الأساس الأهم للتصميم الهندسي لمباني مؤسسات خدمة المتقاعدين والمتقاعدات

بسم الله الرّحمن الرّحيم
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إخواني وأخواتي روّاد مُنتدى المُهندس؛
مقالٌ إرشاديّ قيّم؛ في مجالِ الهندسة المعماريّة.

الأساس الأهم للتصميم الهندسي لمباني مؤسسات خدمة المتقاعدين والمتقاعدات

  • هشام محمد سعيد قربان.

/

مقدمة:

[color=maganta]إن المبانيَ منذ القِدم - بتنوعها - ما هي إلا وسائل، وليست غايات في ذاتها، وهذه الوسائل موصلة إلى غايات وحاجات وُجدت لدى الإنسان قبل تشييد هذه المباني.

أظن - والله أجل وأعلم - أن الغايةَ الأولى التي دفعت الإنسان القديم لاختيار سكنى الكهوف - مثلًا - هي حاجته لمأوى يحميه من البرد والمطر والرياح وأخطار أخرى، وبعدها أدخل الإنسان على كهفه تعديلات، وجرَّبها لتلبية حاجات أخرى، مثل: الملكية الفردية، والخصوصية، والتهوية، والحماية من الأعداء، ووسائل للإنذار المبكر، والمرتبة الاجتماعية، وحاجيات الغذاء والشراب له ولأسرته، فجعل للكهف بابًا ومدخلًا ومنفذًا للتهوية، وقسَّم الكهف إلى أجزاء وظيفية، يلبي كل منها حاجة من حاجاته.[/color]

كما أدرك الإنسان أن بإمكانه بناءَ مأوًى يحاكي الكهف، باستعمال الحجارة أو مواد أخرى، مثل: أغصان الأشجار والطين.

أعتقد أن الحاجة التعبيرية والجمالية كانت - ولم تزل - من الحاجات الغريزية الدفينة لدى الإنسان، وكذلك من الحاجات الدافعة للتصميم ما يتعلق بمنظور الإنسان للحياة والموت، وتصوره لمرحلة ما بعد الموت؛ لذا أدخَل على منزله لمساتٍ جمالية مستوحاة من بيئته وديانته وخياله، ونقش على جدران منزله رسومًا يصف بها محيطه وأعداءه، وأهم أحداث حياته، وما يتوقعه بعد مماته.

لقد تحوَّر وتطور مفهوم الإنسان عن هذه المباني وتصميمها، ومواد البناء المستخدمة عبر الزمن مع تطور معارفه، ونمو رصيده التجريبي، واطلاعه على تجارِب الآخرين.

لعل مِن أهم الدروس والعلاقات التي تعلمها الإنسان منذ القدم إلى عصرنا هذا: أن الحاجة هي الأساس الأهم والمنطلق في تصميم المباني المختلفة، وكما نلحظ تفاوت مرتكز تعريف الإنسان للحاجة، فتارة يقدم الوظيفة على الحاجات الجمالية للمباني، وفي ظروف أخرى نجده يقدم الحاجة الجمالية الفنية على الحاجات الوظيفية، وأحيانًا يوازن بين الحاجة الوظيفية والبُعد الجمالي.

ليس هذا عرضًا مفصلًا لتاريخ العمارة وهندستها، ولكنه إطلالة سريعة وعجِلة تحاول تفسير ما تركِّز عليه كثير من مدارس التصميم الهندسي للمباني من ضرورة تأسيس التصميم الهندسي على فهمٍ دقيق ومفصل للاحتياجات الوظيفية والنفسية والجمالية لمستخدمي هذه المباني؛ أفرادًا وجماعات، ومنشآت ومجتمعات.

