نفسي أشوفك يا ابني ( لمن كان له قلب )

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إخوتي وأخواتي المهندسين والمهندسات؛
مقال نافع - بحوله تعالى - من عيون الحكمة، وأقوال الحكماء.

:books: نفسي أشوفك يا ابني :books:

  • أ. محمد ربيع رمضان عبدالجواد.

<img src="/uploads/default/original/2X/2/2d8650abbde66b81a294f1f9d64b78aec80ed16c.png" width=“360” height="144

/

/

نفسي أشوفك يا ابني

كنت في طريقي عائدًا من مدرسة الصم والبكم التي أعمل بها بالقاهرة، مسرعًا كعادتي لألحق بأمرٍ ما، فوقفت أنتظر الأتوبيس في تذمُّر، ولم أكفَّ عن الحركة، وأنا ألعن الأتوبيس لتأخُّره، رغم أنه لم يكن متأخرًا، كانت عيناي معلقتين بالاتجاه الآخر، تتعجَّلان مقدمه، وأنا أتحرَّك في توترٍ بالغ، وفجأة رأيتها على الرصيف المقابل لي، لماذا تعلَّقت عيناي بها؟!

امرأة تناهز الستين من عمرها، بجسدها النحيل، وظهرها المقوَّس، ووجهها المتغضن، وردائها الأسود المترب، ولا أدري لماذا ذكَّرتْني هذه المرأة بأمي؟

أيكون ذلك الشبه بينهما؟! إن كل الأمهات في الريف تتشابه، ليس في الشكل والملبس فقط، بل في الروح النقية البسيطة والنفس الصافية.

كانت تقف في مواجهتي ويدُها تشير إلى العربات المسرعة بعشوائية، ثم تُهَرْول في عجز خلف السيارات لتقول لهم شيئًا، ثم تعود إلى مكانها لتعاود الكرَّة من جديد، وأحسستُ بالشفقة نحوها وأنا أتخيل أمي في موضعها، ما الذي دفع بتلك المرأة البسيطة إلى أن تأتي إلى هنا وحدها؟ وكيف ترَكها أبناؤها الجاحدون وحيدةً في تلك المدينة القاسية؟ كانت تتمتم بكلمات قليلة، وأصرَرْتُ على معرفة ما تقول، فركزت لأقرأ حركة الشفاه النحيلة، فألتقط منها كلمات قليلة: “أنت فين، يا ابني”؟! .

وتساءلتُ: أين ذلك الابن؟!
أيكون مجندًا في الجيش وأتت لزيارته، أو مريضًا في أحد المستشفيات، أو مظلومًا في أحد السجون أو…؟
يعمَلُ هنا وشغل عنها، فحملها الشوق إليه، فأتت إلى مصرَ كما يسميها البسطاء من سكان الريف، لتراه، وتذكَّرتُ أمي وهي تودِّعني بدموعها يوم سفري لاستلام العمل، وأنا أقسم لها أنني سأبقي شهرًا أو اثنين، ثم أطلب نقلي إلى بلدتي، وأعود إليها، وتضاءلت أمام نفسي وأنا أتذكَّرُ أنه قد مضى عامان على وجودي بالقاهرة، وتباعدت الزياراتُ شيئًا فشيئًا حتى أصبحتُ أكتفي بالمكالَمات الهاتفية وزيارتها في الأعياد والمناسبات، وكلما سألَتْني عن النقل أُخبِرها أنني أسعى له!.

فتنظر إليَّ أمي غير مصدقة وهي تقول: • “كده، طيب يا ابني ربنا معاك”.
وتضاءلتُ أكثرَ أمام نفسي وأنا أتابع العجوز تحجل خلف سيارة لتصرخ على سائقها بصوت مخنوق وكأنما توشك على البكاء:
• موقف، موقف يا بني.
فينطلق السائق قبل أن تبلغه، في حين تعود هي إلى مكانها على الرصيف في يأس.

•واعتصر الألمُ قلبي وأنا أتذكر آخِرَ محادثة هاتفية لي مع أمي وصوتها يرن في أذني وقد بات أقربَ ما يكون لصوت تلك المرأة: • “نفسي أشوفك يا ابني”.
وأقبل الأتوبيس من بعيد، واستعد الواقفون حولي في تحفُّز، بينما نازعتني نفسي بين أن أتركها وأمضي في طريقي، أو أساعدها لتصل إلى ولدِها، وتوقف الأتوبيس أمامي ليحجبها عني فهمَمْتُ أن أتركها وأدخل بين الحشود نحو الباب الضيق، غير أن مشهد أمي وهي تودعني بدموعها وعيناها تقول:
• “اوعى تنساني يا بني”…

•أعادني إلى نفسي، فشعرت بها تبصق عليَّ من الداخل، وبينما تحرَّك الأتوبيس يبتلع العشرات كنت أنا أعبر الطريق نحو العجوز التي كانت ما تزال تهرول خلف إحدى السيارات وهي تردد عبارتها الوحيدة:
• “موقف، موقف يا بني”.
فتوقف لها السائق، وحين بلغت موضعها كانت السيارة قد ابتلعتها؛ لتمضي بها إلى حيث لا أدري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تم بحمد الله تعالى.
المصدر/ شبكة الألوكة.

إعجاب واحد (1)