همّ المسكن.. أتى على التعليم والصحة

جريدة الرياض اليومية

في ظل غياب الوعي وتعقيدات الأنظمة
همّ المسكن… أتى على التعليم والصحة

تضخم الوحدة السكنية رافقه ارتفاع فلكي بأسعار الأراضي الأمر الذي فاقم من صعوبة تملك الشباب للمسكن وقاد أعداد كبيرة من الأسر إلى تهميش أمور حياتية أكثر أهمية على رأسها “الصحة والتعليم” في سبيل تأمين “السكن”.
ولأهمية القضية فقد عرضناها على المستشار الدكتور مهندس خالد بن عبدالعزيز الطياش وشخصها قائلاً:
برزت إشكالية المسكن المعاصر في مدن المملكة مع بداية الطفرة الاقتصادية الهائلة التي شهدتها بلادنا خلال الأربعين عاماً الأخيرة تقريباً وبالتحديد منذ بداية الثمانينات الميلادية وذلك كنتيجة لارتفاع مستوى دخل الفرد وظهور متطلبات ورغبات جديدة وإرضاء لنزعة التباهي وإبراز المقدرات المادية في تلبية هذه الرغبات والتسابق بين الأفراد نحو كل ما هو جديد وحديث بجانب الحنين والتعاطف مع الماضي والتراث الشعبي الذي ضخم من حجم المسكن وأوجد ازدواجية في الفراغات التي تجمع بين متطلبات البيت التقليدي والبيت الحديث وهكذا أصبح البيت المعاصر يحتوي عدداً من الفراغات التي قد لا يحتاجها الساكن لينعكس ذلك في شكل سلبيات متنوعة اقتصادية واجتماعية وتصميمية وبمرور الوقت أصبحت عبئاً مالياً ثقيلاً على الساكن وكان أحد أسباب ذلك هو النقلة السريعة من البيوت التقليدية المحدودة المساحة إلى المنازل المعاصرة الحديثة دون تدرج تطويري نتيجة للتطور والنمو السريع الذي شهدته مدن المملكة بعد اكتشاف النفط وبداية تصديره، الأمر الذي لم يعط الفرصة الكافية للدراسة والتقييم، فلقد كان المطلوب تلبية احتياجات ذلك النمو المتسارع ومجاراة الحركة الاقتصادية وتلبية رغبات المواطن الذي ارتفع دخله بصورة كبيرة وتوفرت له الإمكانات فساقته رغبة جامحة طبيعية لتغيير بيته التقليدي الصغير بمنزل جديد مبني بمواد حديثة وبمساحة أكبر، كذلك كان لتأثيرات أنظمة واشتراطات صندوق التنمية العقارية الذي كان الممول الرئيسي لبناء معظم الوحدات السكنية أثر واضح في تطور وتكريس مشكلة تضخم البيت المعاصر، إذ أن الشروط التي يمليها الصندوق على طالبي القروض هي في معظمها شروط تهتم بمواد البناء وطرق تنفيذ المبنى وتفرض مساحات كبيرة للوحدة السكنية وأي خلل في تلك الشروط أو مساحات البناء قد يؤدي إلى تخفيض قيمة القرض.
إن مشكلة تضخم المنزل المعاصر وما يترتب على ذلك من آثار سلبية مستقبلاً على المواطن وعلى المدينة اقتصادياً وتخطيطياً واجتماعياً أمر يجب النظر إليه بجدية من الجهات ذات العلاقة ومن المهتمين من أكاديميين ومعماريين ومخططين. فخلال أربعين عاماً مضت اختلف مفهوم المجتمع للوحدة السكنية واختلفت في ذهن الفرد مقاييس كثيرة لما حوله من فراغات سكنية فلو قدر لأي فرد العودة إلى مسكنه التقليدي بعد فترة من إقامته في مبنى حديث معاصر فإنه حتماً سيرى أن جميع ما كان يراه في مسكنه التقليدي مناسباً ومقبولاً مساحة وشكلاً قد أصبح الآن صغيراً وضيقاً ولا يمكن العيش فيه، هذه هي طبيعة العين البشرية عند تعودها على مقياس معين لفترة طويلة من الزمن وإذا أخذنا بهذا المفهوم فإن المراحل المقبلة من حياتنا ستشهد تضخم آخر للبيت إذا لم نسع جميعاً للحد من ذلك فهناك أجيال قادمة تحتاج إلى مساكن لائقة بتكلفة معقولة تناسب دخل معظم شرائح وفئات المجتمع.
وباعتقادي فإن أهم أسباب تضخم المسكن المعاصر يعود للنقاط التالية:
- تقسيم المخططات لقطع الأراضي السكنية بمساحات تراوح ما بين 400م 2- 900م 2للمواطنين لإقامة مساكن عليها، هذه المساحة تعتبر كبيرة بالنسبة لما كان عليه المسكن التقليدي وتعتبر تلك قفزة كبيرة وليست تدريجية لمساحة المسكن إذا علمنا أن متوسط مساحة البيوت التقليدية تتراوح بين 50م 2- 200م 2للعائلة المكونة من أكثر من جيلين حيث تضم هذه المساكن في معظم الأحيان أكثر من ثلاثين فرداً للمسكن الواحد.
- ربط صندوق التنمية العقارية والذي بدأ بتقديم القروض للمواطنين مطلع عام 1395ه قيمة القرض بمساحة الأرض والمساحة المبنية مما شجع كثيراً من المواطنين على بناء أكثر من احتياجهم الفعلي طمعاً في زيادة قيمة القرض وخوفاً من تخفيضه.
- أدت الأنظمة والاشتراطات التي تصدرها البلديات بفرض الارتداد جهة المجاورين وجهة الشوارع المحيطة إلى جعل جزء كبير من الأرض المعدة للسكن شاغرة وحصر المبنى في مساحة الستين بالمائة من المساحة الكلية مختلفة عن بلادنا مناخياً تبني منازلها من مواد قابلة للاشتعال مثل الخشب فوضع نظام الارتداد لمنع انتشار الحرائق للبيوت المجاورة وليسمح بتعريض كامل جوانب المبنى لأشعة الشمس طلباً للدفء في البلاد الباردة والتي تختلف عن بلادنا مناخياً، فنحن نبني مبانينا بالخرسانة المسلحة والبلوك وهي مادتان غير قابلتين للاشتعال وتعريض جوانب المنزل للشمس مطلب غير مرغوب فيه لدينا.
- أدى غياب الوعي المعماري لدى المواطنين في بداية الانتقال إلى المساكن الحديث في بداية الثمانينات الميلادية وقلة المعماريين الوطنيين في تلك الفترة والاستعانة بالمكاتب الاستشارية الأجنبية وسرعة تطبيق الأنظمة والاشتراطات والتصاميم غير الملائمة لبلادنا مناخياً واقتصادياً واجتماعياً والمستمدة من بلدان أخرى إلى اندفاع المواطنين نحو بناء مساكن أكبر من احتياجهم الفعلي مما جعل من يليهم يستمر بنفس الأسلوب. دون أن يكون هناك تقييم حقيقي لتلك المساكن بعد استخدامها مما جعل المشكلة تستمر.
- أدى تخصيص فراغات المسكن المعاصر وتحديدها بمسميات ذات وظيفة واحدة كمجلس الرجال ومجلس النساء وصالة الطعام وصالة المعيشة وغرف النوم وغرف القراءة وغرف الملابس وغير ذلك من مكونات البيت.
المعاصر إلى تضخيم الوحدة السكنية بعكس المنزل التقليدي المبني تصميمه على عدم تخصيص معظم فراغاته وغرفه حيث كان الفراغ الواحد في البيت التقليدي يستخدم لوظائف مختلفة بحسب احتياج الساكن فقد يكون الفراغ مكانا للجلوس ومكانا للأكل ومكانا للنوم خلال يوم واحد دون الأضرار بأي وظيفة من تلك الوظائف أو بالفراغ نفسه وهذا هو الاستخدام الأمثل لفراغات البيت ومكوناته.
وسوف يؤدي تضخم المسكن المعاصر مستقبلاً إلى أمور سلبية تؤثر على المواطن وعلى تخطيط ونمو المدينة ومن أهم تلك السلبيات النقاط الآتية:
- صعوبة تملك مسكن لائق بنفس المواصفات والفراغات السائدة في وقتنا الحاضر لفئة كبيرة من المواطنين وخصوصاً للشريحة ذات الدخل المتوسط وما دونها إذا علمنا ان نسبة كبيرة من المواطنين السعوديين لا يملكون مسكناً لذا فإن امتلاك المسكن سوف يشكل مستقبلاً عائقاً يصعب اجتيازه لعدد كبير من الأسر قياساً بدخل الفرد الحالي خصوصاً وأننا نعيش الآن مرحلة دخل الفرد فيها يعتبر مرتفعاً.
- تضخم الوحدة السكنية وخصوصاً المبني بنظام الفلل سوف يقود إلى تضخم كبير لمساحة المدينة وسيؤدي إلى امتدادها أفقياً بشكل يجعل من توصيل الخدمات ضرورية كالكهرباء والماء والتلفون والمجاري أمرا مكلفاً للدولة ومرهقاً للساكن حيث ينتظر طويلاً حتى إيصال الخدمات إلى مسكنه.
- تضخم الوحدة السكنية وما يحتاجه مستقبلاً وباستمرار من تشغيل وصيانة سيقتطع جزءاً كبيراً من دخل الأسرة على حساب أمور حياتية اكثر أهمية كالصحة والتعليم وسوف يؤثر تأثيراً مباشراً على برامج الأسر الهادفة إلى رفع مستوى أسلوب معيشتهم وارتقائهم.
- ارتفاع إيجارات الوحدات السكنية كنتيجة لعجز شريحة كبيرة من المجتمع عن بناء مساكن جديدة مما يقلل العروض للوحدات السكنية المتاحة للسكن مع الحاجة إلى المساكن مما يرفع قيمة الإيجارات إلى أسعار عالية قد يجد الكثير من أفراد المجتمع صعوبة في استئجارها.
- حيث أن غالبية سكان المملكة من الشباب والذين هم في طور تكوين أسر صغيرة خلال الخمس أو العشر سنوات القادمة فإننا سنواجه مستقبلاً مشكلة إسكان حقيقية إذا لم تتعاون كل الأطراف المعنية في تيسير وتسهيل الحصول على مسكن وذلك بإيجاد الحلول التصميمية والتمويلية والاجتماعية والتنظيمية لعملية الإسكان.
أما العوامل التي أرى إنها سوف تساعد في الحد من تضخم الوحدة السكنية فمن أهمها:
- رفع الوعي الثقافي في مجال العمارة والعمران لأفراد المجتمع من خلال وسائل الإعلام المختلفة برعاية وإشراف القطاعات ذات العلاقة كالبلديات والجمعية السعودية لعلوم العمران والهيئة السعودية للمهندسين وكليات العمارة والتخطيط بجامعات المملكة. بهدف الحد من تضخم الوحدة السكنية.
- اعادة النظر في أنظمة واشتراطات البلدية كالارتداد والارتفاع ومواد البناء المستخدمة وطرح ذلك للمناقشة ضمن ندوات وورش عمل تضخم العديد من أضحاب التخصص والجهات المنظمة والمشرعة لتلك الأنظمة والاشتراطات للوصول إلى حلول يراعى من خلالها سلبيات وإيجابيات القوانين الحالية ومدى تأثيرها المستقبلي على الساكن وعلى المدينة ونموها في ضوء المتغيرات الاقتصادية وإيجاد الحلول التي تغطي الجوانب السلبية لتلك الأنظمة والاشتراطات.
- اعادة النظر وتطوير اشتراطات صندوق التنمية العقارية وخصوصاً البنود التي تربط قيمة القروض بمساحة الأرض والمساحة المبنية علماً بأن قيمة القرض المقدم الآن من الصندوق والبالغ ثلاثمائة الف ريال (إذا كان المقترض مستوفيا كافة الشروط) لا يغطي في وقتنا الحاضر سوى ربع تكلفة بناء المسكن تقريباً. إضافة إلى دراسة البنود المتعلقة بمواد البناء والاشتراطات الثانوية الأخرى والتي لا تضيف بعداً إيجابياً على المنزل إنما ترفع من تكلفته وينفذها طالب القرض ليس اقتناعاً منه بجدواها إنما خوفاً من ان عدم تنفيذها قد يقلل من قيمة القرض المقدم له.
- المنهج الأكاديمي في كليات العمارة والتخطيط في جامعة المملكة يحوي القليل من المقررات الدراسية والتي تبحث حول العمارة التقليدية في بلادنا وطرق الاستفادة منها وتطويرها كما تفتقد تلك المناهج للعلوم التي تعالج السلوك الإنساني والعادات والتقاليد الاجتماعية وعلاقتها بالمسكن كما لا يحظى تصميم الوحدة السكنية بالاهتمام الكبير لدى واضعي مناهج التصميم لطلبة العمارة رغم ان تصميم الوحدة السكنية بصورة خاصة يشكل محور عمل المعماري منذ تخرجه ويعالج تصميمها غالباً بصورة فردية بعكس المشاريع الأخرى كالمطارات والمستشفيات وغيرها والتي تحتاج إلى مجموعة عمل وإلى قرار جماعي من عدة معماريين لتحديد اتجاهات تصميمها.

.,._