معاملة الأسرى قبل الإسلام .. د/راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“3”]

نظرًا لقِدَمِ الحرب واشتعالها بين بني البشر كثيرًا، كان لا بُدَّ أن يصبح أحد الأطراف غالبًا والآخر مغلوبًا، وهذا الغالب يستولي على ما للمغلوب، بل وعلى المغلوب نفسه إن استطاع ذلك، وعلى زوجته وأولاده أيضًا، وهو ما يُسَمَّى بالأَسْرِ والسَّبْي. وفي هذه الحالة يصبح الأسير فاقدًا لحريته، يتبع آسِرَه، ولا يملك من أمر نفسه شيئًا؛ لذا يتوقف مدى العناية التي يحصل عليها الأسير على ضميرِ ودِينِ وأخلاقِ آسِرِه.

وقد تعددت وتنوعت أساليب التعامل مع الأسرى من ديانة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، وإن كان الذي يغلب على الجميع – قبل ظهور الإسلام – هو القسوة والبطش والظلم.

أولاً: تعامل اليهود مع أسرى الحرب

يعتقد اليهود أنهم أرقى الشعوب، وأنهم يتميَّزون عن سائر الأجناس، كما يعتقدون أنَّ تميُّزهم هذا إنما هو نعمة من الرب قد وهبها لهم، وقد جاء في سِفْرِ التثنية من التوراة المحرَّفة: “أنتم أولاد الرب إلهكم؛ لأنكم شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبًا خاصًّا فوق جميع الشعوب على وجه الأرض”. وانطلاقًا من هذه النظرة يعتقد اليهود أن الوسيلة المُثلَى لتحقيق وعد الرب لهم باسترقاق شعوب الأرض هي الحرب.

ومن هنا كانت حروب اليهود ضد غيرهم حروبًا تدميرية، والهدف منها الإبادة للبشر أو استعبادهم وإذلالهم، كما مرَّ بنا قبل ذلك في هذا البحث، وحتى إذا عقد اليهود الصلح مع أعدائهم، فإنهم بهذا الصلح يستعبدون عدوهم ويستبيحون أرضه، ولا يكون لهم من هذا الصلح إلا اسمه فقط لا حقيقته، وقد جاء في سِفْرِ التثنية: “حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح؛ فإِنْ أجابتك على الصلح، وفتحت لك… فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويُستعبد لك… وإنْ لم تسالمك بل عملت معك حربًا، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك؛ فاضرب جميع ذكورها بحد السيف…”.

وكما يكون اليهود في حروبهم وحوشًا وسيلتهم التسخير وغايتهم التدمير؛ فإنهم كذلك في أعقاب الحروب ينهبون الغنائم، ولا يخضعون لقاعدةٍ في الأسر والسبي: “إذا خرجت لمحاربة أعدائك، ودفعهم الرب إلهك إلى يدك، وسبيت منهم سبيًا، ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة، والتصقت بها، واتخذتها لك زوجة؛ فحين تُدخِلُها إلى بيتك تحلق رأسها، وتقلم أظافرها، وتنزع ثياب سبيها عنها”.

وهكذا كان اليهود يتعاملون مع أسراهم، مما يُنْبِئ عن نفسية ملأها الحقد على الغير، واستبدَّ بها حب الإفساد في الأرض، فكان هذا هو منهجها في التعامل مع أسرى الحرب.

ثانيًا: تعامل القوى العالمية الكبرى مع أسرى الحرب

لم يختلف وضع الدول العالمية عن سابقه في تعاملهم مع الأسرى؛ إذ كان مصير الأسير أن يُذبح أو يُقدَّم قرابين للآلهة، ثم رُئِيَ بعد ذلك الانتفاع بهم، فحَلَّ الاسترقاق محل القتل، وصار الأسرى يُستعبدون، ويتخذون للبيع والشراء!!

ومن أمثلة الأمم التي عاملت الأسرى بقسوة لا هوادة فيها: الفرس والإغريق؛ فقد كانوا يُنَكِّلون بأسراهم، ويعرضونهم للتعذيب والصلب والقتل.

ونتيجة هذه الحروب الشرسة فقد كثر عدد الأسرى لدى الدولة الرومانية، ولم يكن لهم إذا نجوا من القتل إلا مصير واحد هو الاسترقاق، فانقسم المجتمع الروماني بذلك إلى أحرار وهم السادة، ولقد منح القانون الروماني للمالك الحق في إماتة عبده أو استحيائه، وكَثُرَ الرقيق في عهدهم حتى ذكر بعض مؤرخيهم أن الأرقاء في الممالك الرومانية يبلغون ثلاثة أمثال الأحرار. وكان الرقيق لا يتمتعون بأية حقوق بل مصيرهم في أيدي سادتهم، كما أنهم ليس لهم أي احترام وسط المجتمع، لدرجة أن الفيلسوف أفلاطون نفسه صاحب فكرة المدينة الفاضلة كان يرى أنه يجب ألا يُعطَى العبيدُ حقَّ المواطنة !!

أما العجيب فهو أن الرومان كانوا يستخدمونهم أيضًا كوسائل للترفيه والتسلية؛ فكانوا يضعون هؤلاء الأسرى مع الوحوش المفترسة في أقفاص مغلقة، بينما يستمتع الأمراء بمشاهدة الوحوش وهي تفترسهم !!

وفي الهند كان الأسير يقع ضمن الطبقة الرابعة والأخيرة في تقسيم طبقات المجتمع عندهم، وهي طبقة شودر، وهم المنبوذون، والذين هم أَحَطُّ من البهائم، وأذل من الكلاب، ويصرح القانون بأنه من سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة (طبقة الكهنة والحكام) دون أجر!! وكفَّارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والبومة مثل كفارة قتل الشودر سواء بسواءٍ !!

ثالثًا: تعامل القبائل العربية مع أسرى الحرب

ما فَتِئَت الحرب تشتعل بين حين وآخر بين القبائل العربية بدافع العصبية والقَبَلية. ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الحروب المستمرة نتائج وبيلة على الفريق المنهزم، وذلك لما يترتب على الهزيمة من سبي النساء والذرية والرجال إن قُدِر عليهم، وقد يتم قتلهم، أو استرقاقهم وبيعهم عبيدًا، ولم يكن هناك ما يُسَمَّى بالمنِّ عليهم أو إطلاق سراحهم دون مقابل، فقد كانت تلك الحروب تمثل أحد الروافد الأساسية لتجارة العبيد التي كانت إحدى دعامات الاقتصاد في الجزيرة العربية، وقد استمرت هذه الحروب بين القبائل العربية حتى جاء الإسلام، ومن أشهر هذه الحروب حرب الأوس والخزرج في المدينة، وبكر وخُزَاعة قُرْبَ مكة وغيرها.

وقد أدت هذه السياسة المجحفة إلى استرقاق أعداد هائلة من البشر، كان منهم طاقات عقلية جبارة، ولكن للأسف ضُيِّعت هذه الطاقات وبُدِّدت تحت وطأة الأسر وذلِّه، حتى جاء الإسلام وحرَّر هذه الطاقات، ومن أمثلة هؤلاء بلال بن رباح الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وسالم مولى أبي حذيفة، وزيد بن حارثة، وعامر بن فهيرة، وغيرهم وغيرهم… لقد عطِّلت هذه الطاقات على –عِظَمِها- فترات طويلة، حتى ظهر الإسلام، فصاروا بعد ذلك قادة العالم وأئمته.

المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.

[/size][/center]