إن الناظرَ للمؤلفات الحديثة المتخصصة في تعليم التصميم الهندسي يجدها تذكر في مستهل خطوات التصميم الهندسي للمنشآت مرحلة تهتم بفهم الاحتياجات المبتغاة من المبنى المراد تصميمه، وتطلعات الجهة الممولة لتصميم البناء وبنائه وتشغيله، ويصطلح بعضُهم على تسميتها بالمعطيات للتصميم الهندسي، أو حاجات المستخدم، وتسمى باللغة الإنجليزية مرحلة ملخص التصميم: Design Brief

يعترف البعضُ من العاملين في مجال التصميم الهندسي أنهم في أحايينَ كثيرة لا يُولُون مرحلة فهم المعطيات والاحتياجات أهمية ووقتًا وجهدًا كافيًا، ويعتذر بعضهم بتدني وعي وقلة صبر وتعجل من يستخدمهم لعمل التصاميم، مما يضطرهم إلى تجهيز تصاميمَ هندسية جميلة المظهر، تقدم هدف إغراء وإرضاء العملاء ومجاراة عجلتهم على هدف أعلى وأسمى، هو إعطاء كل مرحلة من مراحل التصميم ما تستحقه من جهد وفكر ومنهجية، ونخص بالذكر هنا مرحلة فهم المعطيات واحتياجات وأهداف الجهة والفئات المستهدفة من المباني المراد تصميمها.

إن جمال التصميم - مع نسبيته - أمرٌ مطلوب ومهم؛ فهو يلبي حاجة من حاجات الفئات المستهدفة لأي مبنى أو منتج يراد تصميمه، ولكن الحاجة الجمالية لا تكفي وحدها في التصميم الهندسي؛ فلا بد من تناغم اللمسات الجمالية في التصميم مع حاجات أخرى، منها: ما هو وظيفي مباشر يسهل معرفته، ومنها ما يتصل بالطبيعة البشرية عمومًا، والذوق المجتمعي والاعتبارات الحضارية والدينية الخاصة، ولمعرفة هذا الصنف العريض من الحاجات يحتاج المصمم إلى بذل مزيد جهد في دراسة المجتمع والمحيط الذي يستهدفه التصميم، والذي يتوقع توافق التصميم مع ذوقه وحضارته ومنظوره الجمالي الخاص، فليس كل تصميم جميلٍ في ذاته مقبولًا عند الفئات المستهدفة.

يوضح الشكل الإيضاحي رقم 1 هذه الفكرة بطريقة مقنعة، ولكنها قد تكون صادمةً للبعض، وهذا يجعلنا نَدين لهم بالاعتذار سلفًا؛ فمقصدنا هنا الدلالة والإقناع.

نرى في هذا الشكل رقم 1 تصميمًا لما يسميه البعض بكرسي الحمام الإفرنجي، لعل مَن صمَّمه يصفه بالجمال من جهة جمال وصفاء مادة البلور التي صنع منها، كما يذكر المصمم أن هذا النوع من البلور مقاوم للكسر، ويحافظ على صفائه لمائة عام، والبلور مادة لا تلوث البيئة، ولكن النفس الإنسانية لها حاجات أخرى يصادمها هذا التصميم بقوة، مما يجعله مرفوضًا ومستقذَرًا؛ فالنفس كما تحتاج الجمال فهي تمقت القُبح، ويكمن في هذا الشعور حاجة للنفس غير مباشرة، هي حمايتها من القبح، فهي تستهجن - فطرةً - من النظر إلى البراز والبول، وتعدها من القاذورات؛ فجمال هذا التصميم للحمام الإفرنجي في ذاته لا يكفي، بل إن ما يدعي المصمم جماله يعُدُّه المستخدم لمثله قبحًا وقذارةً ومصادمة للذوق السليم؛ لذا فشِل هذا التصميم حين ركز على جوانب الحاجات الجمالية، وتغافَل عن الحاجات الذوقية الأعلى، والاعتبارات النفسية المرتبطة بالجمال والطُّهر والنظافة.

بناءً على هذه المقدمة، سيكون المدخل المفضَّل إلى المبحث الذي بين أيدينا هو: أهمية بل ضرورة أن تتقدم مرحلةُ فهم وتفصيل وتحديد احتياجات الإنسان المستهدف كلَّ المراحل الأخرى للتصميم الهندسي للمباني.

يُتبعُ؛ إن شاء اللهُ تعالى.

إعجاب واحد (1)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تابع للمقال:

الأساس الأهم للتصميم الهندسي لمباني مؤسسات خدمة المتقاعدين والمتقاعدات

  • هشام محمد سعيد قربان.

/

المرحلة الأولى للتصميم الهندسي لمباني جمعيات المتقاعدين:

إن فهمَ احتياجات المتقاعدين وتطلعاتهم ورؤية جمعياتهم وأهدافها هو المدخلُ لعملية التصميم الهندسي الذي يفضِّله ويتبناه هذا البحث، ولعل ما ذُكر في المقدمة يفسر هذا القرار؛ لذا سنؤجِّل مرحلة الرسم والتصميم على الورق إلى وقت متأخر على أيدي أهل الاختصاص والخبرة، ونقدم - بلا منافس - البحثَ المتصل بمرحلة فهم احتياجات الفئات المستهدفة ورُؤَاها وتطلعاتها.

الفئات المستهدفة من مباني جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني التي تخدُمُ المتقاعدين:

إن المتقاعدين والمتقاعدات هم مَن توقف عن العمل بعد عمله لمدة محددة نظامًا، أو بعد اشتراكهم في نظام التأمينات أو ما يناظره، وأصبحوا بهذا من مستحقي المخصصات والرواتب التقاعدية، ويأتون من شتى الوزارات الحكومية بين مدنيين وعسكريين، كما تأتي نسبة مهمة منهم من المنشآت والشركات الخاصة.

يبيِّن الشكل الإيضاحي رقم 2 التباين الشديد في بعض السِّمات التي تتعلق بالمتقاعدين، كما يبين بعض المشاعر والحاجات المرحلية المختصة بهم، وهذا التفاوت في سِمات وخصائص الفئات المستهدفة يشكل تحديًا واضحًا يواجه جمعيات ومؤسسات المتقاعدين مقارنة بغيرها من مؤسسات المجتمع المدني التي تستهدف فئةً محددة ومركزة، مثل مَن تجمعهم هواية ما أو قضية مشتركة.

[color=brown]الشكل الإيضاحي رقم 2: بعض السمات الخاصة بالمتقاعدين والمتقاعدات، فكرة وإعداد هشام محمد سعيد قربان، 2017.

أعمارهم، وأصنافهم فوق الخمسين - أعمار متأخرة، رجالًا ونساءً، متزوجين وعزَّابًا متوسط العمر المتوقع - 2016 (إحصاءات منظمة الصحة العالمية)74 سنة.

هل توجد إحصاءات مفصلة عن المتقاعدين؟ هنالك حاجة ماسة لقواعد بيانات وإحصاءات مفصلة.

المستوى التعليمي: متفاوت جدًّا، ويشمل كل المراحل التعليمية، مِن أدناها إلى أعلى الدرجات العلمية.

حالتهم الصحية: متفاوتة جدًّا؛ فبعضهم صحيح قادر على الحركة، وبعضهم يتؤكأ على عصا أو يستعمل كرسيًّا متحركًا للمشي، ويشكو كثيرٌ منهم من أمراض تتعلق بالشيخوخة وغيرها، كما يذكر المختصُّون إصابة نسبة منهم بعِلل نفسية، مثل: الكآبة، والقلق المرضي.

السمات النفسية: شعورٌ بالإنجاز والفخر، مرجعه طول الخدمة في أعمالهم، وهم في مرحلة عمرية متقدمة نسبيًّا، ولديهم خبرات وتجارِب حياتية غنية، كلٌّ في مجاله.

أثر الحالة الصحية على نفسيات المتقاعدين: إن لداءِ السكري وأمراض الضغط والقلب وصعوبة الحركة وغيرها مِن العلل آثارًا سلبية على الصحة النفسية.

مشاعر وحاجات خاصة: يشترك كثيرٌ مِن المتقاعدين في إحساسهم بنوع من الخِذلان الحكومي والجحود المجتمعي، متمثلًا في تدني وتجمد المخصصات المالية لفئات منهم، وعدم مواكبتها للتضخم والتغيرات الاقتصادية.[/color]

كما يُحسُّون ببعض عزلة عن المجتمع، ويرون أنهم مُقْصَوْنَ عن تيار الإنتاج والعطاء، ولا تستغل خبراتهم وطاقاتهم.

ويشكو كثيرٌ منهم من الفراغ والملَل، ولعل لهذا صلةً بقلة أصحاب الهوايات منهم، وموت الأقران، وانقراض مفهوم الأسرة الممتدة التي تجمع في منزل واحد الجَدَّ والأبناء وزوجاتهم والأحفاد.

ولعل كثيرًا منهم يَحِنُّ لماضيه وأيامه الخوالي، ويشتاق للقاء أصدقائهم القدامى ورفاق العمل والكفاح.

محاولة تحديد حاجات المتقاعدين والمتقاعدات التي يأملون أن يلبيها المبنى المصمم لهم:

الشكل الإيضاحي رقم 3: النظر للمتقاعد على كونه إنسانًا له جسم وعقل وقلب ومشاعر، يسهم في تحديد بعض حاجاته الفردية المرحلية التي ينبغي على المصمم أن يعرفها ويفهمها ويحاول مراعاتها…

ترجمة ومراعاة حاجات المتقاعدين والمتقاعدات في تصميم المباني المعدة لخدمتهم:

الشكل الإيضاحي رقم 4: الانتقال من الحاجات إلى التصميم، بحيث يترجم التصميم الحاجات ويلبيها تلبية واضحة؛ فمثلًا يلبي التصميم الحاجات الفكرية الخاصة بالمتقاعدين بتصميم وبناء مكتبات خاصة ذات محتوى خاص، وفصول دراسية ومصادر حديثة للتعلم الذاتي والصفي والتعلم عن بُعْد.

[color=dark pink]ما هي المشاعر التي يريد المتقاعدون والمتقاعدات الإحساس بها عند مشاهدتهم التصميم والمبنى؟

إن هنالك صلةً وثيقة بين التصميم الهندسي للمباني وما تثيره من مشاعر وأحاسيس لدى المستخدمين والناظرين، ولا يُغفِل هذه الصلة المصممون ذوو المسلك المنهجي والخبرة الأصيلة، ولعل هذا الجانب يشتهر ذِكره في سياق إنشاء المباني المشهورة؛ إذ يقوم المصممون - قبل التنفيذ - بتجهيز استفتاء للقبول النفسي، يجمع آراء فئات مختارة بخصوص المشاعر والأحاسيس التي يثيرها التصميم في أنفسهم ومدى ارتياحهم وقبولهم له، أو استهجانهم وعدم ارتياحهم له، وسنحاول فيما يلي الإجابة عن تساؤل هذا المبحث والتعليق على أهميته.[/color]

[color=blue]1- الحاجة لإحساس المتقاعد بالترحيب حين نظره لمبنى الجمعية أو المؤسسة، والمصمم الجيد يعرف كيف يضيف لمسات جمالية ووظيفية تلبي هذه الحاجة تلبيةً مناسبة.

2- الحاجة لإحساس المتقاعد بسهولة التواصل، وهذا مِن أهم الحاجات التي يلبيها المبنى، بحيث يجب أن يتصدر المبنى غرف واسعة ومضاءة ومطلة على الخارج مخصصة للتواصل الاجتماعي اليومي، وتصدُّر مجالس التواصل يعني أنها أول ما يقابله الزائر لمبنى الجمعية، وهذا يقتضي إبعاد المكاتب المخصصة للإدارة والسكرتارية عن واجهة المبنى، وهذا مهم جدًّا؛ لكي يوحي المبنى بالترحيب والتركيز على وظيفة التواصل الاجتماعي بأنواعها.

3- كذلك ينبغي أن يحرص المصمم على تخصيص أجزاء من المبنى للتواصل والتلاقي صوتًا وصورة عن بُعد مع الجمعيات الأخرى، أو مع المتقاعدين الذين تصعب حركتهم وتنقلهم.

4- حاجة المتقاعد للإحساس بالمساواة والتقدير والبُعد عن الطبقية والدرجات الوظيفية، فما أظن المتقاعد مثلًا يكون مسرورًا إذا كان أول ما يطالعه في المبنى هو غرفة الرئيس التي تحتل أفضل مكان في كل المبنى، وكذلك لا يحبذ من يفهم نفسية المتقاعد تخصيص التصميم لجزء مخصص للشخصيات المشهورة وعلية القوم، وما يشار إليهم باللغة الإنجليزية: VIP، وهذا منفِّر، ولا يلبي الحاجة للإحساس بالتقدير والمساواة وتركيز الجمعية ومبناها على المتقاعدين والمتقاعدات، وهم - حقيقة - الفئة المستهدفة من الجمعية ورؤيتها وأهدافها وخدماتها.[/color]

[color=purple]5- مِن الجميل أن يوفر تصميم المبنى أجزاءً وظيفية تلبي حاجة المتقاعد في أن يشارك في العمل في الجمعية؛ فجميلٌ أن يحويَ التصميم أجزاءً وظيفية تتخصص بالترحيب بالمتطوعين وتأهيلهم والإفادة منهم في داخل مبنى الجمعية، وأن يُحس المتقاعد بالانتماء حين يتماشى التصميم مع حاجاته وتطلعاته النفسية والجسمانية وغيرها.

6- لأن مبنى الجمعية يخدم الرجال والنساء، فينبغي - دينًا وأدبًا وذوقًا ووظيفة - أن يحويَ تصميم المبنى من خارجه وداخله لمسات جمالية ووظيفية تتناغم مع طبيعة وذوق واحتياجات الأنثى في سياق الدِّين والأعراف الصحيحة، فيضعها المصمم في التصميم على أساس التواصل مع عدد كبير من المتقاعدات وسماع آرائهن وحاجاتهن، وبهذا لن تشعر الأخوات المتقاعدات حين النظر إلى تصميم مبنى الجمعية بأنه ذُكوري النزعة والذوق، وأنه أغفل حاجات الإناث من المتقاعدين وأذواقهن ونظراتهن الأنثوية.

حاجات المتقاعدين في السياق المجتمعي، وكيف يلبيها تصميم مبنى يخدم المتقاعدين:

إن للمتقاعدين والمتقاعدات - ممثَّلين في جمعياتهم ومؤسساتهم المدنية - حاجات أخرى في السياق المجتمعي، ويتطلعون أن يُسهِم تصميم المبنى المراد إنشاؤه لهم في تحقيق رؤية وأهداف جمعيتهم وتلبية هذا النمط من حاجاتهم، ونذكر مثالًا على بعض منها:

1- الحاجة إلى الارتقاء بالمفهوم المجتمعي للتقاعد والمتقاعدين وحياتهم وقدراتهم، بحيث يتخلى المجتمعُ عن نظرته القاصرة والمخذِّلة والمهمِّشة للمتقاعدين، ويرتقي إلى منظورٍ أرقى للتقاعد، بوصفه بدايةً لحياة جديدة ونشطة للمتقاعدين، واستمرارًا لهم في مضمار العطاء والتميُّز.

2- الحاجة إلى الارتقاء بالمفهوم الحكومي للتقاعد والمتقاعدين وحياتهم وقدراتهم وحاجاتهم المشروعة، وبالتحديد يحاول المتقاعدون إقناعَ السلطات التشريعية بسنِّ قوانين مؤيدة لحاجاتهم وحقوقهم المشروعة المختلفة، فلعل المصمم يجعل المبنى بمثابة عنوان جاذب لقصة نجاح وعطاء وإصرار.

3- حاجة المتقاعد إلى أن يكون متواصلًا وغيرَ منعزل عن المجتمع.

4- حاجة المتقاعد إلى أن يواصل عطاءَه وخدمته ومشاركته لهموم مجتمعه وتطلعاته.

5- حاجة المتقاعد إلى أن يفيد مجتمعه بخبراته ومهاراته وتجارِبه الحياتية الغنية.

6- حاجة المتقاعد إلى أن يسهم التصميمُ في استدامة ما يقدم له من خدمات.[/color]

7- من الحاجات المأمول أن يسهم في تحقيقها مبنى الجمعية: ما يشار إليه بالتجسير والتواصل الحضاري بين الأجيال، وهذه حاجة ينضوي تحتها الكثير من التفاصيل والأفكار.

8- إن فكرة تشييد مبنى كبير ومركزي ليخدم المتقاعدين في محافظة كبيرة وواسعة تقتضي أن يراعيَ التصميم إيجاد وتنسيق وسائل نقل خاصة للمتقاعدين الذين تبعُدُ منازلهم عن موقع المبنى، فعلى المصمم أن يصمم مداخل مباشرة ومتعددة، تسهل من دخول عربات النقل المعدة للمتقاعدين والمتقاعدات أو عربات الخدمات، وفي هذا السياق يتوقع أن يراعي التصميم حاجة المتقاعدات إلى عربات تجلبهن من منازلهن، وحاجتهن إلى مواقع خاصة قريبة جدًّا من المبنى، ولكنها في ذات الوقت توفر بعض الخصوصية، وتراعي القِيم المجتمعية والدينية.

[color=green] كيف يلبِّي التصميم هذه الاحتياجات للمتقاعدين في السياق المجتمعي؟

هذا مبحثٌ مهم كسابقه الذي يتحدث عن ترجمة الحاجات النفسية الفردية في التصميم الهندسي، وسنحاول أن نذكر أمثلة على الطرق التي يلبي من خلالها التصميمُ الحاجات الأخرى في السياق المجتمعي،

وسنذكر مثالًا على كل من الحاجات المذكورة أعلاه متبعين نفس الترقيم:

1-2. يطلب مِن المصمم أن يودع في التصميم إشارات ورسائل قوية تُشعر الناظرين إلى المبنى بعد تنفيذه في السياق المجتمعي بأنه:

1- مركز مملوء بالطاقة، وينبض بالحيوية والنشاط والإبداع، وهذا أمرٌ يعرفه المصممون المهَرة.

2- مصدر للعطاء والمشاركة؛ فتصميم بعض المباني يجعلها توحي للناظر بأنها بمثابة لغز محيِّر، ومنغلقة على ذاتها، وتعيش في عالم خاص سري ومنعزل، وهذا ما لا يريد المتقاعد في تصميم مبناه الذي يريد من خلاله إرسال رسالة إلى المجتمع برغبته في العطاء والمشاركة والترحيب بالزوار، ويصادم إيصال هذه الرسالة أمور في التصميم، مثل: البوابات الأمنية الظاهرة، وعدم ظهور الأبواب والمداخل، والأسوار العالية والمباني ذات الزجاج غير الشفاف.

3- نقترح أن يحوي التصميم جوانب تراثية توحي بالأصالة، لكن الإغراق فيها قد يوحي للناظر إلى المبنى بالانشغال بالماضي، ونوع من الجمود، ولعل المخرج هو الجمع بين التراث وبعض الحداثة المنتقاة، بحيث يشعر الناظر بالأصالة ممزوجة بالرغبة في الانفتاح على الجديد.

4- ينبغي أن يكون التصميم لمبنى خدمة المتقاعدين موحيًا للمتقاعد والمجتمع بالترحيب والشفافية والرغبة في التواصل والاندماج في المجتمع، ولعل هذا يترجم في تخصيص جزء بارز وشفاف ومبهج من تصميم المبنى للتواصل المجتمعي، ولعل نمط التصميم المنفتح على الخارج والمضياف مهم لتلبية هذه الحاجة.

5- مِن المفيد جدًّا أن يحوي تصميم المبنى مركزًا يخصص لعرض خبرات المتقاعدين ومجالات عطائهم المجتمعي، سواء داخل المبنى أو خارجه.

6- مِن المهم جدًّا أن يحوي التصميم لمبنى جمعية المتقاعدين جزءًا جانبيًّا استثماريًّا، مهمته أن يدر دخلًا للجمعية، ويمول بعض خدماتها، ويضمن نسبة كبيرة من الاكتفاء الذاتي المؤدي لاستدامة الجمعية وخدماتها، ومن البدهي التوازن في هذا الجانب؛ لئلا يزاحم الهدف الاستثماري أهداف المبنى الأخرى، التي تنبثق من حاجات المتقاعدين، وتتصل بها اتصالًا جليًّا ووثيقًا.

7- المأمول أن يحوي التصميمُ أجزاءً تُسهم في التجسير الثقافي والتواصل بين الأجيال، فيحوي التصميم جزءًا ذا وظيفة خاصة، يستميل ويرحب بالزوار من الشباب والأطفال في سياق مشاريع التواصل الثقافي والحضاري بين الأجيال.
رؤية جمعيات ومؤسسات خدمة المتقاعدين وأهدافها ومراحلها وكيف تترجم في التصميم؟[/color]

[color=darkpink]لن نجيب على هذا السؤال المهم في هذا المبحث، والسبب هو عِلمنا بأن رؤية كثير من مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة في خدمة المتقاعدين وأهدافها ولوائحها لم تكتمل بلورتها بعدُ، ويقوم ثلة من الأفاضل بإعادة صياغتها بطرق فنية ومنهجية، لكن الإجابة على السؤال المخصص لهذا المبحث الجزئي ليست بالأمر الصعب، وأساس الإجابة مبثوث في ثنايا هذا المبحث المفصل تصريحًا وتلميحًا، وتتمحور في ضرورة أن يسبق التصميم فهم وتحديد حاجات الفئات المستهدفة، وهذا يشمل فهم رؤية وأهداف ومراحل النمو للجمعيات والمؤسسات التي تمثل وتخدم وتلبي حاجات الفئات المستهدفة بأنواعها، ويلي تحقق الفهم لدى مَن يلي مهمة التصميم الحاجات والرؤى والأهداف مرحلة أخرى: تكوين الفكرة الرئيسية، التي يتلوها التصميم الهندسي بتفاصيله، الذي يجعل أهم أهدافه تلبية حاجات الفئات المستهدفه ورُؤَاها وأهدافها وتطلعاتها ومراعاة مشاعرها وأحاسيسها.

خاتمة:

في ثنايا هذا البحث دعوة صادقة ورجاء ملحٌّ موجه إلى كافة الإخوة القائمين على جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني التي تهتم بخدمة المتقاعدين والمتقاعدات، وهدف هذه الدعوة هو إرشادهم وعونهم ومساندتهم في الارتقاء بجهودهم، وجوهر هذه الدعوة هو التذكير بأهمية التأسيس الصحيح للتصميم الهندسي للمباني المعدة لهذه الفئة الغالية، وضرورة أن يسبق ويتصدر العمل التصميمي الهندسي - على الإطلاق بلا منازع - فهم وتحديد حاجات الفئة المستهدفة على المستوى الفردي، وفي سياق الوعي المجتمعي، وفهم رؤية وأهداف ومراحل عمل مؤسسات المجتمع المدني التي تستهدف بأعمالها تلبية حاجات هذه الفئات المستهدفة من أعمالها، كما تقيس نجاحها وكفاءتها على أساس من مدى تناغمها وتلبيتها لهذه الحاجات.

وأختم بتقرير جزء من عنوان هذا البحث: إن حاجات الإنسان المستهدف - في حقيقتها - هي روح وحياة ونبض خطوط التصميم الهندسي للمباني المعدة له، ولعلنا لا نكون مبالغين إن قلنا بأن التصاميم الهندسية الناجحة للمباني والمنشآت المستهدفة لحاجات فئة معينة ليست - كما يظن البعض - مجرد خطوط ميتة وجامدة، ومنفصمة، نقشت على ورق، بل هي في حقيقتها كائنات مملوءة بالحياة، ولها نبض وإحساس وشعور، وتزداد هذه التصاميم الهندسية حياة وجمالًا وألَقًا وتفاعلًا بمقدار فهم مَن أعدها وفهمها هي وتفاعلها وتناغمها مع الحاجات الأصيلة للإنسان، وهو كما نعرف جميعًا - وننسى أحيانًا - المستهدف الأهم والأول والأخير.

والله أعلى وأعلم، وأفضل الصلاة والسلام على النبي محمد، وآله، وصحبه، ومَن اتبع هداه إلى يوم الدِّين…[/color]


:: للاطّلاع على المادّة صوتيًّا :

أو هُنـا.

انتهى بحمد اللهُ تعالى.

إن شاء الله تعالى يكُن ترحال جديد في رحاب الهندسة المعمارية.

إعجاب واحد (1)