤدي لا محالة إلى نوع من الالتباس والغموض الأمر الذي بإمكانه أن يخلق حجة لتضليل الحوادث المعمارية وإبهامها. ثمة ميزة جوهرية يمكن تلمسها في أعمال “جارلس كوريا” العديدة. وهذه الميزة تكمن في مقدرته الفائقة على استنباط مقياس إنساني لمبانيه وهو، بهذا الصدد، يقف بالضد من غايات ومرامي عمارة الثقافات المختلفة التي شيدت باعتباط ظاهر، على الأرض الهندية، تلك الغايات التي تتوخى سحق المشاهد واستلابه وهيمنتها الكاملة عليه أو تكريس الإحساس بالانقطاع والتغريب ؛ ولهذا، فان " جارلس كوريا " يشعرنا بأهمية عنصر المقياس المنتخب لمبانيه عبر ولعه بالتوظيف الحاذق للتكوينات الأفقية الممتدة وشغفه بأسلوب التداخل الفضائي فيها. ويبدو لنا بأن تركيز الاهتمام على هذا الجانب مرده رغبة المعمار في تأكيد شعور الاحترام والتكريم العميقين الذي يكنهما إلى معاصريه: سليلي شتى أنواع القهر والظلم والتعسف.

إن مبنى"المتحف التذكاري" للمهاتما غاندي في أحمد آباد و"متحف الفنون الشعبية" في نيودلهي و “كيدادي دي غوا” وحتـى في الأبنية المتعددة الطوابق مثل مركز L.I.C كلها وغيرها من التكوينات تعكس توق المعمار وحرصه في تكريس الإحساس بألفة العمارة التي يخلقها وانتمائيتها للمتلقي.

ولي “جارلس كوريا” قدراً كبيراً من الأهمية إلى رسم مسارات الحركة ويجعلها عنصراً أساسياً في صياغة فضاء التكوينات المعمارية التي يبدعها. وهذا الاهتمام " بالحركة " لا يقتصر على مفهوميته المحصـورة داخل المبنى. وإنما يتعداه ليضحى باعثاً جوهرياً في ترتيـب وتنظيم النسيج الكتلوي لمجمعاته. ومن خلال العناية بهذا الجانب يعود “كوريا” بنا إلى جذور تقاليد شائعــة ومعروفة في العمارة الهندية فهو يرى "أن في معبد هندو Hindu الصرحي الواقع في جنوب الهند لم يكن هم المصمم وغايته فيه تقتصر على تمرين في ممارسة تجميع أبنيـة مزارات وأضرحة " وانما تأكيد على جانب آخر مهم ورئيسي هو خلـق “حالة الاغتســال المساري Pedestrian path - كما يسميه كوريا - بين الفضاءات المقدسة الواقعة بينهما”. ونحن إذ نلاحظ اهتماماً وولعاً كبيرين في توظيف هذا التقليد المعماري من قبل المصمم. لا يسعنا إلا أن نشير لميزة القراءة الحديثة ولنكهة التفسير المعاصر اللتان جبلت عليهما تصاميم “جارلس كوريا”. ويسعى المعمار لبلوغ مقصده في هذا الخصوص جراء شغفه الكبير باستعمال المناسيب المختلفة وولعه الظاهر في استخدامه المدرجات والمنصات ذات الأشكال العديدة بالإضافة إلى التحديدات المتعمدة لتوجيه المسارات التي يؤشرها في الفضاء التكويني لتصاميمه.

ويظل هاجس الاستجابة للاعتبارات المناخية عند “جارلس كوريا” من الأمور التي تسهم اساساً في صياغة مفردات العمل المعماري الذي يمارسه. وهو في هذا الشأن يذهب بعيداً في مصارحة مغالية لأهمية الظروف المناخية في عمارته معترفاً بصورة مقنعة بأن “الشكل يتبع المناخ”) وليس “الشكل يتبع الوظيفة” كما نادى به سابقاً لويس سوليفان قبل نيف وقرن من السنين!!.

