حروب النبي ليست للتخريب .. د/ راغب السرجاني

[CENTER][SIZE=“3”]

المطلب الأول: توجيهات نبوية راقية

لم تكن حروب النبي صلى الله عليه وسلم حروب تخريبٍ كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يحرصون أشد الحرص على الحفاظ على العمران في كل مكان، ولو كان بلاد أعدائهم؛ فقد جاء في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد جيوشه: “‏ولا تَقْطَعَنَّ شَجَرَةً، ولا تَعْقرَنَّ نَخْلاً، ولا تَهْدِمُوا بَيتًا”.

وسار على نهجه الكريم المسلمون من بعده، وظهر ذلك واضحًا في كلمات أشدِّ الصحابة حرصًا على اتباع سنَّته، وهو الصديق -رضي الله عنه-، وذلك عندما وصَّى جيوشه المتجهة إلى فتح الشام، وكان مما جاء في هذه الوصية: “ولا تفسدوا في الأرض…”، فهذا شمول عظيم لكل أمر حميد، فالصديق -رضي الله عنه- ينهى بوضوح عن كل إفساد في الأرض أيًّا كانت صورته، وجاء أيضًا في وصيته “ولا تغرقنَّ نخلاً ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة…”، فهذه تفصيلات توضح المقصود من وصية عدم الإفساد في الأرض، لكيلا يظنُّ قائد الجيش أن عداوة القوم تُبيح بعض صور الفساد، فالفساد بشتى صوره أمر مرفوض في الإسلام.

المطلب الثاني: الحفاظ على دور العبادة

كان من السمات الرئيسية لحربه صلى الله عليه وسلم هو الحفاظ الكامل على دور العبادة سواء كانت يهودية أو نصرانية، وكيف لا وقد نزلت عليه آية كريمة تجعل أحد أسباب القتال في الإسلام هو الدفاع عن دور العبادة ولو كانت لغير المسلمين! قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40]، والصوامع والبيع والصلوات هي دور عبادة غير إسلامية، فتحددت بذلك الرؤية الإسلامية لهذه الأماكن مع كونها مخالفة للعقيدة التي يدين بها المسلمون. من هنا نفهم ما كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران مثلاً في معاهدته معهم حين قال: «… ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد رسول الله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعِهِم… وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير…».

ومن المواقف العجيبة في السيرة أن المسلمين بعد غزوة خيبر، وانتصارهم على اليهود جمعوا الغنائم، وكان فيها نسخ من التوراة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بردِّها إلى اليهود. وقد فعل ذلك مع قناعته التامَّة أن هذه التوراة محرَّفة، ومع ذلك فهو يحترم عقيدتهم ودينهم فلا يهدف أبدًا إلى إبادة هذه العقائد والأديان ولكن يسعى إلى التعايش معها برغم اختلافها الجذري معه.

كما كان اليهود أيضًا يدرسون التوراة في (بيت المدراس) في المدينة المنورة… ومعلوم بالضرورة ما كان في تدريسهم من مخالفات كثيرة لما في القرآن، ومع ذلك لم يمنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدراسة فيه.

هذا هو تعامله صلى الله عليه وسلم مع دور العبادة، وشئون العقيدة، للمحاربين له، وليقارن كل مُنصِف هذا الرقي في التعامل بما واجهته دور العبادة الإسلامية على أيدي غير المسلمين في العقود المختلفة، بل وفي زماننا هذا! فما سلم من التدمير حُوِّل إلى كنيسة! ليبقى النموذج الإسلامي في التعامل مع الغير نموذجًا فريدًا غير متكرر، لا في التاريخ ولا في واقعنا المعاصر!

المطلب الثالث: رد شبهة حرق نخيل بني النضير

يطعن بعض من لم يقرأ السيرة قراءة جيدة، أو قرأها فأخفى أشياء وأظهر أخرى لأهداف في نفسه، يطعنون في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخيل بني النضير، وأن ذلك إفساد في الأرض! ولتوضيح الصورة لمن لا يعلم لابد من معرفة القصة من بدايتها.

لقد قامت قبيلة بني النضير بخيانة عظمى للعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بتدبير محاولة اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، وهذه ليست جريمة عادية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان –فضلاً عن كونه رسول رب العالمين- رئيسًا للمدينة المنورة بكاملها، وقتله سيؤدي حتمًا لفتن ضخمة تعصف بالمدينة، ولعل نهاية المسلمين تكون بعد هذه الجريمة، وخاصة أن هذه الجريمة دُبِّرت في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة، أي بعد غزوة أحد، وحادث ماء الرجيع، وحادث بئر معونة بقليل جدًّا، وكان مجموع شهداء المسلمين في هذه الكوارث الثلاث مائة وخمسين شهيدًا، وهو عدد ضخم جدًا، لاسيما والدولة الإسلامية في بداية نشأتها…

لذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفًا حاسمًا فقرر إخراج بني النضير إلى خارج المدينة، وهذا أقل عقاب يتناسب مع الحدث، وإلا كان قتلهم بتهمة التدبير لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم أمرًا واردً، ولكنَّ بني النضير رفضوا الخروج، وأرسل رئيسهم حيي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له‏:‏ «إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك»، بل وتحالف اليهود تحالفًا شيطانيًا مع المنافقين بالمدينة بقيادة عبد الله بن أبي بن سلول، وتعاهدوا جميعًا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدًّا من القتال، وبالفعل أخذ جيشه وحاصر حصون بني النضير. استمر الحصار ستة أيام، وفي رواية خمسة عشر ليلة، وأثناء هذا الحصار كان اليهود يرمون المسلمين بالنبل والحجارة والسهام من خلف أسوار الحصون، وساعدهم على استمرار الرمي وجود النخيل خارج الحصون، فكان يحميهم، وفي ذات الوقت يعوق الرؤية للمسلمين، وصعب الموقف على المسلمين، وكان من الممكن أن يستمر الحصار فترات طويلة جدًا لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بإحراق النخيل الموجود خارج الحصون.

لقد كان الهدف من حرق النخيل واضحًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يكن يريد بحرقه الإفساد في الأرض كما يدَّعون - حاشاه – إنما أراد بذلك هدفين رئيسيين. أما الهدف الأول فهو فتح المجال للسهام الإسلامية أن تصل إلى داخل الحصون اليهودية، وتجنب الرمي اليهودي الذي كان يعتمد على الاختفاء خلف هذا النخيل، أي أن الأمر كان ضرورة عسكرية بحتة. قال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل، وهكذا كانت في بني النضير. وأما الهدف الثاني من حرق النخيل فهو استفزاز اليهود للخروج من الحصون ومحاربة المسلمين وجهًا لوجه، فالحصار صعب على المسلمين كما هو صعب على اليهود، والبقاء طويلاً أمام الحصون ليس أمرًا آمنًا، خاصة في وجود المنافقين وبني قريظة اليهودية في داخل المدينة، كما أن أمر قريش ليس مضمونًا، فقد يعيدون الكرَّة في الهجوم على المدينة بعد مصابها في ماء الرجيع وبئر معونة.

لذلك آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحفِّز اليهود على الخروج للقتال بدلاً من انتظار الأيام والشهور خارج الحصون. يؤيد ذلك المنطق عدة أدلَّة منها:

أولاً: لم يتم حرق عدد كبير من النخيل، ففي رواية قتادة والضحَّاك أنهم قَطَعُوا مِنْ نَخِيلهمْ وَأَحْرَقُوا سِتَّ نَخَلات فقط، وفي رواية ابْن إِسْحَاق قال: قَطَعُوا نَخْلَة وَأَحْرَقُوا نَخْلَة! فالعدد قليل جدًا، ولو كان القطع بغرض النكاية والتشفي، أو بغرض الإفساد في الأرض لكان المقطوع أضعاف ذلك حتمًا.

ثانيًا: أن هذا الفعل نادرٌ جدًا في السيرة، بل هي المرَّة الوحيدة التي فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو كان الهدف هو الإفساد في الأرض فلماذا لم يفعله مع غير بني النضير؟ بل لماذا لم يفعله مع بني قينقاع من قبل، أو مع بني قريظة ويهود خيبر من بعد؟ إن المنطق السليم ليؤكِّد أنه اضطر إلى ذلك اضطرارًا، وذلك لظرف عسكري كما بينَّا.

ثالثًا: فهو ما دار من حديث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود بعد حرق النخيل. فقد أرسل اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقول له: يَا مُحَمَّد، أَلَسْت تَزْعُم أَنَّك نَبِيّ تُرِيد الصَّلَاح، أَفَمِنَ الصَّلَاح قَطْع النَّخْل وَحَرْق الشَّجَر؟ وَهَلْ وَجَدْت فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْك إِبَاحَة الْفَسَاد فِي الْأَرْض؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَوَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَنْفُسهمْ حَتَّى اِخْتَلَفُوا.
إن اليهود -مع كل جرائمهم وآثامهم- يحاولون دائمًا تشتيت انتباه الناس عن أصول الأمور وحقائق الأشياء، ويحاولون دائمًا الدخول في قضايا جانبية للفت النظر عن القضايا الأساسية، وإلا فما حرق بضع نخلات إلى جوار محاولة قتل نبيٍّ وزعيم؟ وما هو حجم الفساد الذي سيحدث في المدينة إذا قُطِعَت عدة نخلات بالقياس إلى الفساد الذي سيحدث إذا قُتِل زعيم المدينة ورئيسها؟! إن حُجَّتَهم واهية جدًا، ومع ذلك فقد أثَّرت هذه الحُجَّة في نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، فشقَّ ذلك عليهم كما تقول الرواية، مما يدلُّ دلالة قاطعة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يريد فسادًا في الأرض بهذا الفعل، وهل يتأثر مفسدٌ في الأرض إذا لامه أعداؤه على قطع بضع نخلات؟!

رابعًا: على أن هذا الأمر كان أمرًا عارضًا تمامًا ولم يكن سُنَّة مطردة، بدليل أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- مع شدة حرصه على اتباع سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم - إلا أنه أمر الجيوش المتجهة إلى حرب الرومان بقيادة أسامة بن زيد -رضي الله عنه- بعدم قطع النخيل تحديدًا، ولو كان الأمر متكررًا في حياته صلى الله عليه وسلم لأمر به الصديق رضي الله عنه- ، أو على الأقل سكت عنه، لكنه قال في وضوح وحسم: “وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ”!

ألا ما أروع هذا الدليل وأحسنه!

إنَّ الصدِّيق -رضي الله عنه- يوضِّح بهذه الكلماتِ العذبةِ السياسةَ الإسلامية في التعامل مع ممتلكات العدو. إننا لا نريد فسادًا في الأرض بأي صورة من الصور، حتى لو كان هذا الفساد في أرض عدونا! ثم الدليل الخامس والأخير على براءة رسولنا صلى الله عليه وسلم من هذه الشبهة الكيدية هو دليل للمسلمين المؤمنين بكتاب الله عز وجل، ونعلم أن لا يُقنع غير المسلمين لأنهم لا يؤمنون بالقرآن أصلاً، ولكن نسوقه لكي تطمئن قلوبنا، فنتكلم ونحن واثقون من الحق الذي معنا. لقد أنزل الله عز وجل آيات تتحدث عن هذا الموضوع تطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة أن اجتهادهم في هذا الأمر كان مُصيبًا، وأن رأيهم كان صحيحًا، وأن اليهود قوم فاسقون يُضخِّمون بعض الأمور ليصرفوا أذهان الناس عن أفعالهم الخبيثة، فلا يجب أن يكترث المسلمون بذلك. قال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5]، وبذلك هدأت نفوس المسلمين واطمأنت.

إن صلاح الأرض واجب شرعي على كل مسلم يفقه دينَه، ويعلم تاريخ رسوله صلى الله عليه وسلم، والرقابة علينا في ذلك من الله عز وجل قبل أن تكون من فرد أو لجنة أو دولة! إنه من صُلْبِ ديننا أن نُعمِّرَ الأرض ونُصْلِحَها، ومن اعتقد غير ذلك فهو – ويا لخسارته - لا يعرف الإسلام!

المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.

[/size][/center]