حد الفرية ... حِكَمٌ وأحكامٌ

كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
أثار السجال الإعلامي المتبادل بين د. سيد طنطاوي شيخ الأزهر وبين الصحفيين - بمناسبة مطالبته بتطبيق حد الفرية على الصحفي الذي لا يأتي ببينة على ما يقول من أخبار- حالةً من اللغط حول هذا الحد من حدود الله.
وبعيداً عن مدى صحة ما ينسب إلى شيخ الأزهر من تصريحات، وهل صرح بذكر الصحفيين أم أن هذا ما فهمه البعض من فحوى كلامه؟ وهل تراجع -كما تنسب إليه بعض الصحف- أم أنه مصر على رأيه -كما ينسب إليه البعض الآخر-؟؛ فإن الملاحظ أن الذين ناقشوا شيخ الأزهر من الصحفيين لم يقصروا مناقشتهم على شيخ الأزهر، ولم يقصروا اعتراضهم على أن شروط حد القذف لا تنطبق هنا، بل تجاوزوا ذلك إلى درجة بلغت المساس بالحكم الشرعي من أساسه أو غموضه على الأقل لدى كثير من القراء لاسيما مع الجهل بأحكام الشريعة الغراء. وليت هذه الجهود كانت قد صرفت إلى تعليم الأنام أحكام دينهم من عبادات ومعاملات وحدود وغيرها، ليعرف الناس دينهم ويسعوا إلى أن يكون مطبقاً عملياً في حياتهم على جميع مستويات التطبيق الفردية والجماعية.
ولذلك كان لابد من هذا التعليق والذي نجمله في النقاط الآتية:
أولاً: شَرَع الله -تعالى- الحدود الزاجرة عن اقتراف الكبائر والمنكرات التي تستهوي النفوس الضعيفة، والتي في ترك فاعلها بغير عقاب فسادٌ لنظام المجتمع بأسره، ولذلك شرع الله العقوبة الدنيوية الزاجرة في شرب الخمر، ولم يشرع مثل ذلك في أكل الميتة وأكل لحكم الخنزير مع أنهما محرَّمان إلا أن الشهوة الداعية إلى شرب الخمر مع اقتران ذلك بالمفسدة المتعدية غالباً كان له أثر في تشريع الحد الدنيوي في أمر الخمر، بينما اكتفى بالزاجر الأخروي في سائر الأطعمة والأشربة المحرمة.
ثانياً: إن تحديد الجرائم التي تحتاج إلى مثل هذا الزاجر أمر يحكم الله فيه ما يريد، فهو الرب، ولا رب غيره، وليس لأحد أن يحكم في دماء وأعراض عبيده سواه.
ومع ذلك تجد أن أصحاب الفطر السليمة يدركون من علل ذلك الشيء الكثير، ولكن معظم البشر لا يسلمون من الهوى فتجد الواحد منهم متشدقاً بالحرية وما يشابهها من الكلمات، فإذا اعتُديَ عليه في جريمة رأى أنها تستحق أقصى عقوبة، وإذا كان هو الجاني ربما لم ير في جريمته ذنباً أصلاً.
ولعل هذا يفسر حالة الشد والجذب بين شيخ الأزهر الذي أوحى للسامعين بأنه ليس مجرد عالم يبين ما علمه أو ظنه من دين الله، بل إنه بحكم وظيفته يمثل طرفاً رئيسياً في الخصومة وهذا مما ضاعف من نقد الناقدين، بينما يرى كثير من الصحفيين أن الأخبار الكاذبة والشائعات وغيرها هي جزء من أخطار المهنة يجب ألا يحاسبوا عليه أصلاً.
وضاعت بين الطرفين كلمة القصد والعدل، وهي أن الكذب جريمة والقذف جريمة، لكن الله شرع الحد في الثانية دون الأولى، كما شرع الحد في شرب الخمر دون أكل لحكم الخنزير، كما أن إشاعة الفسق والفجور والمجون جريمة ثالثة غابت عن الذكر في خضم هذا السجال مع اشتغال كثير من الصحفيين بها، ومع أنها تستوجب في دين الله التعزير على أقل الأحوال.
ثالثاً: أن حد القذف ثابت بنص كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأجمعت عليه الأمة لقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:4-5).
فالحذر كل الحذر من تجاوز مناقشة شيخ الأزهر في مدى انطباق وصف القذف على الصحفي الذي ينشر خبرا كاذبا إلى التهكم على حكم الله -تعالى- الثابت بنص القرآن!!
وهل يستطيع من يفعل ذلك بعد قراءة هذه الآيات أن يدعي إيمانه بالقرآن؟
رابعاً: أن الحكم المذكور لا يدخل فيه الكذب في الأخبار الذي لا يتضمن الرمي بالفاحشة، ولا يتضمن كذلك الشتم والسب الذي لا يتضمن قذفاً بالفاحشة حتى ولو رماه بالكفر، وإن كان كل ذلك محرماً، ولكن الله لا يشرع الحدود إلا فيما لا يمكن زجر فاعله إلا بالحد، ومن المعلوم أن في كل أنواع السباب والشتم - حتى الرمي بالكفر ذاته -، يمكن لمن سُبَ أو شُتِمَ أن يثبت كذب الشاتم بأن يحافظ مثلاُ على شعائر الإسلام في حالة الرمي بالكفر، ولكن في أمر الأعراض فنظرا لخفاء أمر الفاحشة، ولتساهل الناس في نقل أخبارها ناسب أن يشرع الله تلك العقوبة الزاجرة كما أفاده العلامة ابن القيم في “إعلام الموقعين”.
خامساً: قال القرطبي: "والضرب الذي يجب تنفيذه هو أن يكون مؤلماً لا يجرح، ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه"
وقد اتفق العلماء على أن يتقي بضربه الوجه والعورة والمقاتل، على أن يكون عدد الضربات موزعاً على سائر الأعضاء بينما يرى الإمام مالك أن الجلد يكون في الظهر وفقط، لقوله -صلى الله عليه وسلم- لهلال بن أمية لما قذف امرأته: (بينة أو حد في ظهرك).
ويمكن الجلد بالسوط ما لم يكن جارحاً أو مفرطاً في الألم، وكذا بالجريد والنعال كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك.
وللفقهاء تفصيلات كثيرة في هذا الباب، وإنما أردنا التنبيه على ذلك لما شاع في كلام كثير من الصحفيين من أن الصحفيين سوف يجلدون - وفق هذه الفتوى - بالسياط السودانية المنقوعة في الزيت، إلى آخر هذه الأقوال التي تقال غالباً من باب المبالغة، ولكن لأن معظم القراء لا يعرفون الحكم الشرعي أصلاً ربما توهموا أن هذا من الأمور الشرعية، أو أنه على الأقل من كلام شيخ الأزهر، وهو في نهاية المطاف لا يمثل إلا كلمة قالها قائلها مبالغة أو تهويلاً وهو لا يلقي لها بالاً، وربما أضل بها غيره من حيث يدري ومن حيث لا يدري.
ولا يعني هذا أننا نؤيد ما ينادي به بعضهم من أننا طالما اخترنا النظام الديمقراطي فلابد من قبول كل معطياته، ومنها حرية الصحافة شبه المطلقة ضمن طائفة كبيرة من الحريات التي ينادي بها الغرب، لأننا ببساطة لم نختر النظام الديمقراطي ولا غيره، ولم نرض عن الإسلام بديلاً عقيدة وشريعة.
ولعل قائلاً يقول فما الذي دفعكم إلى الدخول إلى معترك يتفق اللاعبون فيه من حيث المبدأ على الحفاظ على الديمقراطية والحرية؟
قلنا ذكَروا حداً من حدود الله فأردنا أن نعظم شعائر الله، وأن نبين حدود الله، معذرةً إلى الله -تعالى-، ولعل أحداً أن يقرأ فيعي أن السعادة كل السعادة في تطبيق شرع رب العالمين وأحكم الحاكمين كاملاً نقياً غضاً طرياً دونما ترقيع أو تغيير.
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف