بين صلح الحديبية ومعاهدة كامب ديفيد .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“5”]

عندما تمَّ توقيع معاهدة كامب ديفيد سنة 1979م بين الرئيس المصري محمد أنور السادات ورئيس وزراء الكيان الصهيوني الغاصب مناحم بيجن انتصب بعض العلماء الموالين للسلطة ليدَّعوا أن هذه المعاهدة -التي لقيت معارضة وهجوم المصريين والمسلمين عمومًا وعلماء الإسلام بصفة خاصة- تُماثل صلح الحديبية في أنها كانت فتحًا في ثوبٍ من الغبن والحيف، وأن المسلمين سيستفيدون من كامب ديفيد كما استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون من صلح الحديبية؛ فهل الأمر كما صوَّرُوه فعلاً؟

الحقيقة أن هناك شبهًا كبيرًا وتماثلاً قد يصل إلى حدِّ التطابق بين صلح الحديبية ومعاهدة كامب ديفيد، ولكنه -للأسف- تشابه عكسي؛ إذ إن المسلمين في كامب ديفيد قاموا بدور المشركين في صلح الحديبية من الخسارة في نتائج المعاهدة؛ بينما جلس الصهاينة مكان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من حيث الفوز والظفر!!

ولا عجب فيما أقول؛ فقد كان أول مكاسب صلح الحديبية للمسلمين هو اعتراف قريش بهم، ومن ثَمَّ اعتراف العرب جميعًا بدولة الإسلام في المدينة المنورة؛ فبعد سنوات طوال من العداوة والحرب على الإسلام من جهة قريش، وبعد سنوات من وَصْف المسلمين بالصابئة، ويقصدون بذلك أنهم خارجون على قريش؛ إذا بقريش تُوَقِّع على معاهدة تستمرُّ عشر سنوات مع هؤلاء الخارجين عليها. إذن فهي تعترف بدولتهم، وبقدرتهم على الوفاء بعهودهم، وتُقِرُّ بأن المواجهة معهم غير مضمونة العواقب؛ لذا فهي تَتَّقِي قوَّتهم وتلتقط أنفاسها بالصلح معهم.

وعلى النقيض من ذلك جاءت معاهدة كامب ديفيد؛ حيث كان الكيان الصهيوني منبوذًا منذ نشأته عام 1948م، ولم يعترف به أيٌّ من الدول العربية رغم اعتراف دول الغرب به، ولكن جاءت كامب ديفيد لتمنح الاعتراف لأول مرَّة لهذا الكيان من دولة عربية مسلمة، وليست أية دولة بل الدولة العربية والإسلامية الكبرى، التي يرنو لها الجميع في العالم العربي ببصره، ويُتابع خُطاها، ويقتدي بها، ولا يستطيع اتخاذ قرار الحرب فضلاً عن خوضها بالفعل من دونها؛ فهي صاحبة القوَّة العسكرية والبشرية الأولى في العالم العربي، وهي صاحبة الكفاح المرير المستمرّ ضدَّ الكيان الغاصب منذ نشأته، وذلك في حروب 1948، و1956، و1967، و1973م.

من هنا جاءت كامب ديفيد مكسبًا عظيمًا في نتائجه للعدوِّ الصهيوني؛ إذ حصل على الاعتراف الذي توالى على مدار السنوات التالية جهرًا وخفية من الدول العربية، ومن ثَمّ توطدت العلاقات الصهيونية التجارية والثقافة والسياسية مع بعض الأنظمة العربية وتابعيها، كما خرجت مصر من دائرة الصراع مع العدو الصهيوني تمامًا، وصارت حدودها معه من أكثر حدود الكيان الغاصب أمنًا واستقرارًا.
وفي حين عاقب الرسول صلى الله عليه وسلم قريشًا على نقضها للمعاهدة بهجومها المشترك مع حليفتها قبيلة بني بكر على قبيلة خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم - عاقبها بفتح مكة، إذا نحن في معاهدة كامب ديفيد أمام وضع مختلف تمامًا؛ حيث يقوم الكيان الصهيوني بخرق المعاهدة يوميًّا باختراق الأراضي المصرية بطائراته، وبقصفها مرَّات عديدة، وقتل المصريين المجاورين للحدود من مدنيين وقوَّات شرطة أو حرس حدود، دون أن تستطيع مصر الردَّ؛ فلماذا؟

لأنّ المعاهدة قسَّمت سيناء من الناحية الأمنية إلى ثلاث شرائح طولية؛ سُمِّيَتْ من الغرب إلى الشرق بالمناطق (أ)، (ب)، (ج).

  • أما المنطقة (أ) فهي المنطقة المحصورة بين قناة السويس والخط (أ) بعرض 58 كم، وفيها سُمح لمصر بفرقة مشاة ميكانيكية واحدة تتكوَّن من 22 ألف جندي مشاة مصري، مع تسليح يقتصر على 230 دبابة و126 مدفعًا ميدانيًّا و126 مدفعًا مضادًّا للطائرات عيار 37 مم و480 مركبة.

  • ثم المنطقة (ب) وعرضها 109 كم الواقعة شرق المنطقة (أ)، وتقتصر على 4 آلاف جندي من سلاح حرس الحدود مع أسلحة خفيفة.

  • ثم المنطقة (ج) وعرضها 33 كم وتنحصر بين الحدود الدولية من الشرق والمنطقة (ب) من الغرب، ولا يُسمح فيها بأي تواجد للقوات المسلحة المصرية، وتقتصر على قوات من الشرطة (البوليس). كما يُحظَر إنشاء أي مطارات أو موانٍ عسكرية في كل سيناء.

  • وفي مقابل هذه التدابير في مصر قيّدت الاتفاقية الكيان الصهيوني فقط في المنطقة (د) التي تقع غرب الحدود الدولية وعرضها 4 كم فقط، وحدد فيها عدد القوات بـ 4 آلاف جندي.

أي أن جيش العدوِّ لو أراد اقتحام سيناء فلا يلزمه سوى عبور أربعة كيلو مترات، بينما يحتاج جيشنا إلى قطع 140 كيلو مترًا ليصل إلى الحدود؛ فأيُّ هوان وأية مذلَّة!!

وما يُضاعف ذلك الهوان هو أنه مُؤَبَّد بنصِّ المعاهدة؛ ففي حين كان صلح الحديبية محدَّدًا بعشر سنوات، فإن معاهدة كامب ديفيد المذلَّة للمسلمين لا سقف زمنيًّا لها. فهي إذن قيدٌ في أعناقنا لا نستطيع منه فكاكًا، إلاَّ أن يغدروا هم، وإنهم فاعلون…

فإن اليهود لا يمكنهم أن يعقدوا عقدًا أو يُعاهدوا عهدًا إلاَّ وخانوه وغدروا بمحالفيهم، يقول تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100]. والقضية الكبرى هي أن نكون مستعدِّين ليومِ يغدرون؛ حتى نفعل مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح مكة.

فهل نحن مستعدُّون لفتح القدس؟!

المصدر: كتاب (عندما عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم).

[/size][/center]

بين صلح الحديبية ومعاهدة كامب ديفيد