ما بعد الحداثة في العمارة والشعر والموسيقى

ماذا لو سرق أحدهم باب الشقة وركض به نحو الصحراء؟ صاحبُ الباب يتعقّبُ السارقَ الذى حين يداهمُه التعبُ يقفْ. يشرعُ الباب فى الفراغ. يحكمُ إغلاقَه. ثم يختبئ وراءه. الرجلُ يطرقُ البابَ وينتظرُ أن يَفتحَ له السارق! لدينا الآن بابٌ فى فضاء، والبابُ فى فكرته الأصل هو فراغٌ مقصوصٌ من كتلة صماء هى الجدار. أن يصبح البابُ كتلةً فى فراغ بدلا من أن يكون فراغا فى كتلة، فذاك يعنى هدمًا لأحد الأسس المعمارية الكلاسيكية.

هل يصلح هذا المشهد الطريف أن يكون مدخلا لما بعد الحداثة فى العمارة؟ لنحاول أن نشارف هذا الفكر ونرصد ما له وما عليه.
بدأت إرهاصات ثقافة ما بعد الحداثة فى العالم الغربى كانعكاس مجتمعيّ من نقطة الوعى بمشكلات الحداثة وعدم مقدرتها على مسايرة الواقع بشروطه الجديدة اقتصادياً وسياسياً وسوسيولوجيا.

ومن ثم بدأ المعماريون الغربيون فى طرح خطابٍ جديد يتبنى مبادئَ تقوم أساساً على هدم القيم التى أورثتها الحداثة مثل الواحدية والنقاء والشعور بامتلاك اليقين وأحكام القيمة والتفضيل الإزاحيّ “الإقصاء، عكس التجاور” والسُّلطة الأبوية الإسكولائية بكل مشتملاتها، سيما أشكال السلطة التى أفرزها المجتمع الرأسمالى مثل العقل الأداتيّ واللوجوس القمعى وإنسان البُعد الواحد وغيرها من مفردات الخطاب الحداثى الشهير. فى هذا السياق تبلّور خطابٌ رافضٌ الكليّ مكرّسٌ النسبيّ واليوميّ مقابل الحتمى والتاريخي، متحررٌ من الزمن الخطيّ، وهادمٌ التمايزات بين الاجتماعيّ والثقافيّ، وداحضٌ ومهشّمٌ الحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية، كمحاولة لإقصاء السياسات وحيدة الجانب، وكمحاكاة لتشظّى المجتمع الراهن وتصدّعه، من أجل التعبير عن تفكك العلاقات السائدة فى الزمن الراهن. الخطاب ما بعد الحداثيّ هو طورٌ فى الثقافة الغربية، أعقب طور الحداثة العليا، يحاولُ مواكبةَ المجتمع ما-بعد-الصناعى التكنولوجيّ المعلوماتيّ ويتسم شرطُه بوفرةٍ زاخرة فى ثقافة الصور والأساليب غير المترابطة والحنين غير المنظّم للماضى ولو على نحو تلفيقى غير ممنهج فى محاولة منه لإذابة جُدُر التقليد الجامدة التى أنتهجتها الحداثة.

وكان أن أطلق معماريو الغرب، فى ستينيات القرن الماضي، صيحتهم التى نادت بتبنى مفاهيم جديدة، تعمل على معالجة أزمات الحداثة. تجلّت فى ركائز ثلاث: الأولى هى الوعى بالفردانية واستقلالية الذات عوضًا عن المنزع الجمعيّ القَبَليّ القديم، والثانية تكريس مفهوم سقوط السُّلطة بكل أنواعها، وبالتالى نقض مفهوم المركزية والواحدية انتصارا للتعددية والتنوعية، وهما معا الركيزة الثالثة.

فى أوائل الستينيات من القرن الماضي، نشر ليونارد ماير دراسته الشهيرة “نهاية عصر النهضة” التى قال فيها إن مفهوما جديدًا للجمال يولد آنئذ. هو المفهوم الذى يتنكّر لمبدأ السببية ويكرس فنًّا لا يهدف إلى غاية بعينها. وفى علم الجمال الجديد، حسب ماير، لم يعد الإنسان هو المعيار الذى تقاس به الأشياء والموجودات، لأنه ببساطة لم يعد مركز الكون، كما ذهب فلاسفة الحداثة، ولهذا فإن علينا أن نستعيد إحساسنا بالأشياء من خلال إعادة اكتشاف الواقع والإنصات الجيد للحياة. الاستمتاع بالصوت كما هو، واللون كما هو، والوجود والموجودات كما هي. وبشّر بولادة فنٍّ ديمقراطيٍّ جديد بوسعه أن يذيب الجدر الغليظة بين الثقافة الرفيعة High Culture وثقافة الجماهير Mass Culture، وبوسعه تفكيك الاستقلالية النخبوية للحداثة.