وتبدو أن قضية تقصي حلول معمارية بإمكانها أن تتجاوب بمنطقة مع البيئة المناخية في بلـد كالهند هي أمر واجب وملح فضلاً على أنها أمر مثير وهو يقول " … في بلدان العالم الثالث مثل الهند ليس بمقدورنا ببساطة أن نتحمل إسراف وتبذير أي نوع من الطاقة - فضلاً على احتياجات التكييف - التي يتطلبها منشأ زجاجي في منطقة استوائية، ذلك لأن المبنى في مثل هذه الظروف ينبغي عليه ذاتياً ومن خلال شكله أن يخلق “منظومات” تكون كفيلة بتغطية احتياجات المستعمل، وتحتم الاستجابة في مثل هذه الأحوال استثمار أوسع من دراسة لزوايا الشمس أو لاستعمال الكاسرات، انها تقتضي بالضرورة وتشمل دراسة متأنية للمقطع والمخطط والهيئة، وباختصار فإنها تمس لب المبنى وطبيعته " (في تصديه لمعضلة استنباط قرارات تصميمية تتعايش بحصافة مع ضروريات البيئة المناخية، يعود " جارلس كوريا " مرة أخرى إلى ينابيع الخبرة المحلية والى الفطنة البنائية الشعبية في هذا المجال، مضيفاً لها حذاقة الاستقراءات الشخصية المستندة على مقدرته المهنية الكبيرة وثقافته الواسعة، وهو إذ يدرس تكوينات العمارة الشعبية فان رغبة عارمة تحدوه في تأشير وتحليل العناصر التي تسهم بتجسيد الظروف السلبية الناجمة عن خصوصيات المناخ الحار الرطب الذي يتسم به مناخ الهند عموماً أو مناخ تلك المناطق التي يصمم لها كثيراً على وجه الخصوص.

فعنصر الـ (Chatri) - وهو تسقيفة أفقية تحمي المنشأ الواقع أسفلها -، والشرفات المحيطة بالمخطط والفتحات الكثيرة المتنوعة الموقع التي تسمح بمرور وتسهيل التيارات الهوائية وغيرها من العناصر الأخرى تظل عنده بمثابة مفردات مفضلة يتعامل بها في صياغة التكوينات المعمارية. ونظرة سريعة إلى مبنى الأبحاث FCIL ومتحف غاندي وعمارة " كانجا نجونغا" السكنية وغيرها من الأبنية تمنحنا إقرارا ملموساً في شغف المعمار بتوظيف آلية تراكم الخبرة المكتسبة والإحساس بتأويلاته الحديثة لها.

يستقي " جارلس كوريا " مصادر عمارته - كما حاولنا الإشارة إلى بعضها سابقاً - من خصوصية المكان، بكل ما يترتب عن ذلك من معرفة حقيقية للعمق الزمني والمقدرة على التفسير، وكذلك من التوق في خلق بيئة معمارية ملائمة وحديثة،جميلة ومؤثرة ؛ فضلاً على أن هذه المصادرتشمل أيضاً فهم وإدراك تجارب زملائه المحليين، بالإضافة إلى استيعاب تطبيقات المعماريين العالميين المعروفين وخصوصاً " لي كوربوزيه " و"لويس كان" اللذين عملا في الهند إبان أوج نشاطهما المهني والذي تواءم مع عشية بدء الممارسات المهنية “لجارلس كوريا”.

ولعل في دراسة بعض نماذج تصاميمه ( المنفذة أو غير المنفذة منها ) تعطينا إمكانية تحسس “سبيكة” المصادر المتينة التي يعتمدها ويطوعها هذا المعمار المجدد. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى مزار "غاندي سمارك سانغراهاليا 1958- 1963 Gandi Smarak Sangrahalaya في سابارماتي اشرام بأحمد آباد، وهو متحف تذكاري " للمهاتما غاندي " شيد تخليداً لسكنه في اشرام من 1917 وحتـى 1930، وبدء مسيرته البطولية نحو داندي Dandi، كما أن المتحف معني في المساهمة بنشر تعاليم " المهاتما " وذيوعها، وقد تم افتتاحه من قبل " جواهر لال نهرو " سنة 1963.

يعتمد "جارلس كوريا “في تكوينات” سانغرا هاليا " وتعني " بيت الناسك " على وحدة قياسية Module هي بمثابة خلية - جناح بأبعاد 6 م × 6 م، ويصل عددها في التكوين إلى 51 خلية. حاول المعمار أن يستخدم في بناء الخلية الواحدة ذات المواد الإنشائية المألوفة والشائعة في العمارة الشعبية: الجدران الآجرية والسقوف الهرمية المصنوعة من القرميد والأرضيـة الحجرية والأبواب الخشبية، العنصر الوحيد والجديد الذي أضافه هي الجسور الخرسانية الرابطة بين هذه الخلايا والتي تعمل بمثابة مزاريب للأمطار أيضاً، ولقـد تعمد المعمار على اقتصار هذه المواد المألوفة والمتواضعة في تنفيذ مبناه مجارياً في ذلك ومتقرباً من طروحات " غاندي " الفلسفية البسيطة، ولهذا فان أشكال الخلايا - الأجنحة المتسمة بعدم الحذاقة والمهارة المتقصدتين تبدو هنا اكثر من ملائمة ومناسبة.

وعبر اقتران هذه الخلايا وتمازجها فإنها تخلق فضاءات صغيرة وكبيرة مفتوحة ومغلقة ( تستخدم كصالات للعرض وقاعات وأرشيف وإدارة الخ… ).ويمكن أن تؤلف إحدى هذه الخلايا حوضاً تزيينياً وأخرى تنمو من سطحها الرملي الأشجار الغريبة، وثالثة مقتصرة على الصخور الحجرية، ورابعة مفروشة بسجادة الحشيش الأخضر، ومن خلال هذه المزاوجة في الترتيب فان المعمار تمكن باقتدار أن يخلق لنا تكويناً غنياً وثراً بواسطة أسلوب التكرار لهذه الخلية الكتلوية - الفضائية.

إن مخطط " سانغرا هاليا " المشتبك والمنسوج من الخلايا " المودولية " تكسب المبنى حالة مميزة شبيهة إلى حدٍ كبير بحالة التركيبة الحية من حيث النمو والانتشار، الأمر الذي يمنح المبنى صفة الامتداد الزماني، وتبعاً لذلك فان بمقدور كل جيل - وفق رؤية المعمار - (7) أن يضيف جناحاً أو أجنحة لمستجداته معبراً في ذات الوقت عن تكريمه وتقديره الخاصين إلى " المهاتما ".

تصميم " سانغرا هاليا " يدنو " جارلس كوريا " من أوج الملائمة بين الموضوعة الوظيفية وأهلية الغرض مع براعة حلول التعبير المعماري، وفي اعتقادنا فان المعمار أدرك هذا المنسوب العالي من الطرح جراء التحليل العميق للموروث العمراني التقليدي ومزاوجته مع متطلبات الحداثة المعتمدة على الثقافة الواسعة التي يمتلكها المصمم ومعرفته ومواكبته الدقيقة والتفصيلية لنتاجات المعماريين المحدثين. فوحدة التكوين المستعملة في " سانغرا هاليا " تظل بسيطة إلى أقصى حد، بيد أن الفكر النابع من أسلوب تجميعها هو الذي يسم التكوين العام بهذا القدر الكبير من المهارة والافتتان. ولقد أشرنا في بحث سابـق بأن إدراك مثل هذا الفكـر التصميمي هو وليد ما سميناه " بالتكوين المرن " أي بمعنى " … قابلية المبنى للتوسع المكاني زمانياً دون خوف من إفساد طبيعة التكوين المعماري للمبنى وربما اعتمد " جارلس كوريا " أيضاً في تصميم " سانغرا هاليا " على فهم واستيعاب طروحات " لويس كان" وخصوصاً معالجات الأخير في تصميم حمام ترنتون (1955) Trenton Bath House . ومهما يكن من أمر، فان تصميم متحف غاندي يعد تجسيداً حقيقياً لتلك الموائمة الذكية بين الموضوعة المعمارية والطرح التصميمي.

وينبغي لنا، أخيراً أن نشير إلى تلك البساطة الآسرة الممزوجة بهاجس الاختزال العميق لأدوات اللغة المعمارية المنطوية عليها قـرارات " سانغرا هاليا " التصميمية. كما أن ولع المعمار الظاهر بخاصيـة التكوين هـذه، جعلته يصطفي ذات المؤشرات المعمارية ويستثمرها في معالجات مبنى آخر هو مبنى " المجمع الإداري " (1965 -1968) ECIL Office Complex في حيدر آباد، معبراً في هذا الاصطفاء عن عميق افتتانه وقناعته بصوابية حصيلة النتائج التي توصل إليها…

يولي " جارلس كوريا " اهتماماً خاصاً إلى العمارة الإسكانية، فهو معني كثيراً في إيجاد نوع من السكن الجماهيري في ضوء ضوابط التقييس Standardization وصولاً لتقصي حلول أكثر اقتصادية وعقلانية في هذا المجال. ففي معالجاته لمبنى TUBE Housing في أحمد آباد (1961-1962) والذي نفذ اثر فوزه بمسابقة معمارية نظمت سنة 1960، يقترح جارلس كوريا استثماراً أفضــل للفضاءات من خلال التباين الاستعمالي تبعاً لساعات اليوم. فالاستعمال الوظيفي للمكان نهاراً يختلف عنه في الليل، وإذ يخلق في TUBE Housing شكلاً معبراً يقترب إلى النحتية المؤثرة فانه يرجح حيثيات هذا الاختبار الشكلي إلى ضرورات التهوية وإمكانية تسهيل حركتها.

ويبدو أن الفكرة التصميمية التي انطوى عليها تصميم TUBE Housing كانت من العمق والرسوخ بحيث أن المعمار لم يشعر بأي ضير في استعمالها - بعد تغيير طفيف - كأساس لتصميم " بيت رامكريشنا " Ramkrishna House(1964) العائد إلى أحد أثرياء احمد آباد. وتدعونا خطابية المعمار عبر هذه المفارقة إلى الاهتمام بحقيقة بسيطة وواضحة وهي أن العملية التصميمية لدى المعمار الطليعي هي عملية شائكة ومضنية تستوجب تقصي حلولاً عقلانية ومبتكرة بيد أنها تتسم دائماً بالعمق والجدية،وبالإمكان اعتبار كل ذلك بمثابة درساً إضافياً لنا في قراءة ذهنية المعمار المتقدة.

في مبنى " كانجا نجونغا " السكني (1983) – مومباي ( بومبي) Kanchanuhnga Apartments، المتعدد الطوابق يعود " جارلس كوريا " إلى دراساته السابقة لمشروعه البيت السكني المتعدد الطوابق ( الذي لم ينفذ ) في مومباي سنة 1958، وكذلك إلى تصاميمه الخاصة بمبنى Rallis سنة 1973 ( والذي لم ينفذ أيضاً ). في جميع هذه المشاريع ظلت مهمة تقصي شكلاً ملائماً لشقة سكنية بمناسيب مختلفة تتمحور في جميع التكوينات المقترحة.

والحق أن اللجوء لمثل هذا التكوين الفضائي بالعمارة الإسكانية لم يكن أمراً جديداً ومبتكراً فقبله استعمل لي كوربوزيه ذات الأسلوب ( واعني به أسلوب المناسيب المتباينة للشقة الواحـدة ) في مبناه الشهير " الوحـدة السكنية" " بمرسيليا " في جنـوب فرنســا (1947-1952)، وقبلهما ولأول مرة اختار المعمار السوفياتي غانزبورغ Gansbourg هذا الحـل كأساس تكويني لمبنى سكني متعدد الطوابق في " موسكو "( 1934- 1935 )، بيد أن المخطـط الفضائي لـ " كانجا نجونغا " يوحي ويمتاز بتوزيع حاذق للفراغات طبقاً لدراسة متأنية لتقاليد مرشحة عبر قرون الممارسات البنائية الهندية في هذا المجال، بالإضافة إلى اختيار المصمم تناسباً جميلاً لشكل المبنى وتوظيف أسلوب معين لتنظيم الفتحات فيه ومنحه مناخاً لونياً مميزاً، كل هذا وغيره من الأمور أكسبت مبنى ( كانجا نجونغا ) سمة الانتماء المكاني وأسست في الوقت عينه رؤية جديدة لإدراك حيوية العمارة التي يخلقها هذا المصمم.

في بعض المباني المصممة بتفاوت زمني كبير يظل " جارلس كوريا " أميناً لطروحاته المعمارية مضيفاً ومعدلاً وحاذقاً لأساسيات عناصر التكوين المعماري التي يتعامل بهما، ففي تصاميمه مثل كاستوربا سمادهي Dasturba Samakhi (62-1965) في " بونا " ( Pona) وبهارات بهافان ( Bharat Bhavan) 1981 و ( كالا اكاديمي ( (Kala Akademi) (1983) في ( غوا Goa ) وغير ذلك من التصاميم، تكتسب أهمية خاصة لديه نوعية توجيه مسارات الحركة والتوظيف الخلاق للأفقية المحببة والأليفة. ففي " كاستوربا سمادهي " - ( وهو متحف إلى زوجة غاندي تذكاراً لاقامتها الجبريـة في بونا " )، وتم تشييده في نفس موقع مراسيم حرق جثمانها، عندما توفيت سنة 1944)، يمسي هذين العنصرين مثابة " ضربة " التكوين المعماري وجوهره، مضيفـاً لهمـا في هذا المبنى قوة تعبيرية كبيرة نابعة من اختزالية هائلة تصل حد التقشف، لأدوات لغة التعبير الفني والذي يذكرنا بروحية اختزالية "ميس فان دير روّ " Mies Van der Roe المعروفة وفي الأخص معالجاتـه " النقية " في تصميم جناح ألمانيا بمعرض برشلونة الدولي سنة (1929).
في جميع أعمال " جارلس كوريا " هذا المعمار المهم لإقليم مومباي - احمد آباد بالهند - يوجد ثمة تناغم وانسجام بين نشاطه المهني ورؤياه الديمقراطية فقد ظل عازفاً عن دعوات كثيرة ومغرية لعمل تصاميم في اماكن اخرى، قانعاً ومكرساً حهده لإيجاد حلول ملائمة لمشاكل تخطيط مدينة " مومباي " الصاخبة والمزدحمة. ولقد استمر في هذا العمل المضني والمكلف لمدة عشر سنوات يعمل مجاناً. آملاً بأن تصاميمه سوف تقلل وتخفف من وطأة ظروف الحياة القاسية التي يعاني منها مواطني مدينة " مومباي " البسطاء.

إن عمارته - الذكية والمعاصرة، تثبت مرة أخرى بأن تقصي السمات الوطنية وتوظيفها في الممارسات التصميمية لا يمر، بل ولا يمكن له أن يمر - عبر طريق الاستنساخات النصية للأشكال التقليدية المعمارية أو في محاولة إضفاء القدسية لهذه الأشكال وتمجيدها، والتبجح بأنها - وحدها - ملائمة ومناسبة لكل العصور والأزمنة. فجارلس كوريا يطمح لأن تكون عمارته مرتهنة ببيئتها من خلال تشكيل تكويني يجتهد لأن نتلمس فيه حضور واع للمكان، واقتران هذا الحضور بسمات حداثوية في لغة التعبير الفني له. وبهذه الصيغة الإبداعية فان عمارته تظل تضيف شيئاً جديداً وطازجاً لمجرى العمارة العالمية مثرية بذلك الحضارة الإنسانية في هذا الخصوص.

مدرسة العمارة- الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون/ كوبنهاغن- الدانمرك

إعجاب واحد (1)

الموضوع ده مهم جدا جدا وشكرا عليه

مرسي على الطرح
موضوع يستحق الاطلاع والقراءة