النصارى في عصر الخلافة العباسية .. د/ راغب السرجاني

[SIZE=“5”][CENTER]

شارك النصارى في العصر العباسي في نواحي الحياة المختلفة؛ الاقتصادية والاجتماعية والأدبية والعلمية، وفي المهن بصفة عامَّة ودونما تمييز، ودخلوا وظائف الدولة، وقد برزت كفايات أدبية في سلك الكُتَّاب وعُمَّال الخَرَاجِ، واستُقبِلُوا بالاحترام في بلاط الخلفاء، كما اعتُرِفَ لهم بقانونهم الديني، ورؤسائهم الروحيين(1). بل إن المجوس كانت لهم مكانة محترمة، وكان لهم كاليهود والنصارى، رئيسٌ يمثلهم في قصر الخلافة، وعند الحكومة(2).
وقد صدر منشور في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري كُتِبَ للصابئين عن أمير المؤمنين، أمر فيه إلى جانب صيانتهم، وحراستهم، والذَّبِّ عن حريمهم، ورفع الظلم عنهم، ونحو ذلك، بالتخلية بينهم وبين مواريثهم، وترك مُداخَلَتهم، ومشاركَتهم فيها.
وكان للنصارى النوبيين مركز خاص ممتاز في الدولة الإسلامية، فكانوا يدفعون الضرائب لملكهم، وكان للضرائب عامل مِن قِبَلِه في بلاد الإسلام.
وقد أصدر الخليفة المقتدر في سنة (311هـ/ 923م) كتابًا في المواريث أمر فيه بأن “تُرَدَّ تَرِكَة مَنْ مات من أهل الذمة ولم يُخَلِّف وارثًا على أهل مِلَّتِه”. على حين أن تركة المسلم الذي لم يترك وارثًا كانت تُرَدُّ إلى بيت المال(3).
ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يُغلق دون النصارى أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخةً في الصنائع التي تُدِرُّ الأرباح الوافرة؛ فكانوا صيارفة وتجارًا، وأصحاب ضِيَاعٍ وأطباء، بل إِنَّ النصارى نظَّموا أنفسهم بحيث كان أكثر الأطباء والكَتَبَة نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة.
وفي سنة (200هـ) أراد الخليفة المأمون أن يُصدر كتابًا لأهل الذمة؛ يضمن لهم حرية الاعتقاد، وحرية تدبير كنائسهم؛ بحيث يكون لكل فريق منهم -مهما كانت عقيدتهم، ولو كانوا عشرة أنفس- أن يختاروا بطْرِيقهم، ويعترف له بذلك، ولكن رؤساء الكنائس هاجوا وأحدثوا شغبًا، فعدل المأمون عن إصدار الكتاب(4).
وبقيام الدول شبه المستقلة في مصر لم يتغير الوضع كثيرًا؛ فلم تتغير السياسة في مصر تجاه النصارى، ونستطيع أن نَلمَس حرص أمراء الدولة الطولونية (254-292هـ) على معاملة النصارى معاملة طيبة، بل ظلُّوا يعملون في الدواوين، وبأعمال الخراج، بل وشاركوا في أعمال الشرطة؛ للمحافظة على الأمن والنظام في البلاد.
وكان لابن طولون كاتبان نصرانيان؛ هما يوحنا وإبراهيم بن موسى، كما كان لوزير ابن طولون أحمد بن الماذراني كاتب نصراني يُسمَّى يوحنا، كذلك استعان الأمير ابن طولون بكثير من المهندسين النصارى في مشاريعه المعمارية؛ ومن هؤلاء سعيد بن كاتب الفرغاني، الذي بَنَى لابن طولون عين ماءٍ، كما شارك في بناء مسجد ابن طولون نفسه(5).
وقد سار الأمير خمارويه على نهج أبيه أحمد بن طولون في استخدام النصارى، فكان له كاتب نصراني يُدعى إسحاق بن نصر العبادي، فضلاً عن اعتماد خمارويه على أسقف (طما)، ويُدعى أنبا بخوم، الذي كان يمتلك عددًا كبيرًا من الغلمان؛ ومن ثَمَّ اعتمد عليه خمارويه هو وغلمانه في حراسة الحدود الغربية للبلاد.
وعلى خطوات الدولة الطولونية نفسها سارت الدولة الإخشيدية (323-358هـ) في معاملة النصارى؛ فكان أمراؤها يحرصون على معاملتهم معاملة طيبة، وقد استعانوا بهم في كافة الوظائف، وبخاصة الشئون المالية، وقد كان عامل الخراج الذي تولَّى خراج مصر للأمراء الإخشيديين في هذه الفترة ابن عيسى بقطر بن شفا.
ويلاحظ في هذا العصر استخدام الإخشيديين لليهود بجوار النصارى في شئون الإدارة وأعمال الحكومة، وكان من الشخصيات اليهودية البارزة في هذا المجال يعقوب بن كلّس اليهودي، من مستشاري كافور، ومن أقرب الناس إليه، ومن شدَّة إعجاب كافور الإخشيدي بابن كلّس أنه أمر جميع رؤساء الدواوين بألاّ يُصرَف درهمٌ أو دينارٌ إلا بتوقيع ابن كلّس، وذلك في سنة 356هـ(6).
ولم يكن يوجد في المدن الإسلامية أحياء مختصَّة باليهود والنصارى بحيث لا يتعدونها، وإنْ آَثَر أهل كل دين أن يعيشوا متقاربين، وكانت الأديرة المسيحية منتشرة في كل أجزاء بغداد، حتى كادت لا تخلو منها ناحية(7).
ويُذكَر أنه كان للخليفة الطائع (363-381هـ) كاتب نصراني، وفي النصف الثاني من القرن الرابع اتخذ كلٌّ من عَضُدِ الدولة المتوفى عام (372هـ) في بغداد، والخليفة العزيز في القاهرة - وزيرًا نصرانيًّا، وقد استأذن نصر بن هارون وزير عضد الدولة سيده في عمارة البِيَعِ والأديرة، وفي إطلاق المال لفقراء النصارى، فأَذِن له(8).


المصدر: كتاب (مستقبل النصارى في الدولة الإسلامية).
(1) ابن الجوزي: سيرة عمر بن عبد العزيز، ص103.
(2) آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 1/76.
(3) آدم متز: الحضارة الإسلامية 1/59-62.
(4) المرجع السابق، ص72، 73.
(5) حسن علي حسن: أهل الذمة، ص131.
(6) المرجع السابق ص129-132، بتصرف.
(7) آدم متز: الحضارة الإسلامية 1/74، 75.
(8) المرجع السابق، ص90.

[/center][/size]

النصارى في عصر الخلافة العباسية