الطواعين والأوبئة في التاريخ الإسلامي

إحصائية فيروس كرونا 7/4/2020

تذكرة بدعاء النبي ﷺ عند الوباء : «اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيء الأسقام» .

شكلَّت الأوبئة تهديدًا كبيرًا للحضارات الإسلامية في العصور المختلفة، بل حصدت أرواح الناس حصدًا، تاركةً وراءها ما يمكن وصفه بكوارث ديموغرافية كبرى تركت بدورها آثارًا سلبية بالغة القسوة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والعمراني، ومن ثم السياسي في نهاية المطاف، فكانت موجات متتالية من أوبئة الطاعون قد ضربت منذ العصر البيزنطي الشرق الأوسط وصولًا إلى شمال أفريقيا، ومن ثم أوروبا حتى أنه لا يكاد يخلو قرن من القرون من هذه الأوبئة ومن أثارها المدمرة لأوجه الحياة.

الطواعين والأوبئة في التاريخ الإسلامي
احتل الطاعون مكانة مرموقة في كتب التراث الإسلامي، حيث حفلت بالحديث عنه مؤلفات الحديث والفقه والفلسفة، فضلًا عن مجال الاختصاص وهو الطب، ولو تصفحنا كتب السنة لوجدنا بعض المحدثين كالبخاري ومسلم والترمذي وغيرهما قد أفردوا في كتبهم أبوابًا تضم ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في شأن الطاعون ومنها ما جاء في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"، ومنها ما جاء في البخاري أيضًا عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: “سَأَلْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ، فأخْبَرَنِي أنَّه عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ، وأنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، ليسَ مِن أحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أنَّه لا يُصِيبُهُ إلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلَّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ شَهِيدٍ”.
أما من حيث الطواعين التي ضربت بلاد الأمة الإسلامية فهي كثيرة أشهرها طاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب عام 17و 18ه= 638 و639م، وطاعون الكوفة في عام 49ه= 669م، وطاعون البصرة عام، 64ه= 683م، وطاعون ابن الزبير في عام 69ه= 688م، والطاعون العام سنة 80ه= 699م، وطاعون الفتيات في عام 87ه= 705م، وطاعون البصرة عام 119ه= 737م، وطاعون مسلم بن قتيبة الذي ضرب العراق والشام في عام 131ه= 748م، وغير ذلك من الأوبئة والطواعين التي لا يُحصى عددها.

تعريفات الطواعين والأوبئة
تعددت تعريفات الطاعون: فيقول الجوهري الطاعون: وزنه فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله، ووضعوه دالًا على الموت العام كالوباء، ويقال: طعن فهو مطعون وطعين: إذا أصابه الطاعون، وكذا إذا أصابه الطعن بالرمح.
وفسر الأطباء المعاصرون الطاعون بأنه ميكروب ينتقل بواسطة البراغيث والحشرات إلى الفئران المنزلية ومنها إلى الإنسان كما قد ينتقل الميكروب بواسطة جرذان البواخر التي تعيش في مخازن السفن.
وفي التعريفات الطبية المعاصرة أيضًا: جاء في الموسوعة البريطانية أن “الطاعون مصطلح كان يطلق قديمًا على أي مرض واسع الانتشار، مسببًا الموت الجماعي، لكنه الآن محصور في حُمّى معدية من نوع خاص تسببه البكتيريا العصوية التي ينقلها برغوث الفئران”.
ومن حيث الفرق في الاستخدام الدلالي بين الطاعون والوباء: يقول أبو الوليد الباجي نقلًا عن ابن حجر:" الطاعون مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات بخلاف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحدًا بخلاف بقية الأوقات فتكون الأمراض مختلفة".
وقال إبراهيم الحربي: الوباء هو الطاعون والمرض العام.
وقال ابن الأثير في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم " فناءُ أُمَّتي بالطَّعنِ والطاعونِ " الطعن: القتل بالرمح، والطاعون المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد به الأمزجة والأبدان.
وقال القاضي: أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسُمّيت طاعونًا لشبهها بالهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونًا.

أسباب الطواعين والأوبئة وعوامل انتشارها
أدى غياب المعرفة العلمية الدقيقة إلى تباين آراء الأطباء والفقهاء في شأن أسباب الطواعين والأوبئة، بل يذهبون مذاهب شتى في تفسير هذه الأسباب، وتراوحت آرائهم ما بين تعليلات ربطت بين فساد الهواء في الطبيعة وظهور الطواعين والأوبئة، وبين تعليلات ركز عليها الفقهاء تتلخص في عدم التقيد بأحكام الشريعة، ومن هذه الأسباب:

أسباب طبية
على الصعيد الطبي اعتمد الأطباء المسلمون نظرية الطبيب اليوناني جالينوس في سبب شيوع الأوبئة إلى الرطوبة وفساد الهواء الذي يؤدي إلى فساد الأمزجة والأبدان، ومن ثم أكد الأطباء المسلمون على أن التوسع في العمران يؤدي إلى إحداث العفن والرطوبة الفاسدة في الجو، وبالتالي يتسبب في وقوع الأوبئة المهلكة كالطواعين والحميات.
واستنادًا إلى تلك النظرية فسَّر ابن خلدون ظهور الأوبئة الناجمة عن كثرة السكان وانتشار العمران، وما يصاحبه من كثرة العفن والرطوبة الفاسدة، فإذا اشتد فساد الهواء وقع المرض في الرئة، في حين أنَّ ابن سينا من دون التخلي عن نظرية جالينوس ألمح إلى أنَّ فساد الهواء هو السبب المباشر للوباء.
أما ابن النفيس فربط حدوث الوباء ببعض المسببات الأرضية والسماوية، أمّا الأرضية فمنها كثرة وجود البرك والمستنقعات، أو ما سمّاه الماء الآسن في المدن مع انتشار الجيف الكثيرة.
وأما السماوية: فكثرة الشهب والرجوم في آخر الصيف وفي الخريف، وهبوب ريحي الجنوب والصبا في شهري ديسمبر ويناير، مع نُدرة المطر في الشتاء.

أسباب دينية وأخلاقية
أما مذهب الفقهاء والمحدثين في سبب تمكن الطواعين من الناس وفتكها بهم، فيرجع إلى كونه وخزة من وخزات الجن، وذلك اعتمادًا على الحديث الذي ورد في مسند أبي يعلى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ذُكر الطاعون، فذكرتُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" وَخْزَة تُصيب أمتي من أعدائهم من الجن".
وردَّ جمهور الفقهاء على مزاعم الأطباء بأن فساد الهواء هو المسبب المباشر للطواعين، مستدلين بأن الطاعون يقع في أعدل الفصول وفي أفسح البلاد وأطيبها هواءً وماءً، ولو كان سببه الهواء لعم الناس جميعًا، والحيوانات كلها، فالمُشاهَد والمُعايَن والمحقق من أخباره أنه يصيب بعض الناس والحيوانات ولا يصيب بعضهم الآخر، وربما يأخذ أهل بيت بأجمعهم، ولا يدخل بيتًا مجاورًا لهم أصلًا، أو يدخل بيتًا ولا يصيب إلا بعض أهل البيت فحسب.

كما جادل الأطباء الفقهاء والمحدثين بأن لو كان مبدأ الطاعون وخز الجن، فلم يقع أحيانًا في شهر رمضان، حيث الجن والشياطين مصفدة في أغلالها، لا تسطيع نفعًا لغيرها ولا ضرًا، وبعيدًا عن الجدل بين الأطباء والفقهاء شاع بين العوام الاعتقاد بأن الطاعون هو عقاب إلهي جماعي يصيب الناس جراء انشغالهم بالدنيا وانهماكهم في اللذات والمعاصي وإهمالهم الفروض والطاعات، وبسبب المنكرات التي يقترفونها: يقول ابن إياس أثناء طاعون عام 841ه= 1437م، لما اجتمع القضاة ومشايخ العلم وشكا لهم السلطان من أمر تزايد الطاعون بالقاهرة، فقالوا له: إنما يظهر الطاعون في قوم إذا فشا فيهم الزنا، وأن النساء قد تزايد خروجهن في الطرقات، وهن متبرجات ليلًا ونهارًا في الأسواق.

انتقال العدوى
بالرغم من أنَّ مسألة انتقال العدوى تضاربت بشأنها المواقف ما بين الإثبات والنفي، وذلك لما ورد من نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم يُفهم منها إثبات العدوى كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبو هريرة كما ورد في صحيح البخاري " لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ"، وورد أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم نصوص يُفهم منها نفي العدوى كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبو هريرة الذي ورد في صحيح البخاري أيضًا " لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ ".
وهذه النصوص ظاهرها التعارض، ولكن لا تعارض في حقيقة الأمر، وقد أدلى العلماء في ذلك بما يزيل هذا التعارض، فقال ابن باز والبيهقي وغيرهما: كانت العرب في الجاهلية تعتقد العدوى، ويقولون: إنه إذا خالط المريض الأصحاء أصيبوا بمثل مرضه، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ "، والمعنى نفي العدوى على الوجه الذي كانوا يعتقدونه المشركين في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله، فالخلطة قد تؤثر، وقد ينتقل المرض من المريض إلى الصحيح بسبب الخلطة ولكن بإذن الله وأمره.

