التفاعل بين عالم القيم والعمل الهندسي

التفاعل بين عالم القيم والعمل الهندسي

د. سيد دسوقي

[COLOR=#CC0000][FONT=‘Traditional Arabic’][COLOR=black][FONT=Tahoma] يظن بعض الناس أن العمل الهندسي عمل مجرد لا علاقة له بعالم القيم السائد في المجتمع، إن عالم القيم يدخل في إنشاء العمل الهندسي نفسه، وهو الذي يضبطه ويوجهه إلى مقاصد حياتية مرتبطة بعالم القيم، وفي هذه الصفحات أحاول أن أحلل هذه العلاقة التشابكية بين عالم القيم وبين عالم العمل الهندسي، والله الموفق.
العمل الهندسي وعناصره:
1- دوافع أخلاقية لإعمار الأرض.
2- فكرة تقنية (اختراعات/حيل).
3- نموذج أولي.
4- اختبارات معملية ومجالية.
5- دراسات تحليلية ونمذجة رياضية وطبيعية.
6- تصميمات لنموذج متقدم.
7- اختبارات نهائية معملية ومجالية.
8- دراسات اقتصادية (الحاجة الحياتية/التكلفة/التمويل/الربح).
9- دراسات بيئية وحضارية.
10- تصنيع كمي للنموذج المتقدم.
11- اختبارات نهائية.
12- تسويق.
يتفاعل عالم القيم مع العمل الهندسي في ثلاثة من هذه العناصر: 1، 8، 9.
أ) دوافع أخلاقية لإعمار الأرض:
يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
أي أن من مقاصد الدين أن يحاول الناس أن يذللوا الأرض حتى يستطيعوا المشي فيها لإنتاج متطلبات حياتهم.
والمشي في المناكب يعني السعي الدءوب لحل كل ما يعترض طريق الإنسان من صعوبات من أجل الحصول على كل متطلبات حياته، بل إن العمل على تذليل الأرض من أجل السعي فيها لتوفير الاحتياجات ليس للبشر فحسب، ولكن لكل الخلق من حولنا. والله يقول عن النحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68، 69]، أي أننا ينبغي أن نذلل الأرض لنا ولمن حولنا من الخلائق.
ويوحي لي لفظ “المناكب” بالعسر الذي سيلقاه الإنسان في سعيه في الحياة، وكما يقول القرآن: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا} [الشرح: 6]، أي أن اليسر ينشأ مع العسر خطوة بخطوة، وهذه حقيقة تحكم سعي الإنسان في الحياة، كما تحكم كل الظواهر الطبيعية.
قرأت قصيدة وأنا طالب في كلية الهندسة في أواخر الخمسينيات، يقول الشاعر في بيت منها:
رددي في الأسر يسرى إن بعد العسر يسرًا
وقلت في نفسي: لماذا استخدم الشاعر “بعد” ولم يستخدم “مع” كما في القرآن؟
وفي تلك الفترة كنا نأخذ محاضرات في الديناميكا الهوائية وكنا نراجع منشأ قوة “الرفع” التي تحمل الطائرة إلى أعلى، وعلمنا حينئذ أن منشأ قوة الرفع هي قوة الإعاقة للطائرة، ولولا الإعاقة لما كان هناك رفع، فالرفع ينشأ من التفاف الهواء حول الجناح، والالتفاف ينشأ من لزوجة الهواء، ولزوجة الهواء هي أصل الإعاقة، وصدق الله العظيم: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا} [الشرح: 6].
والمشي في مناكب الأرض وما يلقاه الإنسان فيه من العسر له ثلاثة عناصر حتى يتحقق معه اليسر:
1. العطاء: كل امرئ يعطي من سعته.
2. التقوى: تحدد أهداف العطاء وآدابه.
3. التصديق بالحسنى: الجدوى الربانية من العطاء.
والله يقول: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7].
ب) دراسات اقتصادية (الحاجة الحياتية - التكلفة - التمويل – الربح):
فهل المنتج يمثل حاجة حقيقية تسهم في إطعام الناس من الجوع وأمنهم من الخوف، أم هو منتج عبثي لا قيمة له في منظومة الجوع والخوف؟
ثم ما هي أولويات المجتمع؟ إنتاج منتجات ترفيهية أو تكميلية أم منتجات الإطعام من الجوع والأمن من الخوف؟
في غياب إستراتيجية تجيب عن هذا السؤال يندفع الناس إلى منتجات عبثية أو تكميلية، سواء من أنفسهم أو بغواية قوى خارجية، وينفقون فيها أموالهم ثم تكون وبالا عليهم.
وإجابة السؤال: ماذا ننتج؟ ينبغي أن يشارك فيها علماء من كافة التخصصات يحملون في صدورهم قيم المجتمع واضحة جلية، فإذا قرروا فيما ينفقون نظروا إلى التكلفة وإلى التمويل وإلى العائد من هذا كله على الناس وحياتهم، وقبل هذا كله ينبغي أن يتفرغ هؤلاء النفر من العلماء لوضع خريطة تنموية شاملة يتضح منها طيف التنمية المرجو، هذا الطيف الذي حددناه في بعض بحوثنا التنموية على أنه يشمل ثلاثة عناصر: تنمية البقاء، تنمية النماء، تنمية السبق.
وكل عنصر ينتج عالم أشيائه ويحتاج إلى مهارات معينة، ويخاطب أسواقا معينة، فتنمية البقاء تهتم بالصناعات الصغيرة المتوطنة في الأمة، والتي عاشت بها قرونا متتالية.
وتنمية البقاء في بلادنا مستهدفة دائما من الغزو التنموي الذي يحاول أن يطمس على طرائقنا في الحياة لصالح عالم أشيائه الذي لا نجيد صنعه، ويحولنا إلى عبيد لأنماطه هو في الطعام والشراب والسكن واللباس وفي كل مناحي الحياة؛ ولذلك فاستخدام الهندسة في تطوير تنمية البقاء والحفاظ عليها من الأهداف الأساسية لصانع القرار التنموي.
وتنمية النماء هي المختصة بعالم الأشياء الذي أفرزته العلوم المعاصرة، وأصبح ملكا للبشرية ويدخل في ذلك كل ما أضافه العلم منذ ثورة البخار حتى ثورة الاتصالات.
وتنمية السبق هي خصوصية كل أمة فيما عندها من إمكانيات طبيعية أو تاريخية تستطيع استخدامها في سبق مع أمم أخرى؛ فهناك أمم تملك رياحا جارية، وهناك أمم تملك شمسا مشرقة، وهناك أمم تملك مياها عذبة، وهناك أمم تملك ثروة من الآثار، والعلم والتكنولوجيا يستطيع أن يحول هذه الهبات إلى منتجات تنافسية وإلى قوة تنموية.
والسؤال التالي: من الذي ينفق على فكرة تقنية حتى تصبح منتجا تنمويا يستخدمه الناس في حياتهم ويلبي حاجة لهم فيها؟ من الذي سيدفع المال اللازم للبحوث النظرية والتجريبية؟
إن عالم الهندسة المعاصر يقوم على الإنفاق المكثف في عمليات البحث والتطوير، ويحتاج إلى احتشاد العلماء وتراكم خبراتهم، والقرآن ينبهنا إلى أنواع من المنافقين والتنمويين الذين يعرفون أن الاحتشاد والتراكم ضروري لأي نهضة تنموية ولا يريدون لهذا الاحتشاد وهذا التراكم أن يحدثا، ولذلك فإنهم {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} [المنافقون: 7].
ومن هم هؤلاء الذين عند رسول الله إلا العلماء والفقهاء والمجاهدون من كل نوع وفي كل مجال!
ونعود إلى السؤال: من الذي ينفق على البحوث والتطوير؟
نحن نظن أن هناك ثلاث جهات ينبغي أن تنسق فيما بينها للإنفاق على البحوث والتطوير، وهي: الدولة، المال المغامر، الأوقاف.
دور الدولة ينبغي أن يركز على وضع إستراتيجية واضحة للنشاط البحثي والتطويري، وكذلك لإنشاء مجموعة من المراكز الأساسية التي قد لا يقبل عليها المال المغامر أو لا تفقهها الأمة فتتوقف عليها.
ونحن ندرك أن قاطرة الصناعات الدفاعية يمكن أن تأخذ معها كثيرا من الصناعات الحياتية الأخرى، ولذلك فاهتمام الدولة بوضع إستراتيجية للأمن القومي وما يستدعيه من صناعات متقدمة ودعوة الناس إليها ليشاركوا فيها هو من أهم واجبات الدولة الحديثة، حينئذ يندفع أصحاب المال المغامر ليلتقطوا من أهداف هذه الإستراتيجية ما يوافق هواهم وإمكانياتهم، هادفين إلى الربح المشروع في غاية قومية مطلوبة، وكذلك يوقف أهل الخير من أموالهم ما يحققون به هدفا من أهداف هذه الإستراتيجية المطلوبة.
ج) دراسات بيئية وحضارية:
إن المارد التكنولوجي إذا انطلق بلا ضوابط قيمية يمكن أن يكون وبالا على الإنسانية ومدمرا للحضارة ومهلكا للحرث والنسل.
وفي كتابه الرائع (The Entropy) يصل المدى بالأستاذ “جيرمي رفكن” إلى القول: إن التكنولوجيا المعاصرة ستصل بالإنسان إلى تدمير نفسه وتدمير الكون من حوله، ويدعو بكل قوة إلى العودة إلى ما قبل الثورة الصناعية الأولى (ثورة البخار)، وهو في رأيي تشاؤم مفرط وكفر تام بالتكنولوجيا المعاصرة، وما أدت إليه من ظهور الفساد في البر والبحر بطريقة لا يمكن تصحيحها في كثير من الأحيان.
ونحن هنا سنتحدث عن الضوابط التي يمكن أن تصحح المسار؛ لعل الله يقبل التوبة من عباده الذين أسرفوا على أنفسهم وعلى بيئتهم.
الضابط الأول: بلوغ الشدة العلمية والتقنية قبل استخراج الكنوز المخفية:
أودع الله في جوف الأرض كنوزا هائلة من المعادن والطاقة، وللأسف فقد وقعت هذه الكنوز في أيدينا قبل أن نبلغ أشدنا علما وقيما وحضارة في استخراجها والتعامل معها، فأسرفنا وبذرنا وأفسدنا هواءنا وأرضنا بطريقة لا يمكن الخروج منها، أو بتعبير هندسي زدنا دالة الاضمحلال الحراري (Entropy) زيادة هائلة كما كتب من قبل الأستاذ “جيرمي رفكن” في كتابه الذي أشرنا إليه في هذه الدراسة.
ويحكي لنا القرآن الكريم قصة موسى -عليه السلام- مع العبد الصالح في رحلتهما الحضارية التعليمية التي رافق فيها نبي الله موسى هذا العبد الصالح ليعلمه مما علمه الله رشدا، نعم ثمرة هذه الرحلة هي تعليم “الرشد” في التعامل في كل شيء، {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرا} [الكهف: 77].
فموسى لم يفهم لماذا يقيم العبد الصالح هذا الجدار الذي يكاد أن ينقض خدمة لقوم بخلاء أبوا أن يضيفوهما، فقال له العبد الصالح: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرا} [الكهف: 82].
فكأن شرط استخراج الكنوز المخفية هو بلوغ الشدة في كل شيء، سواء كانت شدة علمية وكونية أو كانت شدة في الوعي بما نفعله بأنفسنا وبالكون من حولنا.
لا أدري إن كانت هناك فسحة من توبة لهذه الإنسانية أن تضبط إيقاعها مع الكنوز المخفية أم لا؟ وأحيانا أدعو الله أن لا نعثر على كنوز جديدة قبل أن نبلغ أشدنا، فنستخرجها بخلق وعلم قبل أن نبددها في الفضاء، فنفسد الفضاء ونفسد أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الضابط الثاني: القدرة على التناغم مع الكون المحيط من خلال ثلاثية (الفهم، والحب والتسخير):
اقرأ معي هذه الآيات من سورة النمل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْما وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 15 - 19].
ومنطق الطير هو طريقة عيشة في الحياة وماذا يفعل فيها.
والنمل في قصة سليمان لم يأت إلى وادي الناس، وإنما ذهب الناس إلى واديه، أي إلى بيئته التي يسكن فيها، وسليمان علم منطق هذه المخلوقات ويتعامل معها بحرص شديد؛ فهو أولا فهم منطقها ويتفاعل معه بحب {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا مِّن قَوْلِهَا}، ثم يتركها لما سخرها الله من عمل في حياتها.
لا أنسى مقالا قرأته في إحدى المجلات الأمريكية لعالم أمريكي يقول فيه: “إنه لولا النمل لما كان على ظهر الأرض حياة؛ ذلك أنه لولاه لتعطن سطح الأرض ولما صلح للزراعة والحياة فوقه”.
فانظر -رحمك الله- إلى هذا الاختراع المجرم الذي اسمه “المبيدات الحشرية” وانظر كيف نستخدمها بسفه وجهل فنهلك كل هذه الحشرات التي نجهل نفعها لنا وأنها جزء من حياتنا، إن هلكت فإنا هالكون.
وفي سورة النمل أيضا قصة سليمان مع الهدهد، ذلك الطائر الجميل الذكي والذي أرسله في مهمة استخباراتية إلى مملكة سبأ، وانظر -رحمك الله- إلى التقرير الرائع الذي وصف فيه أحوال هذه المملكة الاقتصادية والسياسية والعقدية والسلوكية في بضعة سطور، وأنا أتحدى أن يضاهيه أعظم ضباط المخابرات في العالم.
الضابط الثالث: القصد والاقتصاد:
والقصد هو أن نجعل لمشينا في الحياة قصدا، أي لا يكون مشينا في الحياة عبثيا. فمن الذي يحدد “القصد” من مشينا في الأرض؟ لقد أمرنا ربنا في القرآن فقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19]، أي اجعل لمشيك قصدا، ثم قال في آية أخرى: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]، أي أن الله وحده هو الذي يحدد لنا القصد في الحياة.
ولذلك أدعو علماء الأمة أن يبحثوا في القرآن عن علم المقاصد التنموية والتي ينبغي أن تكون لنا هاديا في سيرنا التنموي، فمثلا يقول القرآن: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128 - 130].
فهذه الآية تحدد ثلاثة مقاصد جاهلية ينبغي ألا يقع فيها المخطط التنموي المؤمن، وهي: الأبنية الضخمة التي لا طائل من ورائها ولا فائدة منها، أو الأبنية التي يظنون أنها ستخلدهم في الكون دون عائد على الناس بالخيرات، أو الأبنية التنموية التي تؤدي إلى البطش الجبار بالناس والبيئة.
إنك تنظر أحيانا إلى حركة المدينة العربية المعاصرة فتجد ضجيجا ومسافات هائلة تقطع في اليوم الواحد ما قطعه أجدادنا في عمرهم كله، ووقودا يستنفد وجهدا يبذل وبيئة تفسد، ثم لا تجد في نهاية الأمر عائدا كريما يعود على الناس من هذه الحركة العبثية آناء الليل وأطراف النهار، لا شيء يعود على الجسد، ولا شيء يعود على الروح، والمنظر في جملته يعبر عنه القرآن في آيات رائعة: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا} [العاديات: 1 - 5].
النفوس اللاهثة في عدوها غير القاصد لربها سوف تقدح نارا تظنها نور الصباح الواعد، فتندفع إلى هذا الصباح في غارة هوجاء فتثير من حولها سحابة من الرمال لا تكاد ترى منها الطريق، ثم تجد نفسها في النهاية في نقطة الصفر حيث بدأت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن كثيرًا من عقلاء الغرب بدءوا يتنبهون إلى هذه العبثية التنموية وبدءوا يكتبون، ولكن من الذي يسمع ومن الذي يفيق ؟! (انظر كتاب: الصغير هو الأجمل لمؤلفه أرنست شوماخر وغيره من هذه الكتب).
هذا عن القصد فماذا عن الاقتصاد؟ كيف نقتصد في الطاقة عندما نخطط أماكن العمل بعيدا عن أماكن السكن؟ وكيف نحافظ على الطاقة ونحن نشجع الناس على اقتناء السيارات ونهمل النقل العام؟ وكيف نقتصد في الطاقة ونحن نخترع كل يوم أجهزة ترفيه لا تسمن ولا تغني من جوع؟! هل نحن في حاجة إلى هراشة كهربائية؟! هل نحن في حاجة إلى سواك كهربائي؟! لماذا لا نتحمل تقلبات الجو المعقولة ولا نسرف في المكيفات الهوائية؟! وماذا عن ثورة الاتصالات لخدمة “الرغي” الشخصي والجماعي وتزيين سلع الأغنياء لمص دماء الفقراء؟!
الحقيقة أن التخطيط التنموي ومنه التخطيط التكنولوجي لا بد أن يلتزم بالاقتصاد في منتجاته التي ينبغي أن تحافظ على الطاقة فلا تبدد، وعلى الجهد الإنساني فلا يضيع، متأسين بقول الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَّحْسُورا} [الإسراء: 29].
الضابط الرابع: الوظيفية والجمال في كل تصميم نصممه وفي كل منتج ننتجه:
يجب أن نحرص على الوظيفية والجمال، هذا ما تعلمناه من القرآن: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 - 8].
والقبح والجمال لهما ساحات واسعة، ولكن معظم البشر يتفقون على أجزاء كبيرة من هذه المساحة، ويتبقى بعد ذلك جزء شخصي.
وقد يكون المجتمع قد أفسد الذوق العام عند الأشخاص نتيجة التنافس على بيع السلع، حينئذ ينبغي على الإصلاحيين في الأمة أن يعملوا على إعادة الذوق العام وتبني قيم الأمة الجمالية.
الضابط الخامس: تعظيم قيمة العمل الجماعي في تصميم أي عمل تقني:
ينبغي أن نبتعد عن الميكنة إن استطعنا الاستغناء عنها بتقسيم العمل على أكبر قدر من الناس يتشاركون فيه. إننا لا نريد تكنولوجيا يشترك في إبداعها نفر قليلون وتقوم فيها الآلة بكل شيء عوضًا عن الإنسان، فذلك إهدار للطاقة وإهمال للإنسان.
إن الإنسان في حاجة إلى العمل حتى لو كان هذا العمل يدويًّا بسيطًا، وإحلال الآلة بديلا عن الإنسان لا بد أن يكون بقدر، وإلا فإننا لا ندري العواقب النفسية والاجتماعية التي قد تحيط بالمجتمع.
الضابط السادس: الضابط البيئي:
للأسف، إن الحضارة الغربية لم تضع هذا الضابط في حساباتها وهي تتمدد تكنولوجيا، وإنهم ليكادون يفسدون الأرض وما عليها وما تحتها، ونحن معشر الشعوب الإسلامية التي لم تسهم كثيرا في إفساد البيئة علينا أن نأخذ حذرنا، فإفساد البيئة ليس جريمة دنيوية فحسب، ولكنه أيضا جريمة أخلاقية سيحاسبنا الله عليها حسابًا عسيرًا.
انظر إلى مخلفاتنا الصناعية ومخلفاتنا الذرية، وانظر إلى طرائقنا في البناء والكساء وإلى نوعية الطعام الذي نأكله، حياة صناعية مفسدة للبيئة من حولنا.
كنا ونحن صغار ننفر كل فترة لننزع الحشائش من جانب الترع التي تمر بحقولنا وكنا نفعل ذلك بأيدينا، حتى جاء اليوم الذي نرش فيه مبيدات على جانبي النهر لنقتل هذه الحشائش، ولن أنسى يوما رأيت فيه الأسماك نافقة في النهر بسبب هذه المبيدات، وفقدت في تلك الأيام كلبين للحراسة ظنا هذا السمك صالحًا للأكل فسبحا في النهر وأكلا منه فماتا.
وما فعله الكلبان جهلا نفعله نحن بأنفسنا كل يوم حتى أصبحنا لا ندري ماذا نأكل وماذا نشرب وبماذا نتداوى؟!
المهم أن ضابط البيئة ينبغي أن يكون حاضرًا دائمًا في عملنا الهندسي ولا نغفله أبدًا.
الضابط السابع: ملاءمة التكنولوجيا لإمكانات المجتمع:
كل تكنولوجيا تحتاج إلى مناخ معين من التعليم والتدريب والخامات والبيئة الأساسية والأسواق.
والأمن القومي يستدعي أن نملك هذه الإمكانات أو نتأكد من القدرة على الحصول عليها من السوق العالمي.
إن هناك تكنولوجيات عالمية محظورة على العالم الثالث، وهناك جداول معروفة لهذه العناصر التقنية؛ ولذلك فالمخطط التكنولوجي ينبغي أن يختار تكنولوجيا يملك عناصرها ويعمل في نفس الوقت على الامتلاك المستقبلي للتكنولوجيا التي لا يملك عناصرها من طريق عمليات البحوث والتطوير.

[RIGHT]

أستاذ هندسة الطيران بجامعة القاهرة

[/font][/color][/font][/color]

الاستاذ احمد الديب يتحدث فى مقالته حدبث جيد ولكن الحضارات تقوم على حركة دؤبة ونحن نتكلم اكثر مما نعمل والمثقفين حصروااعمالهم واوقاتهم فى اثبات انهم متقفين وهذا شغلهم الشاغل حتى الحكام شغلهم الشاغل ان يفروا من ان يكونوا محكومين وتركوا العمل من اجل ان يكونون حضارات عاملة على تحقيق الرخاء للامة وتركنا العمل لغيرنا وليتنا نتعلم بل نهاجم من يعمل للحضارات