بين العروبة و العروبية

[CENTER] [CENTER]

بين العروبة و العروبية

عبدالكريم هانئ

( قومجي من العراق )

حدثونا في القصص القديم عن “السلطان” الذي أراد ان يهيء ابنه للولاية من بعده فأحضر له المؤدبين على ما جرى العرف عليه في ذلك الزمان . و كان من بين العلوم ذات الحضوة (علم السيميا) و هو يختص بكشف الأستار و الحجب و معرفة الأسرار و الخفايا. و عندما أعلن المؤدبون انتهاء مهماتهم دعى السلطان حاشيته و وجوه السلطنة الى اجتماع ليرى الجميع ما اصاب الإبن من العلوم التي تؤهله للولاية القادمة عند رحيل أبيه بعد عمر طويل . و اشترك الحاضرون في الاختبار و كانوا يبدون إعجابهم بالفتى و “عبقريته” كلما اجتاز واحدا من امتحاناتهم في العلوم و المعارف المختلفة .

عندما جاء دور اختبار براعة الفتى بعلم “السيميا” أمسك أحد الحاضرين ببرغوث لعله اصطاده من لحيته , و مد قبضته أمامه سائلا إياه عما بها , و بدأ الفتى يتفحص و يحسب و يفكر كما تعلم, ثم قال في يدك شيء أسود فارتفع تكبير الحاضرين و صلواتهم على النبي إعجابا ببراعة الفتى أو نفاقا لوالده, و تشجع الفتى فقال ان “الشيء” حي و ارتفع التكبير مرة أخرى فقال الفتى بل إنه يتحرك! فلم يتمالك الحاضرون أنفسهم من فرط الدهشة والإنبهار ببراعة الفتى و معلمه , وحين أضاف بثقة : انه حيوان لم يعد السلطان قادرا على أن يتمالك نفسه أمام هذا النجاح الذي تحقق فسأل ابنه و ما هو هذا الحيوان؟ و أجاب “الأمير” باعتداد و انتصار : جامـوووسـة !!!

تذكرت هذه القصة و أنا أتابع بعض ما يدور من نقاش على صفحات الجرائد بين بعض الأخوة الكرام حول الهوية و الثقافة و علاقة مصر بالعرب و العربية و العروبة . فقد تبرع أحد الإخوان مشكورا بالقول :[ ربما وجدت عناصر تؤكد وجود ثقافة عربية سائدة فهناك بلا شك وحدة ثقافية متحققة بالفعل و أهم تجلياتها ماثلة في وحدة اللغة و اللسان و الإبداع الأدبي و الفني …كما تتشابه أنماط السلوك و بعض قوالب التفكير (تتشابه و لا تتطابق)…و ربما كان هناك تقارب في المصالح (تقارب و ليس اتفاقا).] و هكذا كان يعدد لنا بكل دقة مقومات الوحدة و مسوغاتها كما يطرحها دعاتها و نحن نتوقع ان يقول لنا بعدها: لهذه الأسباب أن الوحدة طبيعية ! لكنه اعتبر ذلك (قسرا و اعتسافا . . . لأن مقومات الدولة الواحدة أو الوحدة غير موجودة و سمات الوطن الواحد غير متوفرة) و هكذا خيب ظننا للأسف كما خيب “الأمير” ظن أبيه في القصة .

و هو لتبرير ما يطرحه يعتبر العوامل التي عددها “متشابهة” و ليست “متطابقة” و أرجو أن يسمح لي بالسؤال هل تتشابه أنماط السلوك أو التفكير أو “المصالح” بين أحياء القاهرة نفسها أو بين القاهرة و غيرها من مدن المحروسة (دعك من “تتطابق”) ؟ بل لقد ظننت عندما قرأت حديث الأخ الكريم عن محاولة إيزيس جمع أشلاء أوزيريس بعد أن مزقها الشرير أنه يسوق هذا المثال ليطالب إيزيس اليوم ان تقوم بجمع أشلاء امتنا اوزيريس الحديثة التي مزقها الأشرار , لكنه خيب ظني مرة أخرى حين قال انه مطالب (أن ننفض عن أدمغتنا أضغاث أحلامنا القديمة التي همنا فيها زمنا مع مخدر تعاطيناه لدرجة الإدمان) .

المؤلم أننا نسمع أمثال هذه الدعوات و المناقشات تمتد على اتساع الوطن العربي من المحيط الى الخليج تحت مسميات تختلف حسب حالة كل قطر و لكنها تلتقي جميعا في هدف واحد: تفتيت توجه الأمة و خصوصا أجيالها الجديدة و تسفيه الدعوة للوحدة مهما كان الشكل المقترح لهذه الوحدة و مهاجمة الداعين اليها باتهامهم بالإفراط في الأحلام و الأوهام ونعتهم بشتى النعوت , فهم “دراويش” حينا و “حشاشين” حينا آخر أو كما يحلو لأعداء العروبة أن يسموا القوميين و العروبيين “القومجية”.

ثم يقول: (ان مايطلق عليه العالم العربي منقسم في الواقع الى قسمين : قسم غني ينعم بثروات النفط و الغاز و قلة عدد السكان, و قسم فقير يعاني من مشكلات اقتصادية و اجتماعية متفاقمة و أزمات تضخم سكاني متفجر … و عرب القسم الأول ينظرون بريبة و حذر الى دعاوي العروبة التي تعني في نظرهم “إعادة توزيع الثروة” النفطية.) …أنا يا سيدي من جيل فتح عينيه على الدنيا قبل أن يكون للنفط في بلادنا شأن , لكننا شاهدنا وطننا العربي منقسما حينئذ الى قسمين أيضا: غني و فقير , يومها كانت عوامل الغنى هي الأرض و الماء و أصحاب الأرض و كانت بعض أكثر الأقسام غنى تلك الأيام تدعى الهلال الخصيب لما حباها به الخالق من وفرة هذه العوامل و زاد عليها حين وهبها طبيعة كريمة. في ذلك الزمن صدرت دعوات العروبة و القومية والوحدة العربية من أقطار الهلال الخصيب, من شامها (بمفهوم الشام القومي) و عراقها- قبل أن يصبح بلد الغاز و النفط , و استمر بهذه الدعوة بعد أن صار بلد الغاز و النفط خلال جميع العهود التي مر بها و لم ( يهربوا من مطالبات الوحدة أو الاتحاد). فالدعوة القومية كما نراها هي الحل لكل المشكلات و (الأحداث الغريبة و المدهشة للعرب الأمجاد ذوي الشأن و الشنشان) التي عددتها للقسمين , و لم تكن تلك الدعوة تطلب (من أبناء القسم الثاني أن يؤجروا لهم أوطانهم …ليعوضوا فيها مركبات النقص القديمة) فقد صدرت تلك الدعوات الوحدوية من بلاد هي أيضا (كانت ترود و تقود و تعلم حينا من الدهر) و سبق لها أن وضعت أول لبنات الحضارة البشرية, فهي لم تعان و لا تعاني من “مركبات النقص القديمة” أو الحديثة , و هو التعبير الذي آلمني أن أجد كاتبا نحترمه و نعتز به يشطح باستعماله هذه الشطحة, فنحن “القومجية” يا سيدي نعتز بـ"طيبة" و “ممفيس” و أمجادها كما نعتز بـ"تل ماري" و “كركميش” و “تل العبيد” التي نشأ فيها أول مجتمع زراعي في العالم فكان نواة أول مدينة شهدها التاريخ كما يقول المؤرخون. و نحن “القومجية” لا نؤمن بالعرقية أو العنصرية بالرغم من كل الاتهامات التي يتهمنا بها أعداء العروبة و القومية فهي بعيدة كل البعد عن الفكر القومي الذي يفيض بالانسانية , و كان مما أثار استغرابي أن أتبين في حديث الكاتب الفاضل ما يشير الى تعصب عرقي بالرغم من أنه كان يوما ما من “دراويش المد القومي” كما يقول.

الحمد لله أنه عاد له الوعي و أفاق من المخدر الذي قدمه (دراويش المد القومي العربي) و ما زالوا يقدمونه لتخدير أبنائنا كي يستمروا يحلمون بوطن واحد يجمع أشلاء أمتهم الممزقة و يصون كرامتهم و كرامتها و نقول لهم جميعا و له أيضا لعله يعود الى “خدره الناعس” نعم يا سيدي ان الوحدة هي الجنة الموعودة بمروجها الخضراء !!! و ليسمح لنا أن ننتهز فرصة عودة الوعي هذه لنطرح بعض الأسئلة: من كان يسكن الوادي عندما جاء “الفتح العربي” ؟ و من أين جاؤوا؟ و هل كان هناك نزوح من أو الى الوادي قبل ذلك الفتح؟ سؤال آخر: جاء “الفتح العربي” الى مصر في نفس الوقت الذي وصل هذا الفتح الى “بلاد فارس” و امتد الى شمال أفريقيا بعدها فكبف تفسر استمرار وجود اللغة العربية في مصر و كل شمال أفريقيا بينما لم تصمد في بلاد فارس؟ قال شاعر النيل في ثلاثينات القرن الماضي مخاطبا وفد شبيبة العراق :

هاذي يدي عن بني مصر تصافحكم فصافحوها تصافح نفسها العرب

فهل كان الشاعر بقوله هذا يدعي " بانتماء مستعار لقومية مزعومة"؟ أو هل كان تحت تأثير نفس المخدر ؟ لكننا نعلم أن الشاعر قد قال هذا قبل أن يظهر “حسن الصباح” !!

[/center]

[/center]

  [CENTER]nada kassass[/center]