مقالات في السيرة النبوية(24)

مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم -(1/6)

أهمية الموضوع:
الكتابة في هذا الموضوع تكتسب أهميتها من أمور:
1- أنه موضوع نادر لا تجد من أفرده بالبحث والتقصي لا من المتقدمين ولا من المتأخرين إلا العلامة التونسي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور-رحمه الله- 1296-1393هـ حيث كتب بحثاً عنوانه مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [1].
2- أنه موضوع لطيف يخدم ما نحن بصدده من البحث في جوانب رحمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعظمته؛ حيث يُجلِّي ذلك غاية التجلي، ويمثِّله أحسن تمثيل.
3- أن مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميدانٌ لِتَسَابُقِ الآداب، وجوٌّ لِتَرَفْرُفِ الكمالات.
4- أن للناس مجالس يرتادونها، وأحاديثَ يتجاذبون أطرافها، ولكل من المجالسة والمحادثة آداب يحسن مراعاتها، ويجمل الأخذ بها.
ولا ريب أن الوقوف على مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحاديثه من أعظم ما يرتقي بالأحاديث والمجالس؛ فإلى مباحث هذا الفصل.
مقدمة في مجالس العظماء:
احتفاف العظيم بمظاهر العظمة في أعين ناظريه وتُبَّاعه وسيلة من وسائل نفوذ تعاليمه في نفوسهم، وتلقيهم إرشادَه بالقبول والتسليم، واندفاعِهم بالعمل بما يمليه عليهم.
وإن للعظمة نواحيَ جمةً، ومظاهرَ متفاوتةَ الاتصال بالحق: فمنها العظمة الحقة الثابتة، ومنها المقبولة النافعة، ومنها الزائفة التي إنْ نفعت حيناً أضرت أزماناً، وإن راجت عند طوائف عُدَّتْ عند الأكثرين بطلاناً، وفي هاته الأصناف معتاد وغير معتاد، وبينها مراتب كثيرة الأعداد، لا يعزب عن الفطن استخراجُها من خلال أصنافها، والحكمُ الفصلُ في آدابها وأُلاَّفها.
وبمقياس اتسام العظيم بسمات العظمة الحقة، يكون مقياس غُنْيته عن مخايل التعاظم الزائفة، كما أنه بمقدار خلوه من تلك السمات الحقة يقترب من الاحتياج إلى شيء من تلك المخايل، كالمصاب بفقر الدم لا يستغني عن زيادة التدثر بدثر الدفاء.
وكثيراً ما تحمَّل العظماءُ مشاقَّ التكلف، لما يثقل عليهم التظاهر به؛ مجاراةً لأوهام التُّبَّاع أولي المدارك البسيطة؛ حذراً من أن ينظروا إليهم بعين الغضاضة، أو يلاقوهم بمعاملة الفضاضة.
فهم يقتحمون ذلك الثقل، ولسان حالهم يقول: “مكره أخوك لا بطل”.

فلا غرو أن كان المتوسمون منذ القدم تقوم لهم من صفات مجالسِ السَّراة والجماعات دلائلُ منبئةٌ بأحوال أصحاب تلك المجالس كما قال الشاعر:

ولما أن رأيت بني جُوَيْن **** جلوساً ليس بينهم جليس

يئست من التي قد جئت أبغي *** إليهم إنني رجل يؤوس

وإننا إذا تتبعنا ما يعد من هيئات المجالس أحوال كمالٍ حقَّاً أو وهماً نجد منها المتضاد الذي إن اشتمل المجلس على شيء منه لم يشتمل على ضده، مثل الحجاب والإذن، والوقار والهزل.
ونجد بعضها غير متضاد بحيث يمكن اجتماعه كوضع الأرائك والطنافس النفيسة مع التزام الوقار والحكمة، وكالفخامة والزركشة مع إقامة الإنصاف؛ فقد كان مجلس سليمان -عليه السلام- مكسوَّاً بفخامة الملك، وهو مع ذلك منبع لآثار النبوة والحكمة.
فأما الأوصافُ المتضادةُ فلا شبهةَ في كون مجالسِ العظماء حقًّا تُنَزَّه عما يضاد الحق منها، وأما غير المتضادة فلا يُعد تجردُ مجلسِ العظيمِ عما هو من هذا الصنف مهمَّاً إلا زيادةً في عظمته، وليس ذلك بلازم في تحقق أصل عظمته الحقة.
تجرى أشكال الدعوة الإلهية على حسب استعداد الأقوام؛ لتلقي مراد الله منهم، فيسن لهم من الأحوال والهيئات ما هم به أَحْرِياء[2] لنفوذ مراد الله فيهم؛ فقد يُتسامح لدعاتهم ببعض المظاهر التي لا حظ لها في التأثير الخلقي، أو التشريعي، ولا تحط من اعتبار صاحب الدعوة في أنظار أهل الكمال، وتعين على قبول دعوته بين العموم البسطاء؛ لموافقتها بساطة إدراكهم، وعدم منافاتِها الحقَّ؛ فإن بني إسرائيل لما فَتَنَتْهم مظاهرُ عبدةِ الأصنام وقالوا لموسى: (اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) (الأعراف:138) غضب عليهم رسولهم، ووبخهم على ذلك.
ولما بهرتهم مظاهر الملك التي شاهدوها عند الأقوام الذين مروا بهم في تيههم، والذين جاوروا بلادهم وقالوا لنبيهم شمويل: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة:246) لم يَرَ نبيهم في ذلك بأساً؛ إذ رآه أعونَ لهم على الدفاع عن جامعتهم؛ فأقام لهم شاول ملكاً، ثم خلفه من الملوك من كان له وصف النبوة مثل داود وابنه سليمان الذي عظم سلطانه، وفخمت مَظاهرُ ملكه التي ما كانت تُنْقِصُ كماله النبوي.
وأظهر حجة على ذلك أن ملكة سبأ ما دانت له حين مجيء كتابه إليها بالدعوة إلى الإيمان بالله، والدخول في طاعة ملكه العادل، فقالت: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل:34).
ثم هي لما وفدت عليه بمدينته، ورأت من عظمة سلطانه ما أبْهَتَها، ودخلت الصرح الممرد فحسبته لجة - هنالك قالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل:44).
وكذلك فرعون موسى كان مما منعه أن يؤمن بموسى -عليه السلام- أنه لم ير عليه آثار العظمة الزائفة؛ إذ قال في تعليل كفره به: (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) (الزخرف:53) وهي شعار الملوك في عرفهم.[3]
وفي هذا ما يشرح لنا تلك المجادلة التاريخية العظيمة الجارية بين عظيمين من عظماء أمتنا: عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان؛ فقد جاء في كتب السير أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما قدم الشام تلقاه معاوية -رضي الله عنه- في موكب عظيم وهيئة؛ فلما دنا منه قال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم، قال: مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟
قال: نعم، قال: ولِمَ تفعلُ ذلك؟
قال: نحن بأرضٍ جواسيسُ العدوِّ بها كثير، فيجب أن نظهر من عزِّ السلطان ما يرهبهم؛ فإن نهيتني انتهيت.
قال: يا معاوية: ما عاتبتك عن شيء يبلغني عنك إلا تَرَكْتَني منه في أضيقَ من رواحب الضِّرْس[4] فإن كان ما قلتَ حقاً فرأي أريب، وإن كان باطلاً فخدعة أديب.
قال معاوية: فَمُرْني، قال عمر: لا آمرك ولا أنهاك.
فقال عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وكان في معية عمر: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر عما أوْرَدْتَه.
قال عمر: لِحُسْن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه.[5]
والآن تهيأت إفاضة القول في صفة مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومتعلقاته، وهو مبحث جليل لم يسبق للعلماء الباحثين عن السيرة والشمائل النبوية تدوينُه، وتخصيصُه بالبحث والتبويب، واستيعابُ ما يتعلق به -كما يقول ابن عاشور-رحمه الله-.[6]

[FONT=Simplified Arabic]

د. محمد بن إبراهيم الحمد[SIZE=3]

[/size][/font]___________________________
[1] وذلك في مجلة الهداية الإسلامية، الجزء العاشر، المجلد العاشر، ص578-597 في ربيع الثاني 1257هـ - 1938م، وقد أفدت منه كثيراً في هذا الفصل.

[2] أحرياء جمع حري، بمعنى خليق وجدير.

[3] انظر الهداية الإسلامية، مبحث مجلس رسول الله 10/578-580.

[4] هكذا في كتاب عين الأدب والسياسة لعلي بن هذيل ص183، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي 3/133: “إلا تركتني في مثل رواجب الضَّرِس”.

[5] انظر سير أعلام النبلاء 3/133، وعين الأدب والسياسة ص183.

[6] انظر الهداية الإسلامية 10/581.

أخى الحبيب جزاك الله خير الجزاء لما تقدمه فى منتدانا الغالى على نفوسنا
وأسأل الله أن يتقبل منا ومنك

آمين وبارك الله فيك أخي الكريم

آمين وبارك الله فيكما أخوايا الكريمين