فالعدوى إذن حاصلة، ولكنها بتقدير الله، وهذا أمر لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان، وهذه الجراثيم التي تعمل، إنما تعمل أيضًا بتقدير الله، والله يسلطها على من يشاء، ومن واجبنا كمسلمين أن لا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة وأن نأخذ بالأسباب، ونتقي بما يحفظنا من الأمراض من لقاح وتطعيم وكشف صحي، وما شابه ذلك، وأن نعتنني بنظافة أفنيتنا ونطهرها من الحشرات مما يمكن أن يُنقل المرض عن طريقه، ثم إذا وقع المرض نصبر ونحتسب ونتوكل على الله ونسلم بالمقدور ونلتمس الدواء.

طرق وأساليب الوقاية من الطواعين والأوبئة
بالرغم من الطواعين والأوبئة ليست بالظاهرة الجديدة الطارئة، وبالرغم من تواترها طوال التاريخ الإسلامي، وبالرغم من العقائد المطمئنة باعتبار الطواعين ابتلاء وامتحان، بل ورحمة يُرفع ضحاياها إلى مرتبة الشهداء، لكن الواقع يخالف ذلك، حيث أن مشاعر الخوف والرعب تظل مسيطرة على النفوس عند حدوث الكارثة، ولذلك من أجل مواجهة الخطر الداهم فإن الجميع يطرقون كل الأبواب لمواجهة الأوبئة، وقد تعدد هذه الطرق ومنها:

الوصفات الطبية
في مثل هذه الظروف يصبح البحث عن الوصفات الطبية للوقاية من المرض هو الشغل الشاغل للجميع، وهذه الوصفات من بينها عملية تطهير الهواء الفاسد وتجديد هواء محل السكن، وذلك باستعمال الكافور والسعد والصندل والمسك والعنبر، ولعل عملية تطهير الهواء هذه قريبة الشبه بما نراه اليوم من تعقيم الدول لشوارعها ومدنها وساحاتها العامة برش المبيدات والمعقمات، بقصد مكافحة فيروس كورونا ونحوه.

الفرار الفردي والجماعي
بالرغم من أن موقف الفقهاء يقتضي وكإجراء وقائي بملازمة السكان للبلد المصاب والامتناع عن مغادرته من ناحية، ومن ناحية أخرى من الدخول إليه أسوة بسلوك السلف من الصحابة، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد عن النبي ﷺ أنه قال:" إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا"، إلا أن الواقع غير ذلك، فالفرار من المناطق المصابة من السلوكيات المألوفة وهو ما يؤكد عجز الطب حاليًا رغم تقدمه العلمي الكبير، كما يؤكد حالة الرعب والخوف التي تنتاب الجميع، فالفرار سلوك وقائي أملاه الخوف وحب السلامة وغريزة حفظ الذات.

العزلة (الحجر الصحي)
هذه العزلة هي أيضًا إجراء وقائي وإيمان ثابت بوجود العدوى، ويمارسها عدد كبير من سكان العالم وذلك بالامتناع عن حضور الجنائز وزيارة المصابين، وليس هذا فحسب بل تعدت ذلك لتشمل أوجهًا أخرى من الحياة العامة خاصة المواضع التي تكون ملتقى عدد كبير من الناس مثل النوادي والمقاهي والمساجد، وهذه العزلة مهما كان مستواها يخشى خطرها المسلمين بشكل عام والفقهاء بشكل خاص، وذلك تحسبًا للنتائج الاجتماعية والدينية المترتبة عنها مثل قطع صلة الارحام وتعطل الصلاة في الساجد، وتعطيل الحج والعمرة.

العلاجي الروحي (الهروب إلى الله)
في ظرف عصيب للغاية، ونتيجة الخسائر البشرية الفادحة، والعجز الفادح للطب وقلة نجاعة الوسائل الأخرى، لن يبقى سوى الالتجاء إلى الله لدفع هذه النقمة، وبالرغم من أنَّ دواء الأطباء والفرار والعزلة من بين أساليب الوقاية، ولكن علينا أن لا ننسى أن العدوى بتقدير الله، والله وحده له القدرة على الإحياء والإماتة، فلا بد أذن من الرجوع إلى الله والتقرب إليه بالصلاة والدعاء لدفع هذا الوباء[1].

[1] انظر الحافظ ابن حجر: بذل الماعون في فضل الطاعون، وبلقاسم الطبّابي: الموت في مصر والشام في العهد الملوكي، وأحمد العدوي الطاعون في العصر الأموي.

«اللهم إني نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك».