من كنوز البلاغة القرآنية ،التّجارة الخاسرة

[FONT=Arial Black][B]

[/b][/font][RIGHT]
[FONT=Arial Black][SIZE=5]
اخواني واخواتي الأفاضل


من كنوز البلاغة القرآنية ، ،التجارة الخاسرة [SIZE=5][COLOR=purple]

قال الله تعالى الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك . الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين . مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون . (البقرة: 15-17)

السؤال : كيف قال سبحانه الله يستهزئ بهم (البقرة: 15) والاستهزاء من باب السخرية وهو قبيح، والله تعالى منزه عن ذلك ؟
الجواب : سمى الله تعالى جزاء استهزائهم استهزاء، أي سمى العقوبة باسم الذنب، وذلك من باب المشاكلة كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها (الشورى: 40)، وقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (البقرة: 194ومن قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى انتصاره جهلاً، والجهل لا يفتخر به عاقل، وإنما قاله مشاكلة لقوله (يجهلن)، والجزاء لا يكون سيئة، والقصاص لا يكون اعتداء، لأنه حق، والمعنى في الآية الكريمة هنا ان الله سبحانه ينزل العقاب وينتقم من المنافقين المستهزئين بالمؤمنين، انتصافاً منه لعباده الموحدين المؤمنين .
ويمكن أن يكون المراد باستهزائه تعالى بهم إنزال الهوان والحقارة بهؤلاء المنافقين ومن على شاكلتهم من أهل الكفر وازدراء شأنهم وتحقير أمرهم على وجه من شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك .
السؤال : ما علة فصل جملة الله يستهزئ بهم . . عما قبلها ؟
الجواب : جاءت الجملة مفصولة عما قبلها للاستئناف البياني حيث وقعت جواباً عن سؤال تقديره: ما مصير هؤلاء المنافقين الذين استهزؤوا بالمؤمنين الموحدين؟ فقيل جواباً عن هذا السؤال المقدر الله يستهزئ بهم . ولقد جاء هذا الاستئناف غاية في الفخامة والجزالة لأن فيه دلالة بالغة على أمرين أولهما ان الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم أي بهؤلاء المنافقين المستهزئين بعباده المؤمنين، والاستهزاء الأكمل الذي لا اعتداد معه باستهزائهم وذلك لصدوره عن القاهر- سبحانه- لما يحل بساحتهم من العذاب، وينزل بهم من الذل والهوان والنكال .
وثانيهما : ان في الاستئناف دلالة على غيرة الله سبحانه على عباده المؤمنين، وانه سبحانه هو الذي يتولى الدفاع عنهم ويتكفل بالرد على المنافقين، وهو الذي يكفي عباده مؤونة الرد على المستهزئين بما يليق بجلاله سبحانه وتعالى .
وفي العبارة إدماج بديع أيضاً حيث أدمج في الرد على المنافقين ما يشير إلى كرامة المؤمنين عند ربهم . والله أعلم .
استهزاء متجدد
السؤال : لماذا قيل الله مستهزئ بهم” ليطابق قولهم : إنما نحن مستهزئون”؟
الجواب : السر في العدول عن الاسمية (مستهزئ) إلى الفعلية (يستهزئ) وهو الدلالة على تجدد الاستهزاء بهم وقتاً بعد وقت، وحيناً بعد حين، وهذا أشد عليهم وأوجع لقلوبهم، وأرهب في صدورهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الاسمية، (لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتاً بعد وقت، والمتجددة حيناً بعد حين أشد على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمر، لأنه يألفه ويوطن نفسه عليه) .
السؤال : ما سر تقديم المسند إليه- لفظ الجلالة على خبره الفعلي COLOR=darkgreen في قوله سبحانه الله يستهزئ بهم”؟
الجواب : للمسارعة ببعث الطمأنينة والسكينة في قلوب المؤمنين، والوعيد للمشركين، وانه سبحانه هو الذي سينتصر لعباده الموحدين وينتقم لهم من المنافقين المستهزئين وقد أفاد هذا التقديم القصر كما دل عليه المعنى المشار إليه .
السؤال : لم صرح بالمستهزَأ به في الآية هنا- وهو الضمير في بهم في قوله الله يستهزئ بهم” ولم يصرح به في قول المنافقين فيما حكاه القرآن إنما نحن مستهزئون حيث لم يقولوا مستهزئون بهم ؟
الجواب : صرح بالمستهزَأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصاً لا يقبل الشك أو التأويل، ولم يصرح به هناك، لخوف المنافقين من وصوله للمؤمنين، فأبقوا اللفظ عاماً محتملاً غير منصوص على ما مستهزأ به معين، ليكون لهم مجال في الإنكار والمراوغة والخداع، وهذا يدل على جبنهم وضعفهم .
السؤال : ما المقصود بالمد والطغيان والعمه في قوله تعالى ويمدهم في طغيانهم يعمهون (البقرة: 15 )؟
الجواب : المقصود من المد الزيادة والإمهال والإملاء، والمعنى يطيل لهم المدة ويمهلهم حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وعليه فالمد من المدد بمعنى الزيادة والإطالة أو من المد في العمر بمعنى الإملاء والإمهال وأحسب- والله أعلم- أن كلا المعنيين يستقيم مع السياق . والطغيان أصله مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى إنا لما طغى الماء” (الحاقة: 11أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار، والمراد هنا كفرهم وضلالهم والمعنى في الآية يمدهم بطول العمر والسعة في الرزق حتى يزيدوا في الطغيان ويمهلهم حتى يزيد في عذابهم . والمقصود من العمه التردد والحيرة في الكفر . والعمى يكون في العين والعمه يستعمل في الرأي، والله أعلم .
السؤال : هل نسبة المد بمعنى الإمهال والإملاء إلى الله تعالى في الآية الكريمة من باب الحقيقة أم المجاز؟
الجواب : نسبة المد إليه سبحانه من باب الحقيقة، إذ هو سبحانه الفاعل الحقيقي له والموجد للأشياء .
ويمكن حمل المعنى على أنهم لما أصروا على الكفر والنفاق خذلهم الله تعالى ومنعهم ألطافه وحجب عنهم أنوار هدايته فتزايدت ظلمة قلوبهم فسمي هذا التزايد في التجبر والمعصية مدداً في الطغيان .
انغماس في الضلالة
السؤال : ما سر إضافة الطغيان إلى ضمير المنافقين في قوله: ويمدهم في طغيانهم يعمهون ؟
الجواب : أضيف الطغيان إليهم، لأنه فعلهم الصادر عنهم، أو للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم كأنه لا شيء، لفظاعة طغيانهم وتجاوزه كل حد، ولغرابته حتى بات ينسب إليهم، ويعرف بإضافته إليهم، وكأنهم اختصوا به، لذا لم يقل: ويمدهم في الطغيان . والله أعلم بمراده .
السؤال : مَن المشار إليهم في قوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى” (البقرة 16)؟ ولماذا استخدم اسم الإشارة للبعيد؟
الجواب : المشار إليهم هم المنافقون المذكورة أقوالهم وصفاتهم في الآيات السابقة . وأوثر اسم الإشارة للبعيد (أؤلئك) للدلالة على بُعْد منزلتهم في الضلال والشر وسوء الحال، وبعدهم عن منهج الله وعن القرآن، وكان هذا بمحض اختيارهم لوضوح أسباب الهداية أمامهم .
السؤال : كيف قيل في المنافقين اشتروا الضلالة بالهدى وهم ما كانوا على هدى بل كانوا منغمسين في الضلالة؟
الجواب : لأنهم لما عاينوا دلائل الهدى، وشاهدوا الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة التي تدفع إلى إيثار الهدى جُعِلوا كأنهم كانوا عليه ثم تركوه واستبدلوا به الضلالة . والله أعلم .
السؤال : هل الاشتراء في الآية مستخدم في معناه الحقيقي ؟
الجواب : لا، فالاشتراء مستعار للاستبدال والاختيار بجامع حرية التصرف في كل منهما، واشتق من الاشتراء اشتروا بمعنى اختاروا على طريق الاستعارة التصريحية التبعية .
السؤال : إذا كان الاشتراء مستعاراً للاستبدال والاختيار فما علة ذكر الربح والتجارة في قوله تعالى: فما رحبت تجارتهم ؟
الجواب : ما ذُكر من الربح والتجارة يلائم الاشتراء، لذا فهو ترشيح للاستعارة في (اشتروا) وتقوية لها فأكد الإحساس بأن المبايعة حقيقية . والله أعلم .
السؤال : ما دلالة الفاء في قوله تعالى: فما ربحت تجارتهم”؟
الجواب : الفاء في الآية للتعقيب، وجيء بها للإشارة إلى سرعة عدم ربحهم في تجارتهم وعدم اهتدائهم، وأن هذا تحقق بمجرد اشترائهم الضلالة بالهدى، حيث جاء عقبه مباشرة دلالة على سوء صنيعهم، وبوار سعيهم، وفداحة خسارتهم . والله أعلم .
السؤال : كيف أسند عدم الربح إلى التجارة، وعدم الرابحين هم أصحابها؟
الجواب : جاء هذا على طريقة المجاز العقلي بعلاقة السببية، لأن الأصل أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم ولكن عُدل عن هذا إلى المجاز مبالغة في إيصاد باب النفاق في وجوههم، وأنه لن يصل بهم إلى أي خير .
السؤال : لماذا لم يصرح بالتعبير عن خسارة المنافقين فيقال مثلاً: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فخسروا”؟
الجواب : استخدمت الكناية في التعبير عن خسرانهم، وأوثرت على التعبير المباشر الحقيقي، لأن فوات الربح يستلزم الخسارة، هذه واحدة، وللتصريح بانتفاء الهدف من التجارة والمقصد منها مع حصول ضده وهو الخسارة . ولو قيل: خسرت تجارتهم فلا يتوهم (إن نفي أحد الضدين- الربح والخسارةإنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة وهي موجودة هنا، فإن التاجر قد لا يربح ولا يخسر) . وهذا كلام الألوسي فتأمله .
تقريع وتوبيخ
السؤال : ما سر التعبير ب(كانوا) في قوله تعالى : وما كانوا مهتدين حيث كان من الممكن أن يقال: وما اهتدوا ؟
الجواب : للدلالة على عراقتهم في الضلالة وفي البعد عن الهداية وأن تلك الصفة متأصلة فيهم قديمة راسخة ثابتة، بدلالة (كان) الدالة على الدوام والاستمرار . وهذا أنسب للتقريع والتوبيخ، فليس من كانت هذه الحالة حاله أن يهتدي أبداً، لأن الشر قد استمكن من نفسه فأظلمت وغلفت بالضلالة حتى إنه لا مكان لنور يُبدد ظلمتها .

السؤال : ما علة جمع قوله تعالى وما كانوا مهتدين وعطفه على قوله فما ربحت تجارتهم ، على الرغم من أن عدم الاهتداء قد فُهم من استبدال الضلالة بالهدى؟ أوليس هذا تكراراً للمعنى السابق؟
الجواب : ليس هذا تكراراً، بل المراد الإشارة إلى أنهم خسروا رأس المال والربح معاً في تجارتهم الفاشلة، بيان هذا أن رأس مالهم هو الهدى، فلما استبدلوا به الضلال انتفى رأس المال بالكلية، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة وُصفوا بانتفاء الربح والخسارة، لأن الضال في دينه خاسر، وإن أصاب أموال الدنيا، ولأن من لم يسلم له رأس ماله وهو الهدى لم يوصف بالربح، بل بانتفائه أي الخسارة، إذن أضاعوا سلامة رأس مالهم بالاستبدال، وترتب على ذلك إضاعة الربح . وليس معنى قوله وما كانوا مهتدين عدم اهتدائهم في الدين فيكون تكراراً لما سبق، بل لما وُصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة كما يهتدي إليها التجار البصراء بالأمور التي يربحون فيها ويخسرون . والله أعلم بمراده .
السؤا ل: ما المقصود من المثل في قوله تعالى: مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون (البقرة ،17 18)؟
الجواب : المقصود إبراز صفات المنافقين في صورة محسوسة مشاهدة لتكون أوقع في نفس السامع، وللمبالغة في التنفير منها .
وقد وصف الله عز وجل في هذا المثل والذي يليه حال المنافقين وما هم فيه من حيرة وتخبط واضطراب وضياع بحال من سعى في طلب النار ليهتدي بها في طريقه المظلم، فلما حصل عليها بعد كد وتعب انطفأت، وبقي كما كان قبلها في حيرة وتيه وظلام وضلال . وهكذا رأينا كيف كشف لنا هذا التشبيه التمثيلي حيرة المنافقين وما يعتري نفوسهم من قلق واضطراب في صورة مرئية مشاهدة .
السؤال : ما السر في إسناد ذهاب النور إلى الله تعالى في قوله: ذهب الله بنورهم”؟
الجواب : للإشارة إلى أن النور لم يبق منه شيئاً البتة، وكأن يد القدرة الإلهية امتدت إلى هذا النور وذهبت به . وفيه معنى آخر هو أنهم بلغوا من السوء وفساد النفس مبلغاً أغضب الرحمن الرحيم، فهم محاصرون في ظلمتهم هذه بالقدرة الآخذة بخناقهم، نظراً لسوء نفوسهم، فهم يعانون ظلمة الوجود من حولهم، وظلمة قلوبهم التي استحقت أن يذهب الله بنورها . والله أعلم .
اللهم اغفر لي ولقارئ هذه السطور في هذه اللحظات


[/color][/size][/size][/font]
[/right]