وهكذا، فإن كانت الحداثة قد واصلت طريقها نحو تعميق التمايز بين المجالات المختلفة فى الثقافة تمشيًا مع العمل الذى فرضه النظام الصناعى وتمايز دوائر المعرفة والأخلاق والجمال، بل والتأكيد على أن كلَّ مجالٍ هو مستقلٌ بشرعِ نفسه، محدِدٌ قوانينَه ومواضعاته الخاصتيْن، ومحكومٌ بنمط تقييمه معياريًّا، فإن ما بعد الحداثة تقوم، عكس كل ما سبق، على التماهى مع العصر ذى الطابع السِّلعيّ وتعمل على تحطيم الفاصل بين الجماليّ واليوميّ. تنتهج حركة “ما-بعد-الحداثة” إذًا نهجًا ينفى الحداثةَ ويعلن رفضه لكلِّ أسسها ومبادئها. فإذا كانت الحداثةُ إمبريالية ذات نزعة أبوية تمركزية تنتصر للكليّات، فإن “ما بعد الحداثة” تنادى بالتعدد والتشظى وسقوط السُّلطات وتنتصر للجزئيات. ولو كانت الحداثة تحترم المَتْن فإن ما بعد الحداثة تولى عين التبجيل للهامش.

إن المجتمع ما بعد الحداثى يتوجه، من ثم، نحو الحدِّ من العلائق السلطوية لصالح الزيادة فى الخيارات الشخصانية الخاصة ومنح الأولوية للتعددية والفردانية. والشاهد أن تلك الثقافة سوف تكرس ازدراءَ القيم الكبرى والقضايا العظمى و"الغائيات"، وستنتصر، فى المقابل، لليومى والبسيط والشعبوى والمهجور. وبديهيٌّ، فإن كل تلك المفاهيم تحمل بين ثناياها شقَّها الإيجابيّ المتّسق مع روح العصر والنازع نحو الديمقراطية والفطرة، كما تحمل شقَّها السلبى المتسم بالعدمية وسرعة الاستهلاك وسقوط القضايا والفوضى التى قد تشمل علاقات المجتمع والأسرة وسواها من سياقات التعامل البشريّ. وعن تجلى مثل هكذا ثقافة فى الشأن المعماريّ، سنجد أن عمارة ما بعد الحداثة يمكن أن تعدّ تطورًا لحركة الحداثة سوى إنها تناقض أفكارها فى مناحٍ كثيرة.

فالأبنية ما بعد الحداثية لا ترى ضيرًا مثلا فى مزج الأفكار المعمارية الجديدة مع الأشكال والرموز التقليدية الغابرة بهدف إحداث نوع من الصدمة والإدهاش، وربما المرح والتسلية، للرائي. وهو لون من الإيمان بأن الجمال قد يتولد من التنافر مثلما يتولد من الاتساق، ومن الفوضى مثلما يتولد من النظام. وتحضرنى هنا واقعة حدثت أثناء دراستى فى الصف الثانى من كلية الهندسة جامعة عين شمس بقسم العمارة. طلب الأستاذ منا تصميم “بوابة جهنم”! على أى نحو يمكن أن تكون تلك البوابة التى تفصلنا عن الجحيم؟ كيف نتصورها؟ وبعدما انتهينا من أداء الامتحان مرَّ الأستاذ بين طاولات الرسم وراح يشطب بقلمه الأسود الغليظ على كل التصميمات التى احترمت نظريات الجمال التقليدية واستسلمت للهارمونية السيميترية والاتزان والتناغم اللونيّ والكتليّ إلى آخر قائمة الفنيّات الجمالية التى تعب معلمونا فى حشو رؤوسنا بها فى الأعوام السابقة. كان ذلك الامتحان هو هدم لكل ما قد تعلمناه من أسس العمارة وكان ذلك الهدم هو مدخل أستاذنا الذكى لدرس ما بعد الحداثة.

والحال أن كل مجتمع يفرز شكله وقيمه الأنسب عبر احتياجاته وشروط وجوده وتحولاته الراهنة. ولأن مفكرى ما بعد الحداثة يكرسون بشدة مفهوم “النسبية” بمفهوميها العلمى “عند آينشتين” والوجودى كما عند الفلاسفة، فإن كل نظرة مقارنة ستكون حتما غير مقبولة باعتبارها تحمل بين طياتها حكم القيمة الذى لا يعترفون به أصلا كونه أحد رواسب عصرٍ يطمحون بقوة إلى التخلص منه. ومن ثم سوف يموت المثقف الرسول والشاعر النبى والزعيم الأوحد والطراز الوحيد أو الأفضل إلى آخر تلك التنميطات القيمية الصنمية التى تشى بامتلاك اليقين والثقة المطلقة فى العقل، وهى القيم التى تبنتها الحداثة وثقافة الثورات الصناعية التى تلت الحرب العالمية الأولى والثورة الصناعية. وسوف يتنامى اليقين “باللايقين” والإيمان “بلا عقلانية” العقل. هل استنفدت الحداثةُ شروطَ وجودها؟
ولكى نعمّق إدراكنا للثقافة ما بعد الحداثية لابد أن نقرأها فى ضوء مبررات ولادتها فى أرضها الأم بوصفها انعكاسًا لما حدث من تحولات اجتماعية واقتصادية ونفسية فى المجتمعات الغربية، وهو ما يكرّس خصوصية الظاهرة بحكم نشأتها فى الغرب تحديدًا.
ومن ثم لا ينبغى بالضرورة خضوع المجتمعات الأخرى التى لم تمر بتحولات مشابهة لهذا النمط من الفكر الجديد. يجب إذًا النظر إلى تلك الثقافة باعتبارها إفرازا طبيعيا لما مرَّ به الغرب من تناقضات وانقسامات فى الإيديولوجيات الحداثية، سيما فى علاقة المركز بالهامش وما نشأ عنها من قيم الاستغلال، وغياب المساواة وسيطرة النخبة، من ثم ستنشأ، كنوع من ردة الفعل، حركاتٌ ذات أصول سوسيولوجية تنادى بسقوط الأيديولوجيات والقضايا الكبرى ونهاية المعتقدات وتطالب بالخروج عن كل قياس معيارى وترسخ مبدأ الانتماء الفردى وربما تشيع أيضًا ملمح الثقافة السلعية الاستهلاكية ورفض مقولات وفرضيات عصر التنوير وخطاب الحداثة المتمثل فى الإيمان المطلق بالعقلانية كونية الطابع.

وربما كان السبب وراء ذلك النمط من الفكر هو الشعور بعدم كفاية نظريات التنوير الخاصة بالمعرفة والمنهجيات العقلانية التقليدية أو التجريبية.

إضافة إلى أن الحداثة تماهت فى مناحٍ كثيرة مع منطق السلطة ما أدى إلى تزايد الهوّة بين العالم الموضوعي، الذى خلقه العقل المنسجم مع قوانين الطبيعة، وبين عالم الذاتية الذى هو قبل كل شيء عالم الفردية أو عالم الدعوة إلى الحرية الشخصية.

وبين من تعالت أصواتُهم للنيْل منها ومن وتجليّاتها ذهب مارشال بيرمان مذهبًا موغلا فى انتقاد الحداثة فى كتابه “كل ما هو صلب يذوب فى الهواء” "All that is Solid Melts into Air"3 فيقول “إن الحداثة تحتوى على تناقضاتها الداخلية. فأنماط الفكر الحداثى قد تتحول إلى سلفية جامدة ويصيبها التقادم، لأن أنماطاً من الحداثة قد تحتجب لأجيال طويلة دون أن تخلفها أنماطٌ بديلة. والرغبة المعاصرة فى قيام مدينة لها متاعبها على أن تتميز بالحيوية والحياة تُعدُّ رغبةً فى نكأ الجراح القديمة الجديدة من جديد، إنها الرغبة فى الحياة الحرة الطليقة ومحاولة لاستمداد الحيوية من صراعاتنا الداخلية مهما كانت النتيجة، وإذا كنا تعلمنا فى نمط واحد من الحداثة كيف نبنى الهالات حول المساحات وحول رؤوسنا، فقد نتعلم من نمط آخر منها “لعله أقدم زمناً” كيف نفقد هالاتنا ونجد أنفسنا من جديد”. إن ما بعد الحداثة إذًا هى باختصار الثقافة التى تجتهد فى البحث عن السلطة فى كل شيء كى تهدمها، وتسعى حثيثا إلى عولمة العالم معماريًا حتى تتماهى الملامحُ الإنشائية على اختلاف جذورها حضاريًّا وجغرافيًّا وتاريخيًّا.

وكمقابل لانهيار “الحكايا الكبرى” كما يسميها جان فرانسوا ليوتار يعلى الكثيرون من رواد ما بعد الحداثة من الشأن الجمالى The Aesthetic بوصفه بديلا معاصرًا للعقلانية التى أنتجها كلٌّ من ديكارت وكانط منادين بما أسموه “مبدأ الرغبة” Principle of Desire، معللين ذلك بأن العقلانية فشلت ومن ثم ينبغى العودة إلى اليقين الأول وهو الجسد أو الفرد. وفى مثل هكذا ثقافة سوف يحل “الجزء” محل “الكل”، و"الفرد" محل “الجمع”، و “المختلف” محل “الشبيه”، و"التشظي" محل “الكليّانية”، و"الشعبيّ" محل “النبيل”.
أيٌّ من حقول المعرفة دشّن الخطاب ما بعد الحداثي؟ هل منشأ الخطاب ما بعد الحداثى أدبيٌّ أم معماريّ؟ يرى المفكر المصرى الأمريكى إيهاب حسن، أحد منظّرى ما بعد الحداثة، أن الإسبانى فيدريكو دى أونيس يعتبر أول من استخدم هذا المصطلح وذلك فى كتابه “أنثولوجيا الشعر الإسبانى والإسباني/الأميركي” الصادر عام 1934، ثم التقطه دولى فيتس فى كتابه “أنثولوجيا الشعر الأميركى اللاتينى المعاصر” الصادر عام 1942، وكان كلاهما يشير إلى رد فعل ثانوى على الحداثة قائم فى داخلها، وأنه مصطلح نشأ فى حقل النقد الأدبي، ثم وظف فى حقول المعرفة الأخرى كالاجتماع والسياسة والتحليل النفسى والألسنية والاقتصاد والدين والعمارة.

وثمة اجتهادات فردية تُرجع منشأه إلى أبعد من ذلك على خط التاريخ وأقدم. لكن معظم الباحثين والمفكرين يقّرون أن العمارة هى أكثر، وأول، حقول المعرفة التى طرحت فكرة التجديد وسؤال ما-بعد-الحداثة والدعوة إلى تحولات فى الحياة الاجتماعية كى تكون بديلا عن الثورة السياسية. وهذا هو الأدق برأينا الخاص اتكاءً على التحليل المقارن الظاهرى والعميق لتجلى تحوّل الخطاب فى مجمل حقول المعارف والفن عبر الحقبة الزمنية موضوع البحث. ففى عام 1961 صدر كتاب لجين جاكوبز بعنوان “موت المدن الأمريكية الكبرى وحياتها” الذى تنبأ بنزعة حضرية جديدة وشيكة التحقق مؤكدًا أن المسطحات الحضرية التى أقامتها الحداثة كانت نقيّة ومنظمة وناجحة من الناحية المادية، أما اجتماعيًّا وروحانيًّا وإنسانيًّا فهى أقرب إلى الموات، وأن زحام وصخب القرن التاسع عشر هى التى أبقت على الحياة الحضرية المعاصرة. وهذا ما دعا أحد أهم نقاد ما بعد الحداثة وهو فريدريك جيمسون لأن يقول إنْ ليس هناك حقل من الحقول المعرفية شَعُرَ فيه رجالُه بـموت الحداثة وأعلنوا عن ذلك بصورة حادة، مثلما حدث فى فن العمارة، وليس هناك حقل آخر نوقشت فيه الأطروحات النظرية والعملية وقُدّمت على هيئة برنامج مثلما جرى فى هذا الحقل.

روبرت فنتورى يطلق صيحة ما بعد الحداثة فى العمارة

فى عام 1965 نشر الناقد المعماريّ روبرت فينتورى Robert Venturi مقالة بعنوان “مبررات عمارة البوب” فى مجلة “الفن والعمارة”، قدم خلالها مبررات وحتمية ولادة مفهوم جديد للعمارة عوضًا عن المفاهيم الجامدة البليدة المضجرة التى تبنتها الحداثة. ويعد فينتورى أحد أكبر المواهب المعمارية المعاصرة واشتهر بمحاولاته “إنقاذ العمارة الحديثة من نفسها” عبر كتاباته الجريئة التنظيرية فى العمارة وعبر تصميماته المعمارية أيضًا. فهو ، شأن كل الحاصلين على جائزة “برتزكر” المعمارية الرفيعة، كاتبٌ ومعلّمٌ وفنانٌ وفيلسوف فضلا عن كونه معماريًّا.

فى كتابه “التعقيد والتناقض فى العمارة” Complexity and Contradiction in Architecture الذى نشره متحف الفن الحديث عام 1966، حاول فينتورى أن يناقش ما أسماه “حيوية الفوضى” فى البيئة قائلا :“نحن نطالب بعمارة تُعلى الثراءَ “بمعنى الوفرة والكثرة والزخم فى التفاصيل” والالتباسَ والغموضَ فوق الوحدةِ والنقاء، وتقدّم التناقضَ والتعقيدَ على التناغم والبساطة”. وناهضَ الحداثة المبسّطة عن طريق تقديم حلول معمارية مركبة استقاها من تاريخ العمارة. ليس فقط من التاريخ الذى يخص البيئة التى تنتمى إليها البناية رهن التصميم، بل من التاريخ المعماريّ الكونيّ كله. أراد أن تحاكى العمارةُ تعقّدَ المدينة الراهنة وصخبها، أن تكون جزءًا من سياقها الراهن بكل فوضاه وضجيجه. قال فى تصديره الكتاب: "كمعماريّ أحاول ألا أكونَ محكومًا بالعادة، بل بالوعى العميق بالماضى والسَّلف، وأنا كفنان، أكتب بصدق عما أنشده من العمارة: التعقيد والتناقض. ثم ينقضُّ بشدة على القول المأثور الأشهر الذى أطلقه “ميز فان دير رو” وهو “القليلُ يعنى الكثير” Less is More فيثبت فى أطروحته أن الكثيرَ مستحيلٌ أن يتأتى من القليل، وانتقد البساطة الزائدة التى وسمت أعمال بعض المعماريين الحداثيين الكلاسيكيين مثل أدولف لوس و ميز فان ديرّو قائلا إن البساطة المفرطة تلك ليست سوى نقيصة تكوينية وإن ذلك القليلَ مضجرٌ جدا وبالتالى فان أسلوبهما النقى هذا أفرز طرزا أغفلت كثيرا من مقومات إثراء الناتج المعماري. ثم يتكلم عن الممارسات المعمارية المعاصرة خلال ثقافة ما بعد الحداثة، حيث بشّر بميلاد مفاهيم نظرية جديدة، تخالف وتعارض المناهج المعمارية السابقة وتطبيقاتها البنائية القارّة.

الكتاب يحلل أكاديميًّا مجموعة كبيرة من النماذج المعمارية المعاصرة تنهل من الفعل المعمارى الماضويّ والحديث على السواء وفيه يسخر من محدودية التعاطى مع مفاهيم العمارة السائدة بين أوساط المصممين المعماريين الراهنين مثل الثنائيات أو التقابلات الثنائية التقليدية، والفرز الأحاديّ ونقاء الانتماء الأسلوبي؛ مناديًا بحتمية التعاطى مع أطروحات تصميمية جديدة تعتمد التجاور لا الإزاحة، ورمز بذلك إلى توسّل حرف “و” العطف، عوضًا عن “أو” المفاضلة. فالفنُّ فى نظره ليس خيارًا بين أبيض أو أسود، وإنما ينهل من لا محدودية التوافيق والتباديل بينهما لنتحصّل على عدد لا متناهٍ من الرماديات.

ويخلُص فنتورى إلى أن كل المنجز المعماريّ السابق يتبنى منطلقَ المفاضلة الأحاديَّ النقيّ ومن ثم فإن معظم تلك المعالجات والحلول التصميمية اتسمت بقدر كبير من الانقطاع والغربة والانفصال عن مشاكل الحياة وتفاصيلها المعقدة والمتناقضة، وذهب إلى أنه عن طريق توسّل شيء من التعقيد والتناقض ربما نحل إشكالية العمارة منبّتة الصلة بالواقع المعاش! فى هذا الكتاب يحاول “فنتوري” أن يختبر بعضاً من جوانب النشاط المعماري، مثل سِمتيْ : “التعقيد والتناقض” فى الممارسة التصميمية، ويصل إلى قناعات مناقضة لما وصل إليه الحداثيون الذين كرسوا البساطة ووحدة الطراز نهجًا للتصاميم المعمارية.

العمارة الراهنة ما-بعد-الحداثية

يصف تشارلز جينكس العمارة ما-بعد-الحداثية بأنها تميز نفسها عن العمارة الحداثية “الرفيعة” من خلال التأكيد على أولويات الشعبوية، وذاك يعنى أنه بينما تسعى الحداثة المعمارية الكلاسيكية الأنيقة فى أعمال “لو كوربوازييه” وفرانك لود رايت" مثلا إلى تمييز نفسها عن بقية نسيج المدينة الأرضى الذى تظهر ضمنه، فإن بنايات ما بعد الحداثة تنشغل، على العكس من ذلك، بإدراج نفسها ضمن النسيج الآخذ فى التغير الذى تشكّل عناصرَه شرائطُ الأحزمة التجارية والفنادق الصغيرة ومطاعم الوجبات السريعة المنتشرة على الطرقات السريعة فى المدن الأمريكية.

والتشظي، كسِمة أساس فى الفكر ما بعد الحداثي، إن كان يعنى فى عالم الصناعة والاقتصاد أن تتم الآن صناعة السيارة المرسيدس، ألمانية المنشأ، فى 24 بلدا، حيث يصنع فى كل بلد جزء من أجزاء السيارة حسب توافر اليد العاملة والموارد: الهياكل والإطارات والشرائح الإلكترونية والزجاج الخ، وما نجده كذلك فى الاقتصاد الراهن القائم على الشركات متعددة الجنسيات ذات أصول أموال تدعمها دول عديدة، فربما كان انعكاس ذلك التشظى فى الأدب هو سقوط الجدر الفاصلة بين الأجناس الأدبية والفنية وهو ما أُطلق عليه الكتابة عبر النوعية.
إذ تجد القصيدة الجديدة وقد كرّست تيمات السرد وتقنيات المسرح والسينما والتشكيل إلى آخر ألوان الفنون البصرية والسمعية السيمانطيقية المتباينة. كما تجلى ذلك المفهوم ذاته فى العمارة حيث تجد مبنىً واحدا وقد مزج طُرزا معمارية كثيرة من حضارات قديمة متباينة، فرعونية وبيزنطية وقوطية وحضرمية وبابليه الخ بحيث يتم توليفها على نحو يعد انعكاساً لمفاهيم العولمة الحديثة فى البناء وتماهى الطرز. فيما يمكن أن يعد تنافرًا جماليًا ومن جانب آخر قد يرى المرء فيه قيمة جمالية تنبع من استاطيقا التنافر.

والمثال الأجلى الذى يستخدمه المعماريون عادة لشرح مفهوم ما بعد الحداثة هو مبنى مؤسسة AT&T “مبنى سونى الآن”، الذى صممه المهندس فيليب جونسون فى مدينة نيويورك. هى البناية الأكثر جدلا فى النطاق المعماريّ كونها تجمع ما لا يجتمع معماريًّا.

فهى ناطحة سحاب مبنية على الطراز الدوليّ الحديث الوظيفيّ المتقشف الخالى من الزخارف والحليّات التى لا ضرورة لها، فيما تعلو قمتَها قصورةٌ مثلثة الشكل على الطراز القديم المميز للقرن السابع عشر الذى يتسّمُ بوفرة الزخارف والحلىّ والتفاصيل الشكلانية التى لا تخدم وظيفة بعينها. وهو ما جعل المعماريين يطلقون عليها سخريةً “الشبندال8 الإنجليزي”.

تعد هذه البناية الآن أحد أهم النماذج فى العمارة ما بعد الحداثية كونها مزجت بين الكلاسيكية الجديدة عند كارل سكنكل وبين الحداثة عند ميز فان دير رو. ومن ثم أصبح طبيعيًّا أن نجد بنايةً شديدة الحداثية محمولة على أعمدة بيزنطية أو رومانية أو كورنثية موغلة فى القدم، كما نجد فى جامعة اوبرلينمن تصميم فنتوري.

والفارق أن مادة بناء العمود لم تعد الرخام أو الحجر كما كان فى القديم، وإن ظل هذا جائزًا، بل غدت معدنا لامعًا من stainless steel أو من الزجاج أو الأزمالدوا مثلا. ومثلما نجد فى متحف اللوفر ذى الواجهة الكلاسيكية إذ أصر الرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران “الشغوف بالحضارة الفرعونية القديمة” أن يزيَّن مدخلُه بهرم فرعونى من الزجاج الشفاف وجعل امتداده تحت الأرض هرمًا كذلك لكن مقلوب. وكلنا يلحظ واجهات الماحل التجارية وقد جمعت بين تجريدية وتقشف واجهة الزجاج وقد علتها كتلةٌ حجرية متشققة كأنها انتزعت من كهف قديم أو طلل معبد موغل فى الزمن.

وماذا لو وجدنا بوابةً هى محض إطار خشبى حوله فراغ كى يحدد مدخل حديقة أو مطعم مفتوح؟ الفكرة هنا هى قلبٌ لمفهوم الكتلة والفراغ. لأن الباب فراغُ فى كتلة، لكن أن يتحول الباب إلى “كتلة” فى “فراغ”، فذاك مفهوم جديد لفكرة الموجب والسالب. وهو نتاج الخطاب الجديد فى المعمار. وكما سقطت الجدر الفاصلة بين الطرز المختلفة، سقطت أيضًا الجدر الفاصلة بين ألوان الفنون البصرية مثل التشكيل والنحت والعمارة. فنجد مطعما على شكل “بطة” كبيرة هو فى الأساس قطعة نحتية أكثر منه مبنى تجاري. مع هذا يظل المبنى الأشهر الدال على فكرة النحت هو أوبرا سيدني" أحد أجمل وأهم ما بُنى خلال القرن الماضي. صممها المعمارى الدنماركى جون أوتزون Jorn Utzon. وحسب استفتاء أجرته جريدة التايمز أجمع 70% من القراء على أن أنها الأعجوبة رقم واحد فى العالم الحديث. وهى بالفعل قطعة نحتية بديعة على شكل قوقعة تتفتح فى مدينة سيدنى الأسترالية.

وعن التجلى المعمارى لمفهوم سقوط سلطة الإنسان وهيمنته على الوجود إذ لم يعد هو محور الحياة ومركزها، نجد المعماريين وقد كرسوا ذلك المفهوم عن طريق عمل واجهات زجاجية مرآوية عاكسة مهشمّة ضخمة، بحيث يقف الرائى عند مدخل البناية فيرى انعكاس العالم والعمارات المقابلة للمبنى ويرى صورته كذلك فيجد نفسه ضئيلا موغلا فى التقزّم والتشظى وسط العالم والضجيج المنعكس أمامه. والمثال على تلك الفكرة بناية الرينيسانس فى ولاية متشجن بأمريكا.

انعكس التنوع الحاصل فى المجالات الثقافية على الناتج المعمارى وعلى اهتمام المعماريين، وساهم كلُّ فنٍّ فى إثراء الفنون الأخرى كون الحواجز بينها سقطت، فاستوعب الخطابُ المعماريّ المعاصر اتجاهاتٍ مختلفةً نحتية وتشكيلية تنهل من طرز عديدة. ورأى بعض النقاد المعماريين أن التعددية والصخب ما هما إلا تعبير عن تعددية وصخب الأحداث التى تمور داخل جدران البناية وفيما حولها. أو هى لون من الديمقراطية وحرية التعبير تسمح لكل معمارى أن يطرح أفكاره الخاصة دون الالتزام بقالب يحدّه أو نموذج يتمثّله، وهو أمر لم يكن بمقدور المعماريين أن يفعلوه فى السابق. وربما من المناسب هنا أن نذكر قولة شيخ المعماريين المهندس المصرى حسن فتحي: إذا أنتَ أقحمتَ على المشهد الطبيعى أيَّ شيء لا يحترم البيئة الطبيعية حوله، فسوف تُعاقَب إما بواسطة الطبيعة أو بواسطة الإنسان.

العمارة وريادتها للفنون الأخرى

العمارة هى الفن الأول للإنسان. فالبشريّ الأول فطِن إلى ضرورة بناء مأوىً يمنحه الخصوصية ويحجبُ عنه عوامل الطبيعة غير الرحيمة. فكانت بيوته الأولى من سعاف النخيل وجذوع الشجر، وظلّت عينُ البشريّ- الباحثة عن الجمال أبدًا- تتمرد وترفض الانصياع لضرورة “الوظيفة” وحدها بعيدًا عن مكامن “الجمال”، فراح يطوّر الشكل والمضمون سويًا ويوازى فيما بينهما حتى غدا المأوى البدائيُّ قصرًا ومعبدًا وهرمًا وقلعةً وناطحةَ سحاب إلخ، عبر سلاسل من المدارس المعمارية، كلاسيكية وحداثية وما بعد-حداثية.

ويمكن أن نلمسَ كيف أن العمارة لم تسبق الفنون الأخرى طوال الوقت فحسب، بل كانت منطلقا لتحديث مدارس تلك الفنون، لو راجعنا، مثالا لا حصرًا، بعض المدارس القديمة فى العمارة مثل طُرُز عصر الباروك تلك المدرسة المعمارية المغرقة فى الزخارف والحليّات التى تخدم الشكل ولا تؤثر فى المضمون كثيرا. وسنجد ترجمةً لذلك فى الأدب والشعر متمثلةً فى إثقال النصِّ بالمحسنات البديعية واللغوية والجناسات والسجع وغيرها من الزخارف اللغوية. ونرى هذا جليًّا فى الأدب المملوكى المثقل بسيماء البلاغة التى تشبه فى العمارة تلك التماثيل والنقوش والحليات الجبسية التى تزدان بها واجهات الكنائس وبنايات الطراز الباروكي.

وأما الطراز “القوطيّ” Gothic style الرفيع الرشيق الذى بُنيت عليه كنيسة نوتردام فى باريس، وتعدُّ واحدةً من أجمل المنجزات المعمارية التى صنعها الإنسان، فقد انعكس فى الأدب باستخدام اللغة الرفيعة والعناية بحسن التراكيب والصياغات الأنيقة.
أما علاقة الشعر تحديدًا بالعمارة فهو الأجلى وهو ما سنعرض له لاحقًا بشيء من التفصيل فى هذا البحث. فكلاهما خضع لمنظومة الفكر الإنسانى وخطابه بحسب الحقبة التاريخية المحايثة. فلو تأملنا شعر الحقبة العباسية، لوجدنا فيه الكثير من الملامح المحاكية لبنيوية العمارة. وبعد سقوط الدولة العباسية وحلول الحقبة الإيلخانية سنرصد ظهور تيمات البديع والسجع والتلاعب الشكلانى المجانى باللغة ما أثقل كاهل الشعر والخطاب الإبداعى بعامة، وهو ذات ما نرصده فى عمارة ذاك العصر حيث الشكلانية الفجة والمثقلات فاقدة الدلالة والارتباك التصميمى النام عن انحطاط الذائقة. وتصاعَد ذلك فى العمارة الصَفَوية الفارسية التى أفرطت فى تطعيم المبانى بعناصر معمارية ذات أشكال مبهرة خيلائية لا تعكس واقعَ الإنشاء وحقيقته. ووردت المبالغات فى المداخل والقباب والعقود ما أخلَّ باتزان النسب الجمالية، فكأن إقحام نفيس الخامات البنائية سيعوض هزال الفكرة المعمارية.

وفى فجر القرن العشرين سنجد أن التيارات الفكرية كالبنيوية والتفكيكية والحداثة وما بعدها قد وجدت طريقها إلى نسغ كل من الشعر والعمارة على السواء بذات الدلالات تقريبًا، ومن ثم تداخلت الطرائق المتبعة فى النقد الأدبى والشعرى مع النقد المعمارى الذى بدأ يتطور فى العقود الماضية. وعلى ذلك فإن المتتبع للمدارس المعمارية سيجد انعكاساتها على كل ألوان الفنون الأخرى فى ذات الحقب الزمنية. وكان توالى المدارس المعمارية عبر تحولات مفصليّة جذرية فى التاريخ يعود إلى الإنسان دومًا باعتباره مرجعَها الأول.

الإنسان: أيديولوجياه وطبيعة حياته الآنيّة وفكرته الراهنة وتطوّر مفهومه عن الحياة والوجود، وكذلك المؤثرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية والبيئية فى كل مرحلة. الكونُ الذى بدأ بسيطًا متمحورًا حول الوظيفة والمضمون، ثم راح يرتقى تدريجيًّا باحثًا عن الشكل والقيمة الجمالية التى تعزز الوظيفة، إلى أن أسره الشكل والزخرف وتملكه تماما كما فى بعض طرز العمارة الكلاسيكية التى تلتها "الكلاسيكية الحديثة مثل “الأرابيزانس” Arabisance فى أواسط القرن الـ19 فى بعض المناطق العربية والتى تميزت بالعقلانية المحلية وقد شاعت ضمن حركات معمارية تروم الإحياء من خلال ثنايا التراث العمائرى العربي. كانت العمارةُ إذًا هى الرائدةَ فى تدشين المدارس الفنيّة الجديدة تبعا لروح العصر، ومن بعدها تأخذ بقية الفنون الخطوة. ولذلك ليس غريبا أن تكون العمارة هى فاتحة اتجاه ما-بعد-الحداثة Postmodernism، ثم دخلتها الفنون الأخرى بعدها.

ذاك الاتجاه الذى تبنى انعكاس مفردات الحياة الراهنة على العمارة والأدب من تشظى العالم وسقوط السلطات والقوالب وتحقيق الموسيقا الشعرية عن طريق التنافر والإيقاع عوضا عن التناغم الظاهر القولبيّ التفعيليّ القديم المنتظم، إلى آخر تلك المعانى الجديدة التى تبنتها ثقافة ما بعد الحداثة والتى رصدنا تجلياتها الواضحة فى العمارة ومن بعدها فى بقية الفنون. والسبب فى هذا واضح لو نظرنا إلى حقيقة أن العمارة هى فن الإنسان الأول وشاغله الأساس والمرآة العاكسة لطبيعة العصر ومفرداته.

ولعل هذا كان وراء تسميتها “أم الفنون”. وهى كنية ليست مجانية. ليس فقط لكونها أولى الفنون زمانيًّا وجذرَها الرئيس، وليس وحسب لأنها أسبق الفنون إلى التطور، وليس فقط لأنها النشاطُ الإنسانيّ الذى يكتبُ تاريخ الفن ويحدد طابعه عبر كل حقبة زمانية، بل كذلك لأن الفنون جميعَها تلتقى فى باحتها ثم تتشعّب فى روافدَ عديدةٍ لتصبَّ فى مصبات أخرى. لندلل على ذلك يكفى أن نعرف كيف يحلّل المعماريُّ المصمّمُ واجهةَ بنايةٍ ما، إذ سنجده يتراسل مع كل معاجم الفنون الأخرى فى تقريره. فالواجهة المعمارية حين تقرأها تستخلص منها نسبًا تشكيلية، وترصد إيقاعها الموسيقى من خلال حساب الكتلة والفراغ، ومناطق الظلال والنور، ويمكنك تعيين “الانتظام-التنافر-الثماثل-السيمتري- والمونوتوني- الإيقاع- التناغم اللونى والكتليّ- التجريد- الاتزان- الحركة والسكون- الظلال والنور- الاستاتيكية والديناميكية- البنية-الهيكل- التماسك الترهل- التباين- الهيراركي- التراتب… وغيرها”، لاحظ كمَّ المصطلحات التشكيلية/النحتية/الموسيقية/الشعرية التى استخدمناها فى التعامل مع واجهة معمارية.

العلاقة بين العمارة والشعر والموسيقى

وتجدر هنا الإشارة إلى العلاقة الوثقى بين العمارة والشعر. بسبب تجاورهما فى عائلة الفن التى تم تحديدُها تقليديًّا بعناصر ستة هي: الموسيقى والنحت والرسم والمسرح بالإضافة إلى العمارة والشعر. تلك العائلة التى اعتبر فلاسفةُ الإغريق العمارةَ تاجَها، كما أكدوا أن نزعاتٍ فطريةً فى النفس البشرية تدفع الإنسان إلى ممارسة تلك الفنون توقًا إلى تحصيل ما أسموه “اللذة الروحانية”. ثم انقسمت هذه العائلة بحسب المنظّرين إلى كتلتيْن ظَرْفيتيْن: إحداهما مكانية والأخرى زمانية. فتفرقت العمارة والرسم والنحت إلى جهة حيث يجمع بين ثلاثتها ظرفية المكان، بمعنى النِسَب والمسافات والأبعاد الخ. فى حين ذهب الشعر والموسيقى والمسرح إلى جهة أخري، حيث الظرفية الزمانية من إيقاع وتوقيعات الخ.

سوى أن روابطَ وصلاتٍٍ وتداخلاتٍ قويةً ظلّت تجمع بين الفريقين. وتعود أخبار المقاربات الأولى بين العمارة والشعر عند الإغريق عندما حاولوا تحليل الموسيقى والعمارة بدلالات الرياضيات التى جمعت بين إيقاعات الأولي، ونِسَب الثانية.

من هنا نجد أن ما-بعد-الحداثة هو مفهوم لم يتبلور بعد وغير قابل للتعريف الدقيق، ربما لأن فى التعريف صرامةً هو يرفضها منهجًا، ولأن بلورة المفهوم تفترض إنجازًا سابقًا وهو ما سعى لتحطيمه ضمنًا. إنه مفهوم يراهن التاريخُ والتحول الاجتماعى والاقتصادى على بلورته ونصوعه وجلائه أو حتى إخفاقه وإخفاته ومواته. وكما كان أدب الحداثة نبوءةً لتحوّلٍ جديد، سيجتاز أدب وثقافة ما بعد الحداثة زمنه ليبشر بولادة تاريخ جديد.