الوفاء في حروب رسول الله .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“3”]

المطلب الأول: الحق ما شهدت به الأعداء!

وقد شهد بذلك الأعداء؛ فعَنِ ابن عباس -رضي الله عنه- أَنَّ أبا سفيان بن حرب أَخْبَرَهُ أنه عندما كان في بلاد الروم في كفره أثناء صلح الحديبية؛ أحضره هرقل بين يديه، وسأله عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما وصله (أي: هرقل) رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما سأله عنه أن قال: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ فقال أبو سفيان: لا…

ثم علق هرقل في ختام حواره مع أبي سفيان قائلاً: وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لا يَغْدِرُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ…

وفي عمرة القضاء بعد صلح الحديبية بسنة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألفين من أصحابه، وحمل معه سلاحًا كثيفًا، تحسُّـبًا لأي خيانة من قريش، ولكنه كان ينوي دخول مكة -كما اتفق مع أهلها العام الماضي- بسلاح المسافر فقط، ولكن عيون قريش رأت الأسلحة فَفَزِعَتْ، وأرسلت وفدًا برئاسة “مِكْرَز بن حفص” ليستوضحوا حقيقة الأمر، فقابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطن يأجج بمر الظهران، فانظر ماذا قال أعداؤه وهم يخاطبونه!

لقد قالوا له: يا محمد، والله ما عرفناك صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر… تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا على العهد، وأنه لن يدخل الحرم غير السيوف في أغمادها؟!

هذه شهادة من زعيم من زعماء الكفر، يُقرُّ فيها أنه ما عرف الغدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في صغر ولا كبر؛ ولذلك كان متعجبًا من حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم للسلاح بعد اتفاقه معهم على دخول مكة بسلاح المسافر فقط، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكَّد له أنه سيدخلها حسب الاتفاق دون غدر ولا خيانة.

لقد وصلت قريش إلى حالة من الضعف لا تستطيع فيها أن تواجه قوة المسلمين، فكان هذا الفزع من القوة الإسلامية، وكان من الممكن أن يستغل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفزع والهزيمة النفسية، وكان من الممكن أن يستغل اقترابه من مكة إلى هذه الدرجة، وهو في ألفين من رجاله مدججين بالسلاح، كان من الممكن أن يستغل ذلك كله في غزو مكة بحجة استرداد الحقوق، أو بحجة المعاملة بالمثل جزاء حصار الكفار للمدينة في غزوة الأحزاب… كان من الممكن كلُّ ذلك، لو كان القائد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الشرع الحاكم غير الإسلام… إن المسلمين عند عهودهم مهما كانت الظروف، ولذلك أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثقة: «لَا نَدْخُلُهَا إلّا كَذَلِك»، وسمع مكرز الكلمة وطار مسرعًا إلى مكة يقول لهم: إن محمدًا لا يدخل بسلاح، وهو على الشرط الذي شرط لكم… لقد قال مكرز هذه الكلمات وهو على يقين من تحققها، وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلا شك أنه صادق.

المطلب الثاني: أمره أصحابه بعدم الغدر

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يغرس في نفوس الصحابة هذا الخلق العظيم: خلق الوفاء؛ فقد كان يوَدِّع السرايا موصِيًا إياهم: «… ولا تغدروا…»، ولم يكن ذلك في معاملات المسلمين مع إخوانهم المسلمين، بل كان مع عدوٍّ يكيد لهم، ويجمع لهم، وهم ذاهبون لحربه، فما أسمى هذه الأخلاق النبوية!!

وقد وصلت أهمية الأمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتبرَّأ من الغادرين ولو كانوا مسلمين، ولو كان المغدورُ به كافرًا؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَمَّن رَجُلاً عَلَى دَمّهِ فَقَتَلَهُ، فَأنَا بَرِيءٌ مِنَ القَاتِل، وَإِنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِرًا».

وقد ترسَّخت قيمة الوفاء في نفوس الصحابة حتى إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بلغه في ولايته أنَّ بعض المجاهدين قال لمحارب من الفرس: لا تَخَفْ، ثم قتله. فكتب -رضي الله عنه- إلى قائد الجيش: “إنه بلغني أنَّ رجالاً منكم يَطْلُبُونَ العِلْجَ (الكافر)، حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع، يقول له: “لا تخف”، فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده، لا يبلغنِّي أن أحدًا فعل ذلك إلا قطعت عنقه”.

المطلب الثالث: مواقف نادرة

إذا كان ما ذكرناه قبل ذلك من قواعد ونصوص تحض على الوفاء وترغب فيه أمرًا رائعًا فإن الأروع -ولا شك- هو التطبيقات الفعلية لهذه القواعد، فإننا كثيرًا ما “نسمع” عن الوفاء في مواثيق الأمم المختلفة وعهودها، ولكن قليلاً -وقليلاً جدًّا- ما “نرى” هذا الوفاء فعليًا على أرض الواقع. ولقد كان الوفاء في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية من آيات نبوته!

لقد ظهر هذا الوفاء في كل تعاملاته مع أعدائه منذ اللحظات الأولى لإقامة دولة المدينة. وما أروع وأوفى موقفه مع أهل مكة يوم غادرها مهاجرًا إلى المدينة المنورة! ليعلن للجميع أن الوفاء هو منهج الدولة الإسلامية الجديدة. لقد كان أهل مكة لا يثقون بأحد ثقتهم برسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كانوا يحتفظون عنده بأموالهم وودائعهم، ولا غرو، فهو الصادق الأمين، وحتى بعد أن اشتدَّ الإيذاء به صلى الله عليه وسلم، وحتى بعد أن وصفوه بالساحر والكذَّاب والكاهن والشاعر وغير ذلك من الصفات؛ كانوا لا يزالون يحافظون على عادتهم بحفظ الأموال عنده! وكان هو صلى الله عليه وسلم لا يمتنع عن أداء هذا الدور حتى مع حربهم له.

ثم كانت الهجرة إلى المدينة المنورة، وكان ترْكُ الديار والأموال والأعمال، وكان الظلم والتشريد والتنكيل، وكان تجاوز الحدود في كل ما هو سلبي من الأخلاق… ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجربة أليمة، وهي ترك أحب بلاد الله إلى قلبه، وذلك كما صرَّح هو بنفسه صلى الله عليه وسلم بذلك قائلاً: «عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ»، وبرغم كل هذه الآلام إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على العدل إلى أقصى درجة ممكنة؛ فترك الودائع والأموال لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وأمره أن يردها إلى أهلها… وأقام علي –رضي الله عنه- بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها، حتى أدَّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده. وما أحسب أن أحدًا في الأرض أتى بمثل ما أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال الوفاء والعدل ومن خصال الخير والفضل!

إن أيَّ إنسانٍ مكانه قد يجد ألف تأويل ليُبَرِّر لنفسه أن يأخذ هذه الأموال، ولا يردها إلى أهلها… قد يبرر ذلك بأنهم سرقوا أمواله وأموال المسلمين، وصادروا داره وديار المسلمين، فهذا في مقابل ذلك… وقد يبرر ذلك بأنهم أكرهوه على الخروج، ولم يخرج بإرادته، وقد يبرر ذلك بأنهم خططوا لقتله، وكانوا جادين في هذا التخطيط إلى درجة أنه أفلت منهم بمعجزة حقيقية في اللحظة الأخيرة قبل نجاح خطتهم الآثمة، وقد يبرر ذلك بأنه سيأخذ الأموال لتنتفع بها الدعوة الإسلامية، خاصةً وهي في أوائل أيامها في المدينة المنورة، وقد يبرِّر ذلك بأسباب أخرى كثيرة تخطر على بال العديد من الناس…

نعم هناك مبررات كثيرة لفعل ما تريد، ولكن عندما تأتي إلى الحقيقة، وتتجرد من أي ميول شخصية، أو أهواء ذاتية تدرك -بما لا يدع مجالاً للشكِّ- أن كل هذه المبررات غير مقبولة، وأن الحق أبلج واضح، وأن تطبيق الوفاء يحتاج إلى نفوس خاصة، وعزائم من طراز فريد… إن هؤلاء المشركين الذين وضعوا أموالهم عنده صلى الله عليه وسلم قد وضعوها بناء على اتفاق بينهم وبينه بحفظ الأمانة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بموجب هذا الاتفاق أحرص عليهم وعلى أموالهم من آبائهم وأمهاتهم… إنه لا يخون مهما كانت الظروف. إنه لا يغدر مهما تعرض لإيذاء… إن الوفاء والعدل يقتضيان ألا يؤاخَذَ أولئك الذين وثقوا فيه – ولو كانوا كفارًا - بجريرة أولئك الذين حاولوا - ومازالوا يحاولون - أن يقتلوه… إنهم مشغولون بمطاردته لقتله، وهو مشغول بردِّ ودائعهم إليهم…!
لقد كانوا في قمة الغدر، وكان هو في قمة الوفاء!

إنهم مشركون، وإنه لرسول رب العالمين!
والفارق بينهم وبينه أبعد من الفارق بين السماء والأرض…

والجميل في الأمر أنه صلى الله عليه وسلم يفعل كل ذلك دون تَكَلُّفٍ ولا تَفَضُلٍ… إنه لا يطير بهذا الموقف في الآفاق ليتحدث عن نفسه كيف فعل وفعل، إنه لا يأمر أصحابه من الشعراء والأدباء أن يسهبوا في الحديث عن مواقفه وأعماله… لقد كان يُغْفِلُ كلَّ ذلك لأن الله عز وجل أمره بكلِّ خُلُقٍ كريمٍ، فهو متجرِّدُ النية لله، مخلص العمل له سبحانه، لا يرجو من عباد الله جزاءً ولا شكورًا {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].

وفي غزوة بدر كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم موقفُ وفاءٍ عجيب!

إنه لم يكن يحرص على الوفاء بعهوده الشخصية فقط، إنما كان يحرص أيضًا على أن يفي كل مسلم بعهده مع الأعداء ولو كان ذلك في زمان الحرب! يقول حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: «انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ».

فبرغم أن هذا العهد عُقِدَ بشكل فردي مع المشركين؛ ومع شدة الحاجة إلى هذَيْن المجاهِدَين في معركة بدر؛ إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدّم الوفاء بعهدهما مع المشركين القادمِين لقتاله على مشاركتهما في المعركة، مما يظهر بوضوح أهمية الوفاء عند الرسول صلى الله عليه وسلم وعند المسلمين.

إن حدوث مثل هذا الموقف النادر في بدر، على الرغم من قلة عدد المسلمين، وعلى الرغم من أن هذه أول موقعة حقيقية مع المشركين، وعلى الرغم كذلك من تاريخ الغدر الطويل لقريش مع المسلمين، إن حدوث مثل هذا الموقف على الرغم من كل ذلك لمن أبلغ الأدلة على أن الوفاء خلق أصيل من أخلاق الإسلام، لا تفريط فيه مهما صعبت الظروف أو اشتدت.

ولم يكن هذا هو موقف الوفاء الوحيد في بدر، بل كان هناك مواقف أخرى نادرة كذلك!

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أنه من الوفاء أن يكافئ من أسدى جميلاً للمسلمين في يوم ما، ولو كانت هذه المكافأة في أرض المعركة، ولو كان هذا الوفاء لكافر محارب!
لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري بن هشام؛ مع أنه خرج مقاتلاً في صفوف المشركين، لأنه كان أَكَفَّ القومِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يُؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب. إن هذه الفضائل التي قدَّمها هذا الفارس المشرك ظلت محفورة في ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تُطمس مع مرور الوقت أو رؤية الجموع المقاتلة. إنه الوفاء في أرقى صوره!

ومثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة في حق أبي البختري بن هشام، قال كلمة مشابهة في حق مشرك آخر مات على كفره قبل بدر، وكان قد أسدى قبل ذلك جميلاً للمسلمين. إنه لم ينسه حتى بعد وفاته! وهذا المشرك هو المطعم بن عدي. فقد اشترك المطعم بن عدي في نقض الصحيفة التي قاطعت بها قريش بني هاشم، وكذلك أجار النبي صلى الله عليه وسلم في مكة عند عودته من الطائف، حين تخاذل سادة مكة عن إجارته، ومرت الأيام والسنوات ولم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المكارم، فلما أمسك سبعين أسيرًا في موقعة بدر قال دون تردد: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ حَيًّا، ثُمّ كَلّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ». لقد كان صلى الله عليه وسلم على استعداد -وهو صادق- لإطلاق جميع الأسرى من دون فداء لو شفع فيهم المطعم بن عدي، وكان من الممكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتغاضى عن هذه الكلمة في حق رجل كان يعبد الأصنام، غير أنه أراد أن يُعرِّف المسلمين وغيرهم أن الوفاء خلق ثابت من أخلاق الإسلام التي لا تنظر إلى دين دون دين، أو عرق دون عرق… إنه الوفاء المطلق الذي لم تعرف البشرية له مثيلاً!
ولعله من الجميل أن نختم هذا الموضوع بموقف وفاء لا يتخيل أحد من الناس أنه من الممكن أن يحدث، وخاصة في هذه البيئة العربية القديمة، إنه موقف وفَّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدَ امرأةٍ مسلمة أمَّنت رجلين كافرين مطلوبَين للقتل!! إن الموقف لعجيب حقًّا، وإنه لمن أندر المواقف، ليس في التاريخ الإسلامي فقط بل في التاريخ الإنساني كله!

ونترك أم هانئ بنت أبي طالب -رضي الله عنها- تحكي موقفها العجيب! تقول أم هانئ: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إليَّ رجلان من أحمائي من بني مخزوم -وكانت زوجًا لهبيرة بن أبي وهب المخزوم- فدخل عليَّ عليٌ بن أبي طالب أخي فقال: والله لأقتلنَّهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة.

إن هذين الرجلين مطلوبان للقتل، والرجلان هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية بن المغيرة، وهما من قبيلة بني مخزوم، وهي القبيلة المنافسة دائمًا لبني هاشم التي ينتمي إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يطلبهما للقتل هو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهو ليس رجلاً مسلمًا عاديًا، بل هو أحد الأمراء المعدودين، والوزراء المقربين، ثم هو رجل آتاه الله الحكمة، فقراره صائب، وحُكْمه شرعي، فلا شك أنه قد وجد من الرجلين أمرًا يستحقان القتل عليه، كمقاومة مسلحة، أو تهييج لشعب مكة على المسلمين، وقد فرَّ منه الرجلان، فلم يجدا غير بيت أم هانئ –رضي الله عنها-، وهي أخت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وفي الوقت نفسه هي زوجة لرجل من بني مخزوم، فطلبا منها أن تجيرهما من علي -رضي الله عنه-، وهنا قامت المرأة المسلمة بشهامة تعلن إجارتها للرجلين، وأدخلتهما إلى بيتها، وأغلقت عليهما الباب دون أخيها، وتعجب عليٌ -رضي الله عنه-، وأقسم ليقتلنَّهما، ولكن ثبتت أم هانئ على موقفها، وطلبت الاحتكام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا قال الرسول الوفي صلى الله عليه وسلم؟!

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدب جمٍّ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا ‏أُمَّ هَانِئٍ».
هكذا في بساطة!
إننا نحمل هذه الرسالة الواضحة لمن يتهم رسولنا صلى الله عليه وسلم بالعنف والإرهاب، فها هو يعفو في سهولة ويسر عن رجلين كافرين مقاتلين، دون أدنى سؤال أو تحقيق، كما نحمل هذه الرسالة أيضًا لمن يتهم رسولنا صلى الله عليه وسلم بالقومية والتعصب، فها هو يتجاوز عن رجلين من قبيلة منافسة، كان لها تاريخًا عدائيًا طويلاً مع قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما نتمنى أن نحمل ذات الرسالة إلى أولئك الذين يتهمون رسولنا صلى الله عليه وسلم بظلم المرأة والقسوة عليها، فها هو يقدم إجارة امرأة على رغبة قائدٍ معتبر، وصاحبٍ حبيب!
إن هذه القاعدة التي رسَّخها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف ليست قاعدة استثنائية تخص امرأة دون غيرها، أو رجل دون غيره. إنها قاعدة ثابتة مطردة تضمن الوفاء بالعهد، وذلك لكل إنسان مهما كانت ملَّته أو أصوله أو ظروفه. إنها قاعدة عامَّة لا تبديل لها ولا تغيير. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ جَارَتْ عَلَيْهِمْ جَائِرة، فَلَا تَخْفُرُوهَا، فَإِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً، يُعرَف بِه يَومَ القِيَامة».

فليحمل كلُّ منصِفٍ هذه الرسائل إلى العالم أجمع، فما أحوج هذا العالم إلى هذه الكنوز الثمينة من أخلاق خير البشر، رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.

[/size][/center]