هل الشعب المصري غير مستعد للديمقراطية بعد؟ .. دروس مستفادة من المشهد الانتخابي الحالي في مصر

للأسف لست منحازا و لا مستعدا لإجابة سريعة بنعم أو لا إلا بعد استعراض و تحليل لمختلف الآراء و المعتقدات في هذا الشأن … فالموضوع جد معقد …

و معظم الإجابات الجاهزة التي سيقت للرد علي هذا السؤال كانت منحازة في معظم الأحيان وربما عنت نفس الإجابة شيئين مختلفين تماما و عكست قناعتين مختلفتين أشد الاختلاف …

و لنتخيل معا طفلا يبلغ من العمر عدة شهور … هل من الديمقراطية أن تتركه يفعل كل ما يحب؟ … هل تتركه يضع يده في الكهرباء؟ … هل تتركه يخرج وحده خارج البيت أو تتركه يلعب بموقد البوتاجاز؟ … أعرف أن كثير منكم مستفز من أسئلتي و ربما هذا ما أحاول فعله فعلا … تشبيه مجتمع ما بطفل ينضج … و لكن لك الحق في سؤالي ومن له الحق في تحديد عمر الطفل أو بمعني أدق عمر المجتمع أو الشعب؟

أذكر أني كنت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2000 تقريبا و جاء مبارك كعادته آنذاك و أجري حوارا كعادته أيضا مع تشارلي روز المحاور الأمريكي المشهور و سأله الرجل حين إذن لماذا لا توجد ديمقراطية في مصر؟ فرد مبارك بكل براءة: ببساطة لأن الشعب ليس مستعدا بعد … (ولم يكن الإعلام بانتشار إعلام اليوم ولا حريته فلم يصل السؤال ولا الإجابة للمصريين حينئذ) … حينها قلت في نفسي ربما معك حق يا مبارك و لكن متي يكونوا مستعدون؟ وهل هم اليوم أكثر استعدادا للديمقراطية من يوم استلمت الحكم منذ عشرون عاما أم أقل استعدادا؟ لأنه اذا زادت نسبة الجهل و الفقر في عهدك فنحن إذن نسير في مسار يؤدي إلي نتيجة حتمية واحدة وهي ألا يكون الشعب أبدا مستعدا للديمقراطية … وذلك كان كذب مبارك الذي سيعلمه أمام الله حين يسقط الله كل حججه و يدحضها … (ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) … صدق الله العظيم

أما الآن فحين يقول أحدهم أن الشعب غير مستعد للديمقراطية بعد و حين ينفي آخر نفس الأمر فمن منهم علي حق؟

دعوني أولا أعرج إلي سؤال آخر قبل الرجوع لذلك السؤال … وهو … هل الديمقراطية مطلقة فعلا نحتكم إليها في كل أمورنا أم لا؟ … للأسف مضطر أن أتفق مع رأي م/ عبدالمنعم الشحات مع كل اختلافاتي معه ولكن هنا يتفق هو نفسه وهو يمثل الفكر المحافظ المتشدد مع الفكر الليبرالي في أن هناك حقوق و قيم يجب أن تحترم بغض النظر عن رأي الأغلبية … وبغض النظر عن اختلاف دوافعه عن دوافع الليبراليين أو اختلاف قيمه عن قيمهم (وربما يتفق الطرفين علي كثير من القيم و لكن تختلف أولوياتها عند الطرفين) … ولكن المؤكد أن النتيجة واحدة … وهي وجوب وجود مرجعية يرد المجتمع إليها مشاكله قبل اللجوء للديمقراطية التي يجب أن تحسم فقط المسائل الخلافية … و في حالة الفكر الليبرالي تكون تلك المرجعية دستورية (بعض المفكرين الاسلاميين أيضا يرون أن المرجعية في الاسلام مرجعية دستورية) … و في حالة فكر غالبية الاسلاميين الحاليين فالمرجعية اسلامية و أيضا دستورية … و أستدعي مثلا واحدا قبل الرجوع للموضوع الأصلي وهو كالآتي … هل لو اتفق 9 أصدقاء من 10 أصدقاء يشكلون مجتمع صغير علي قتل أحدهم … فهل يصح ذلك؟ … بالديمقراطية المطلقة يصح … ولكن بالديمقراطية المنضبطة بمرجعية تحمي حقوق الفرد و تحمي حياته و كرامته الانسانية (أيا كانت تلك المرجعية اسلامية أو دستورية) … فالأمر من البداية لا يترك لرأي الأغلبية و لكن يرد إلي حقوقه المحفوظة بقوة منظومة القيم التي تحمي المجتمع بكل أفراده و أقلياته و مجموعه …

و لذلك حين كثر اللغط حول كيف نكتب الدستور فالأمر لم يكن من فراغ … فالدستور هو تلك المرجعية التي تحمينا جميعا و تنظم علاقاتنا قبل أن نحتكم إلي لعبة الانتخابات أو حكم الأغلبية … ولذلك وجب أن نكتب الدستور معا و نتوافق عليه … وهذا هو الحد الأدني من الواجب ولا أري الاختلاف في الآلية و لا أريد العودة إلا خلاف فات أوانه و لكني فقط أحب أن أؤكد أهمية أن يأخذ من بيده الأمر (وهو في حالتنا برلماننا المنتخب إن شاء الله) كل الاجراءات التي تضمن توافق المجتمع علي الدستور و خصوصا مبادئ الدستور الأساسية (مجموعة قيم المجتمع) … وعلي الله قصد السبيل …

عودة إلي سؤالنا وهو هل الشعب مستعد للديمقراطية الآن أم لا … أظن أنه بانتزاع فتيل المرجعية فإن المناقشة الآن ربما تكون أقل حدة … و لكني أحبها أن تزداد سخونة مع ذلك … فكما أن مبارك و عمر سليمان كانا يحبان أن يصلا لاستنتاج يفيد بأن الشعب غير جاهز للديمقراطية لغرض استمرار مقاليد الحكم مع العصابة الحاكمة والتي تعرف مصلحة الشعب أكثر مما يعرف الشعب … فهناك من يستخدم عكس ذلك الاستنتاج ربما لنفس الغرض … فيقول بأن الشعب جاهز للديمقراطية وهو يعرف غير ذلك لمجرد أنه يعرف أيضا أن الظروف مهيئة لاعتلائه الحكم الآن عن طريق تلك الديمقراطية و ذلك يكون لأسباب كثيرة … منها جهل مستشري … فقر غالب علي الناس … عدم استعداد الأطراف السياسية المتنافسة الأخري للعبة الانتخابات ماديا و تنظيميا … و ربما بدلت تلك الأطراف آرائها و مواقفها لو تبدلت الظروف … و ربما بدل منافسوهم آرائهم ومواقفهم أيضا في تلك الحالة … فبالتأكيد ليس هناك حق مطلق في تلك الحالة …

ولكن فلننظر وندقق ونحاول أن نكتشف بأنفسنا و بحيادية كاملة ما هو الحق …

الحق تظهر بعض ملامحه في تلك الانتخابات كالتالي:

1- كثير من الناس (إن لم تكن غالبيتهم) فعلا افتقدوا وجود بدائل للمرشحين و كثير منهم لو كان الأمر لهم فعلا لاختاروا أن تقام الانتخابات كلها بالنظام الفردي و ليس القائمة حتي يستطيعوا أن يختاروا من يعرفون كفاءته ونزاهته وأن يكون مشهودا له بذلك من أهل الثقة الذين يعرفونهم جيدا. ولو أن هناك من يدعون للثقة تماما باختيارات الشعب و اطلاق يد الأغلبية و استفتينا الشعب علي النظام الانتخابي لكان الشعب بالتأكيد اختار النظام الفردي و ليس القوائم أو المختلط … علي ما بذلك من عيوب و استدعاء للنظام الانتخابي القائم علي العصبيات و المال وخلط الدور الرقابي و التشريعي لنائب الشعب مع الدور الخدمي لعضو أجهزة الرقابة المحلية.

2- كثير من الناس فعلا كان محتاج لمساعدة و غالبية الشعب لم يختار بصورة مستقلة ولكنه لجأ إلي صديق أو أخ أو أي طرف موثوق به لمعرفة من ينتخب … و بالتأكيد هناك من ذهب للصندوق وهو ينشد المساعدة من أي شخص يجده هناك.

3- مازالت هناك عصبيات قبلية و عائلات يقرر كباروها لكل أفرادها من ينتخبون وهذا المشهد لا تجده فقط في الأرياف و لكن تجده أيضا في أعماق العاصمة.

4- بالتأكيد مازال كثير من الناس يفكرون بطريقة من سيفوز لنعطيه صوتنا أو من سيأخذ الأغلبية فنعطيه صوتنا وليس بطريقة أنا أثق برأيي و أثق في ذلك الشخص أو ذلك الحزب فسأعطيه صوتي حتي و إن لم يفز.

5- أكثر من 40% من الشعب لم يصوت أساسا و لم يستخدم حقه في اختيار من يمثله

6- بالتأكيد لو أن كثير من الأحزاب تثق بنضج الناخب و استقلال رأيه و قدرته علي الاختيار لما طاردوه حتي قبل ادلاء صوته بثوان معدودة و لما وجدتهم يحاولون التأثير علي رأيه أمام اللجان الانتخابية ولما خافوا من مماراسات منافسيهم المماثلة

7- ورغم كل ذلك فإن الوعي الجمعي للشعب قد لقن الفلول درسا وهزمهم شر هزيمة و ان كانوا في مجموعم قد أخذوا أصواتا ليست بالقليلة.

من تلك الملاحظات و اضافة ملاحظة صغيرة عليها وهي كالتالي: إن مبارك نفسه علي كل ظلمة واستبداده وفساده كان يفوز في انتخابات تبدو نزيهة وكان كثير من نواب الحزب الوطني يفعلون … وكما لجأ المجلس العسكري للعبة الاستفتاء الشعبي علي شرعيته في خطاب طنطاوي الأخير فيعلم كثير منا أنه لو تم ذلك الاستفتاء لمبارك فربما حاز ثقة الشعب وتم اعدام الثوار حينئذ في ميدان عام بمباركة أغلبية الشعب. فإننا نستنتج إذن الآتي:

1- أننا حين نناقش مسألة الديمقراطية فإنه لا يجب أن يزايد بعضنا البعض علي مفاهيم مثل أنت تدعي الديمقراطية ولكنك لا تثق باختيارات الشعب … فيجب أن تتناقش وأن ننفتح علي بعضنا البعض بدون تخوين أو استغلال لمصطلحات أو مفاهيم نسبية تكون في مصلحتنا في بعض الأحيان. ففي أحيان أخري ستنقلب تلك المفاهيم النسبية وتكون ضدنا فنظهر وقتها بمظهر المنافقين الانتهازيين. و بالتالي فحين نتناقش كقوي سياسية وطنية حول مسار الاصلاح الديمقراطي مثلا أو حول قرار مصيري في المستقبل و كيفية اتخاذ القرار و آليته فيجب اعلاء مصلحة الوطن و التفكير بصوت عال بدون تخوين حول الخيار الأنسب و الأصلح للوطن و الآلية الأفضل لاتخاذ ذلك القرار.

وفي النهاية فالديمقراطية وسيلة وليست غاية في حد ذاتها. وسيلة لجعل الشعب هو السيد و الحكم و أن تدار ثروات وموارد الدولة لصالحه فقط. وحتي الديمقراطية كمفهوم مطلق من الممكن أن يتحقق بآليات متعددة فربما اكتفي الشعب بانتخاب ممثليه المحليين (أعضاء الأجهزة المحلية) ثم انتخب هؤلاء نواب الشعب ثم انتخب نواب الشعب الحكومة. فالإختلاف جائز جدا في تطبيق الديمقراطية. فربما لا يكون الاقتراع المباشر لاختيار كل السلطات هو الحل الأمثل أو الوحيد و الشاهد علي ذلك اختلاف طرق تطبيق الديمقراطية في الديمقراطيات المختلفة حول العالم. ولا يعني اختلافها أن أحدها أفضل من الأخري.

2- أن الانتخابات أو الاحتكام لصناديق الاقتراع هي الوسيلة الأفضل من بين خيارات أفضلها سئ حين لا تستطيع القوي السياسية الوطنية أن تتوافق علي ما فيه خير الوطن بدون نزاعات و عدم تحمل للمسئولية و اللحظة التاريخية. ففي كثير من الأحيان لا يريد الشعب فعلا أن يرد الأمر إليه و لا أن يفتي فيما لا يعلم ويود لو توافقت القوي السياسيه علي ما فيه مصلحته. غير أن هذا بالطبع لا يعني أن لا يحتفظ الشعب لنفسه بحق الاعتراض ان لم تكن الاختيارات و القرارات الناتجة تصب في مصلحته في النهاية.

و أكاد أجزم أن لو كان قد حدث هذا التوافق في كتابة الدستور بعد سقوط مبارك مباشرة ما وجدنا أي اعتراض من الشعب و تعرف كل القوي الوطنية ذلك حتي من قالوا بغير ذلك و الدليل اتفاقهم الأخير مع المجلس العسكري علي كتابة الدستور خلال شهر واحد رغم ادعائهم في البداية أن كتابة الدستور عملية طويلة جدا وقد تأخذ سنوات لا شهور.

3- أن الديمقراطية الحقيقية لها شروط تسبق الاحتكام للصناديق مثل توعية سياسية حقيقية للشعب عن طريق وسائل الاعلام الرسمية للدولة, حرية المعلومات, توافر فرص متكافئة للإعلان والدعاية الانتخابية, اهتمام الدولة بتوفير حقوق المواطنين الأساسية من تعليم و حاجات أساسية تحقق أدني مراتب الكرامة الانسانية للجميع حتي لا تكون تلك الحاجات عنصر للمساومة علي أصوات المواطنين الانتخابية. فربما فاز مبارك وجنوده بأصوات الناخبين حين لم تتوفر تلك الشروط بتاتا و ربما يفوز المجلس العسكري باستفتاء من هذا القبيل طالما الآله الاعلامية الجبارة للدولة تزيف الحقائق وتذكر المعلومات منقوصة ومشوهة.

و أنتهي بالآتي … ربما لو كانت القوي السياسية اختارت التوافق لحصلنا علي نتائج أفضل مرات و مرات مما نجنيه الآن من العملية الانتخابية. فلو كانت القوي السياسية فقط توافقت علي الغاء نسبة العمال و الفلاحين بدلا من التقاتل علي مدي شرعية نعم أو استحقاق لا في استفتاء التعديلات الدستورية الأخيرة … لكان لكل شخص محترم خاض الانتخابات ضعف فرصته في الفوز بالمقعد … و الكل يشهد علي فشل معظم القوي السياسية باستثناء الإخوان تقريبا في ايجاد كوادر تخوض المعركة الانتخابية كعمال أو فلاحين … حتي أن في معظم الدوائر أمامك أحد خيارين إما أن تصوت للإخوان أو للفلول

و علي ذلك فإني مستريح الضمير أستطيع أن أقرر أن سؤالا بهذا المعني (هل الشعب المصري مستعد للديمقراطية؟) هو سؤال خاطئ أو غير مفيد فكل الشعوب مستعدة بالتأكيد للديمقراطية … ولكن السؤال الذي نرجو أن تكون الإجابة عليه بالإيجاب في المرحلة القادمة هو … هل تمتلك النخبة السياسية المسؤلية والوعي الكافي لقيادة شعبها ولتطبيق مفاهيم الديمقراطية وليس مسمياتها لمصلحة شعبها؟

فأرجوكم كفي شعارات و كفي صراعات علي أسماء سميتموها أنتم و آبائكم ما أنزل الله بها من سلطان … ولنركز جميعا علي الهدف وعلي أصول الأشياء … و ليكن الله هو مقصدنا جميعا و صالح الوطن …

و لله الأمر من قبل و من بعد … و كل انتخابات و أنتم طيبون …

هاني الجمل
السابع من ديسمبر 2011

صدق الله العظيم